الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

المدى الديناميكى العالى و فن الظهور


الألوان لا حصر لها ،فكل لون بخلاف الالوان الاساسية يتكون من مزيج من ألوان أخرى بنسب مختلفة ،و نتيجة هذا الخلط العشوائى ينتج عدد لا نهائى من الألوان الممكنة!
و مهارة وسائل التصوير و تخزين الصورة فى اختزان اكبر قدر من الالوان المختلفة ،و تعتمد جودة و سطوع الصورة على مدى ما تحمله من تباين فى الألوان.
و لأن مناطق التصوير تشمل المناطق ذات الظلال (أو الإظلامdark tone- ) و الإضاءة المتوسطة (half tone ) و الإضاءة العالية فإن بعض أجزاء الصورة سوف تفقد وضوحها بسبب الإضاءة القليلة المعرضة لها.
لهذا ابتكر المصورون طريقة جديدة فى التصوير تكون من نتائجها إظهار كل المناطق متباينة الإضاءة بنفس درجة الوضوح بحيث تبدو الصورة النهائية واضحة فى جميع أجزائها (و قد تبدو كما لو كانت معدنية) مما يعطيها شكلا جديدا متميزا و يعطى للألوان قوة و ثباتا ،و تعطى للأشياء ملمسا كما لو كانت بارزة.
تعتمد تلك التقنية - و التى يسمونها (المدى الديناميكى العالى) HDR- ببساطة على التقاط عدة صور لنفس المشهد بدون أى تغيير سوى فى كمية الضوء الذى تتعرض له الكاميرا (قيمة التعريض) ،و يجب على الأقل التقاط ثلاث صور أحدهما بالتعريض الصحيح ،و واحدة بتعريض أعلى درجة من التعريض الصحيح (Over Exposed) و الثالثة بدرجة أقل من التعريض الصحيح (Under Exposed) ،ثم تم دمج تلك الصور معا فتحصل على صورة جديدة براقة مدهشة واضحة المعالم فيها تجديد كثير عن الصورة الأصلية مع جمال ألوانها و بروز تفاصيلها.
يتم الدمج عن طريق برامج تحرير مساعدة خارجية أو فى الكاميرا نفسها ،و قد تقدم الكاميرا إمكانية التقاط المشاهد ذات التعريضات المختلفة بسرعة اتوماتيكيا. و إذا لم تتوفر فيها تلك الخاصية (Braketing of ABE) فيجب استعمال حامل لضمان عدم اهتزاز الصور و محاذاتها عند دمجها.
أرى الطريق صباحا و أنا فى طريق عملى ،الشارع يتخلله ضوء الصبح الهادئ الجميل ،و أراه عند عودتى ظهرا يئن من شدة الإضاءة و الحر الثقيل ،و أراه وقت الأصيل و أحيانا فى ظلام الليل. و بالرغم من كونه شارعا واحدا إلا أننى أشعر فى نهاية اليوم أنى تجولت فى الكثير من الشوارع و الميادين ،الاختلاف كان فى الإضاءة و ان كان المكان واحدا بلا تغيير.
و قد يكون الغرض من تلك التقنية التجديد فى رؤية الصورة ،و اعمال مبدأ المساواة فى الظهور ،عن طريق إعطاء كل عنصر الفرصة فى الظهور بوضوح حتى و إن كان المتاح له من الضوء كمية بسيطة لا تكفى لوضوح معالمه.
تتضمن عملية الدمج توازن الإضاءة من خلال إعادة توزيع الضوء لتتسرب شدة الضوء من الأشد للأقل فتخلق نوعا من التعادل اللونى الذى يضفى وضوحا و بهاء و رضا و إعجابا بالصورة.
و هذا أشبه بمن يدخر من أمواله فى وقت الرخاء لينفعه وقت الحاجة إليه عندما تنقص الموارد و يقل الدخل، فالزائد عن حاجته اليوم يحميه وقت الشدة غدا ،فتكون النتيجة أن تمر الأيام بسلام دون أن يغرق الإنسان فى الهم و لا يظهر على وجهه سوى ملامح الألم.
إن هذه التقنية البسيطة تعطى نتائج مبهرة لمن يحسن اختيار المشاهد المناسبة ؛فلو لم يكن هناك تباين فى الإضاءة و اختلاف فى نغمات الألوان لعناصر الصورة لما كان هناك داع لتلك الطريقة ،فهى تلائم بعض المشاهد فقط حتى لا يصبح تكلفا لا يفيد الصورة و لا يقدم لها جديدا.
الوضوح و سطوع الصورة غاية و أمل من يبحث عن الحقيقة ، و التصوير يساعد فى البحث عن الحقيقة فى شكل جمالى مؤثر يراه القلب و يشعر به قبل أن تترجمه خلايا العين إلى أشكال و ألوان ،فيبقى الاحساس فى النفس و يدوم.

 

الخميس، 29 نوفمبر 2012

الماكرو و فن التقريب

مازالت فنون التصوير و طرقه الكثرة تسر الناظرين ،و تطرب السامعين من شدو الطيور التى صورها ابداع المصورين..و تقتحم المجهول بحثا وراء الجمال و ما لم يرسمه بعد الخيال.
 
و اذا كانت للعين البشرية حدود فى الاقتراب من الأشياء كى تستطيع رؤيتها ، ففى فن الماكرو تتغلب العين على تلك القيود و تستطيع باستخدام تقنيات و عدسات خاصة أن تقترب و تقترب ،و تكبر أمامها الأشياء و تتضخم..كل هذا يتم بدقة عالية و وضوح تام..ما أجمل الحياة التى ليس فيها مستحيل!
إن هذه الطريقة فى التصوير قد تتسبب فى ابراز الحشرات بشكلها غير المبهج ،و بشكل مخيف و مقزز ، فالاقتراب الشديد قد يظهر ما كان خفيا من القبح ،و تلك مهارة الفنان ألا يجعل هدفه تسجيليا و علميا فقط ، بل يراعى معايير الجمال فى عمله فيستخدم الشفافية و تناسق الألوان و الخلفية الهادئة الطبيعية حسب مقتضيات الموضوع.
عنكبوت ثائر..نملة شامخة.. ذبابة كلها عيون..فراشة باسطة جناحيها فى رشاقة فوق الزهر.. كل ذلك نماذج من موضوعات حية لتصوير الماكرو، و ما بين قطرات الندى العاكسة و أوراق الورود الحالمة تتشكل سيمفونيات بديعة من الالوان و الظلال و المعانى الجديدة التى تتعدى كون الصورة تكبير للواقع و ما تشاهده العين المجردة.
و لا يستدعى مثل هذه التصوير بالضرورة النزول إلى مقر الحشرات و اقتحام مساكنها و بيئتها ،بل من السهل و من الأفضل استضافة تلك الحشرات أو الورود فى الاستوديو أو المنزل مع عمل التجهيزات الفنية البسيطة المناسبة ،و أهمها ضبط الإضاءة – إذ تقل الإضاءة كثيرا مع طول العدسة اللازم للتقريب – كما أن الضوء ضرورى لإظهار كل معالم الموضوع بوضوح شديد.
و يتم تجهيز خلفيات مناسبة من لوحات ذات ألوان متناسقة هادئة و قد تحاكى المناظر الطبيعية ،فالخلفية فى النهاية سوف تظهر ضبابية كقاعدة عامة فى تصوير الماكرو لعدم التشويش على موضوع الصورة ،فيجب عمل عزل قوى للموضوع عن الخلفية لإبراز الموضوع و التركيز عليه و عدم تشتيت العين ،فلا يتبقى من الخلفية سوى طيف ألوان لطيف أو ما يشبه أوراق و فروع الأشجار. و تتم إضاءة الخلفية ايضا بشكل معين.
و هذه الصورة النهائية المبهرة لا تأتى من لقطة واحدة بل تتشكل من دمج عدة صور كلٌ منها تركز على جزء من الموضوع الكبير الذى يشغل معظم المشهد ،و هكذا حتى تتم تغطية كل الأجزاء المطلوب ابرازها ،مع تثبيت الكاميرا على حامل لضمان عدم الاهتزاز حتى لا تفقد الصورة تركيزها و حدتها.
يتم التركيز على جماليات المخلوقات و اظهار شفافيتها و دقة خلاياها و ملمس الجلد و الشعر و الأقدام ،فهذا الضفدع المكبر يقف بدلال لتظهر خلايا جلده و ألوانها الرائعة ،و يقوم الضوء الخلفى بإظهار قدميه كأنها شيء رخو لين تكاد ينبثق الدماء منه و توشك أن ترى نبض قلبه و مسار الدماء فيها.
تجسيد الكائنات يعطيها حيوية و رشاقة و قوة أيضا ،فهذه المخلوقات ليست ضعيفة ،إنها تقف بثبات ،أو تستند برشاقة على النبات ، تفكر .. تخطط و تمتلك آليات التحكم و التكيف مع ما حولها من طبيعة. إنها تفتخر بنفسها ، ربما لو كان لديها الاحساس البشرى و نطقت لتمسكت باقتناء مثل هذه الصور فى جحرها أو أعشاشها لكى تزهو بها بين أقرانها!
إن الهدف من التقريب هو البحث عن الحقيقة ،فقد سعى العلماء منذ قديم الزمان لعمل الطرق التى تمكنهم من التكبير لدراسة المخلوقات و تشريحها و باقى الأغراض العلمية ،و البحث عن الحقيقة يتطلب من الإنسان أحيانا الاقتراب الشديد كما فى حالة الماكرو ،أو الابتعاد الكبير للحصول على رؤيا شاملة كما فى البانوراما ،و إجمالى كل هذه المحاولات و الالتفاف حول موضوع الصورة هو المعرفة الشاملة و الاقتراب من حقيقة و معانى الاشياء من خلال ما تتركه هذه الصور من انطباعات فى نفس الرائى.و ما تقدمه من صورة ذهنية للموضوع فى شكل جمالى متميز.
ما أجمل التصوير تارة نقترب (ماكرو ) و تارة نبتعد (لاندسكيب) ، تارة نثبت و تارة نتحرك (بان)،تارة نظهر الألوان و تارة نطمسها(ابيض و اسود)، تارة نركز على شيء و تارة نجعله ضبابيا غير واضح ،كل ذلك فى سبيل توصيل الفكرة و إظهار الحقائق.
و الابداع فيها هو تقديم ما هو جميل ،فليس معنى الاقتراب أن تظهر كل شيء حتى لو كان سيئا لمجرد إظهار براعة العرض و الوصول فقط ،بل تصوير المشهد بما يشبه اللوحة الفنية التجريدية. إن جمال المفاجأة هنا يأتى من التساؤل عن ماهية موضوع الصورة و كيف تم التقاطها ،و الانبهار بأن هذا ما نشاهده فى الطبيعة و لا ندرك أن تفاصيله بمثل هذا الاتقان و الدقة ،فتبارك الله رب العالمين الذى خلق فسوى و اتقن كل شيء خلقه ،و تلك فائدة أهم لتصوير الماكرو : تسبيح الله و التدبر فى مخلوقاته.
و تصوير الحشرات و الكائنات الدقيقة تتطلب دراسة تلك الاحياء و صفاتها و خصائصها ،فإن ما يتم تصويره سواء نبات أو حيوان أو حشرة يتطلب تتبعها و معرفة سلوكها لتيمكن المصور من تخمين حركاتها القادمة و تتبعها و الاستعداد لها. و تسهل عليه التعامل معها و استدراجها للوقوف أو الحركة أو التقاط شيء كما يخطط لتصويره و تجسيد معيشتها فى شكل قصة و مشاهد تبين أساليب معيشتها وسط بيئتها كأنها عالم من البشر.
و فى القرآن الكريم "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" الأنعام (38)
و فى آيات أخرى ذكر مجتمعات النمل و أسراب الطيور و جماعات النحل و تلك العوالم الخفية التى تتفاهم معا بلغتها الخاصة ،و تتحد و تتعاون كمجتمع ناجح محكم البنيان.
و شرَف الله تلك المخلوقات و أعلى ذكرها فسميت سور كثيرة بأسمائها و صفاتها ،مثل سورة النحل و النمل و الصافات و الفيل و البقرة و الأنعام ،حيث تناولت تلك السور إيحاء الله لها بما تقوم به و يحفظ لها معيشتها ،و هديه لها لتتحقق منظومة الحياة و تكتمل كما أرادها خالقها ،و تبين إعجاز الله سبحانه فى الخلق البديع الرائع ليدركها من كان له عين تنظر أو قلب حى يرق.

الخميس، 22 نوفمبر 2012

البانوراما و فن الرؤية الشاملة

البانوراما هى أحد أنواع التصوير الفوتوغرافى ،و تعتمد على مسح المكان بعدة لقطات بينها عامل مشترك بين كل صورة و التى تليها ،و تسمى نقاط مفتاحيه لربط الصورتين المتتاليتين ،و قد يتم أخذ اللقطات رأسيا أو أفقيا ، و قد يتم أخذها من منظور واحد أو منظورين ،و قد تتم بشكل مسح أفقى فيتحرك المصور و معه الكاميرا من الشمال إلى اليمين ليمسح المكان أفقيا.
ثم يتم دمج هذه الصور معا للحصول على صورة نهائية متكاملة تضم تلك الصور معا بحيث لا يبدو أنها مركبة ،و كلما كان التصوير بعيدا عن مركز الصورة كانت تشوهات الصور أقل، و أصبحت الأبعاد اكثر استواء و اعتدالا.
كما يمكن استخدام بعض برامج الحاسوب للصق بداية البانوراما بنهايتها (إذا كانت الصور ملتقطة بشكل متتابع بزاوية 360 درجة أى أن صورتى النهاية و البداية تلتقيان فى المشهد الأخير) فتبدو الصورة فى شكل كرة أرضية ،كأن الرائى يقف على كوكب آخر يلتقط الصورة التى تنتشر حول الكرة الأرضية ،فى شكل فانتازيا بديعة.
  


من وجهة نظر فلسفية تعتبر صورة البانوراما فى شكلها الأخير كالحياة و مشاهدها ،فالحياة لا تفهمها إلا من خلال الرؤية الواسعة الشاملة ،التى تنظم حلقات الوصل بين الأحداث و المشاهد و تجيد فن التحليل و خلق الروابط و التلاحم بين الأجزاء المفككة و التى تبدو منفصلة لكن بينها خيط رفيع تحسه و تلمسه إن أمعنت الفكر و ركزت مع الحقائق.
جمال البانوراما يأتى من الرؤية الشاملة كأن الدنيا حلقات مرتبطة ببعضها لا تدرك حكمتها و لا جمالها إلا إذا وصلت الأحداث ببعضها ،و ربطت بين الماضى و الحاضر لتتأهب للمستقبل و تعمل له و تتوقع ما قد يواجهك.
إن الرؤية البانورامية تمنح الانسان الرضا لأنه يرى كأنه فى موقع الحدث ،فيحرك رأسه يمنة و يسرى حتى تكتمل الرؤية لديه ،مع الوضوح الكامل لكل جزء من أجزاء الصورة فيمكنك التكبير و رؤية ما تشاء من التفاصيل ،و التحرك عبر الصورة بحرية كأنك هناك فى المكان تتحرك فيه و تستكشفه...
فن التصوير ليس فقط التقاط الصورة بل هى فلسفة اختيار اللقطة و ما تعنيه من فكرة و إحساس ، و تنجح الصورة إذا نجح المصور فى نقل فكرته و ما يريد قوله إلى المشاهد ، مثلها مثل أى رسالة اتصالية، معيار نجاحها فى وصولها للمتلقى كما أراد المرسل و عبر ما يناسبه من وسائل الاتصال و بأقل قدر من التشويش.
و كلما كانت الفكرة غنية و جديدة و مبتكرة كانت أروع و أثبت فى قلب المشاهد ،و البانوراما وسيلة مساعدة لحواس الإنسان تكملها كأن عينه كروية (مثل السمكة!) ،قد تكون مضحكة أو مبهجة لكن الأجمل هو التجديد فى التقاط صورة ثنائية أو ثلاثية الأبعاد بطرق مبتكرة فتكون مثيرة للفكر و الجدل.

 

الأحد، 18 نوفمبر 2012

كلهم يبكون

نصيحة إلى كل اب..لا ترسل أطفالك كلهم إلى نفس المدرسة ،فحوادث الطرق أصبحت العادى و النجاة منها هو الاستثناء!

لا تضعهم جميعا فى نفس الشاحنة فقد يصدمها قطار الموت فلا تجد إلى أولادك سبيلا..

دموع تسيل و رأس تميل و عقل لا يصدق.. هذا مستحيل.

كل أب له ابن اسمه فارس و كل ام لها ابن فى الصف الرابع الابتدائى أو لديه كراسة خط عربى ،كل ام لها أبناء فى المدارس الأزهرية ،كل شخص يستقل القطار و يمر بمنفلوط حيث حدثت الكارثة - كارثة تحطم اتوبيس مدارس تحت جرار قطار مسرع فى مزلقان المندرة بمنفلوط فى أسيوط - سائقو القطارات المذهولون بما يسببه هذا الوحش الكاسر الذى تسوقه أرجلهم و ايديهم فينقض بعنف ووحشية و يمزق أجساد البشر فى دقائق معدودة...كلهم يبكون.

كل مدرس فى المدرسة التى ضمت شهداء الحادث و كل زميل لهم ،و المصابون الذين تدمرت أجسامهم و نفوسهم و وودعت السعادة و البراءة طفولتهم من هول ما شاهدوه و عاشوه..كلهم يبكون.

كل بائع حقائب و أحذية يعرض حذاءا مشابها لحذاء الطفل البرئ الذى وجدوه بين حطام الحادث و حقيبة عليها ورود لا تعلم أنها ورود نعش الصغير الذى تمزقت أجزاء جسمه و تناثرت دماؤه على القضبان و بين ثنايا الحصى الصغير أسفل القطار...كلهم يبكون.

كل سائق لحافلة تضم أطفالا ينطلق بهم صباحا يحمل أمانة فى عنقه توصيل الكثير من الأطفال و يسعى أن يصل بسرعة قبل أن يدق الجرس أو يتعرض لتأنيب مدير المدرسة ، و كل مشرفة تهبط بالطفل أو تستلمه لتعبر به الطريق فى أمان فهو صغير لا يعنى من أمور الدنيا إلا اليسير..كلهم يبكون.

كل عامل فى مزلقان لا يلبث أن يسمع بين الحين و الآخر صوت القطار اللعين فيدق قلبه بعنف و يسرع لمنع الجميع من العبور و تحذير السيارات و المارة ، و يقاوم الغفلة و يقاوم النوم فى ليال الشتاء الباردة و أيام الصيف الحارة المملة ،كلهم يرعبهم صوت القطار الذى هو من فصيلة قطارات الموت و يشعرون بثقل مهنتهم و مرارها و نفورهم منها..كلهم يبكون.

رجال الدفاع المدنى و النيابة العامة و المحققون و من تناولوا الحادث عن قرب فسمعوا أقوال شهود العيان و اخترقوا المشهد على حذر من ان تطأ أقدامهم رفات طاهرة طمست معالمها و ذابت أطرافها ،بالرغم من شدتهم و قدرتهم على تحمل تلك المشاهد لاعتيادهم عليها إلا أن هذه المرة كانت قاسية و أليمة ،فكلهم يتعذب بكلمات الثكلى و دموع المصدومين..كلهم يبكون.

الأطباء و الجراحون الذين استقبلوا الجثث المشوهة الصغيرة و من نجا لكن تحطمت ضلوعه و رأى من الألم ما يفوق طاقة طفل صغير فقاموا بعلاجهم و إنقاذ ما تبقى لهم من معالم الحياة لكنهم مع ذلك كلهم يبكون.

موظفو مشرحة منفلوط الذين قضوا ساعات من الزحام وتوافد اهالى الأطفال القتلى ،الباحثين عن أى شيء يدلهم على أبنائهم ليحملوا ما تبقى منهم و يواروه الثرى بأيديهم المرتجفة كى يؤدوا نحوهم الواجب الأخير..كلهم يبكون.

أرأيت كيف أن هذا الحادث قد دمر كل المصريين و أمات أمانهم و حبهم للحياة ؛فتسربت أحلامهم فى السعادة و المستقبل البهيج...إن المصريين بعد يوم 17 نوفمبر 2012 ..كلهم يبكون

السبت، 3 نوفمبر 2012

سورة مريم و البلاغة القرآنية


التصوير الفنى و بلاغة القرآن لا تخفى على قارئ، و إن لم يتمكن من فهمها القارئ لقلة علم فإنه يستشعرها بإيمانه ،و يلين لها قلبه فيتأثر بالآيات تأثيرا متجددا لا ينتهى.

سورة مريم سورة قصيرة الآيات ايقاعها سريع ، فنجد أن معظم نهايات الآيات ينتهى ب "يا" مثل فريا نسيا شقيا..مما يعطى لها جمالا فى التجانس اللفظى و يسهل حفظها و تذكرها.

و قد استخدم التضاد اللفظى لإبراز المعنى و توضيح الموقف و عكسه أو النتيجة العكسية للمتوقع مما يجذب الانتباه و يشوق السامع. و لذلك قالوا : و بضدها تتميز الأشياء

مثل: "و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا"

و كذلك بين لفظى "ودا" و تعنى محبة و قرب،و "لُدا" و تعنى العدو اللدود

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا" (96)

"فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا" (97)

و كذلك تكرار كلمة "كلا" ....يدل على تناقض بين ما قبلها و ما بعدها

يوجد تأثير انطباعى للكلمات الافتتاحية فى بعض سور القرآن مثل سورة مريم ؛ حيث تبدأ بالحروف "كهيعص" و يكون هناك مدلول تابع لها أى استنباط المعنى من لازمة لفظية مرتبطة بالحرف المذكور عندما ينطق كما يلى:

كاف : من المعنى اللفظى اسم الفاعل للفعل يكفى ، على نحو "أليس الله بكاف عبده" فتحمل معنى الكفاية و تحقيق الرضا ، و هذا ما احتوته معانى الآية عندما كفى الله مريم شر قومها فحدثت لها معجزة نطق وليدها عيسى عليه السلام فى المهد ناطقا بالحقيقة و تبرئتها من اتهامات قومها، و عندما كفاها الله شر الالم لحظة الولادة فألهمها الوقوف تحت النخلة و هزها لينزل لها طعاما شهيا "ألا تحزنى قد جعل لك ربك سريا"

و الكفاية تكررت فى السورة ،فقد كفى الله تعالى زكريا هم افتقاد الولد الذى يرث علمه "و انى خفت الموالى من ورائى و كانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا* يرثنى... " ،و استجاب دعائه فجعله رضيا برا بوالديه ووهبه الحنان من لدنه.

هاء: للغائب و دلالة على المؤنث فالحديث عن السيدة مريم

يا: اداة نداء لبيان الرعاية و الحنان و القرب و علو القدر

عين: توحى بالرعاية و الحماية ،مثل قوله تعالى ليطمئن رسوله فى سورة طه

"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ"  طه (48)

فما كان يحدث بعين الله من الأمور فهو أمر ناجح موفق ،و من كان بعين الله فهو فى أمان و سعادة

ص: متلازمة مع الذكر؛مثل قوله تعالى "ص و القرآن ذى الذكر"

ما سبق هو تفسير انطباعى يعتبر تقديما لما تتضمنه السورة من أحداث و حكم ،و تمهيدا نفسيا للقارئ ليعيش جو الاحساس بالآيات كأن الأحداث أمامه و ليست منذ أزمنة بعيدة ،فكل آية مكملة لما قبلها و ما بعدها فى سلسلة مترابطة قوية البناء اللغوى و متناسقة السياق ،و هى أفضل ما يذكر فى موضعه.

و إن كانت تلك الحروف هى معجزة فى غموضها ؛فهى معجزة أيضا فى دلالتها الضمنية و التى يجب على القارئ تدبرها بخشوع "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"

و من عظمة القرآن أن معانيه متجددة تناسب كل العصور ،و أنه يشمل كل الآداب و القصص التى تنير للناس  الطريق و تجعله دستورا مثاليا للبشر فى كل زمن.

تبدأ سورة مريم بالرحمة لمن شرفه الله بالعبودية "ذكر رحمة ربك عبده زكريا" حيث ألهمه من الدعاء أصدقه و أخفاه ،و ألهمه التوسل إليه بالشيب و الوهن و رجائه فى اجابة دعائه حيث عوده الله سبحانه على الإجابة فيما سبق من حياته فضلا منه "و لم أكن بدعائك رب شقيا" ،و سأله الوريث ليس لسبب دنيوى بل ليكون حافظا للدين من بعده حتى يطمئن على قومه و عدم انحرافهم إلى طريق الضلال.

فدعا لولده المرتجى بأن يكون رضيا ،و الآية التالية حملت البشارة حيث أجاب الله دعائه و زيادة ،فقد سمى الله ذلك الولد باسم جديد لم يسم به أحد من قبل "يحيى" و جعله برا بوالديه ،و ما أشد حاجة الوالدين فى كبرهما و شيخوختهما المفرطة إلى ولد بار غير عاصٍ و لا جبار ،و رزق يحيى الحنان و التقوى.

ثم تنتقل الآيات لذكر السيدة مريم حيث جاءتها البشرى بميلاد عيسى و اصطفاء الله لها و تطهيرها ،و أعانها الله على تحمل مشقة الوضع و كفاها هم مواجهة قومها فأنطق ابنها و هو فى المهد ،بدلا من أن تتحدث هى بلسانها فيكذبها قومها ،و جعل عيسى بارا بوالدته غير شقى.

تنطلق السورة بعد هذا فى وصف يوم القيامة بوصفها يوم الحسرة حيث يرث الله الأرض و من عليها و يفيق الناس من غفلتهم لكن بعد فوات الفرصة و انقضاء الأمر.

و ما بين الترغيب و الترهيب يجئ ذكر ابراهيم الخليل و دعوته لأبيه فى رفق شديد و عطف و خوف عليه رغم كفر والده و عناده و تهديده له بالرجم ،و تحذير ابراهيم لأبيه من عبادة الشيطان ثم استغفاره لأبيه بعد أن وعده بهذا معترفا بحفاوة الله و كرمه ،و تتكرر كلمة "وهبنا" على مدى الآيات لتدل على عطاء الله و كرمه للأنبياء جزاء صبرهم و إخلاصهم فى الدعاء و العبادة.

لكل سورة احساس مهيمن عليها و جو عام موحد فى تناسق جميل ،فسبحان منزل القرآن أفضل البيان و أقوى برهان على صدق الرسالة و عظمة الله.

الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

الطالب و العقرب


شعر بجوع شديد و رغبة فى تناول الطعام ،و بالرغم من ضوء النهار الكاشف إلا أنه جازف و خرج من مخبئه بحثا عن طعام ساخن فدلته حاسة الشم لديه على التوجه إلى مصدر اللحم الشهى فاندس فى ملابس الطفل.

و ما هى إلا لحظة حتى شعر الطفل بآلام مبرحة و حرقة تسرى فى قدمه و رعشة فى جسده ،لكنه أبى الصراخ و تحامل على نفسه حتى لاحظت المعلمة و أمرته بالذهاب إلى المدير لكى تتخلص من مسئوليته. لكنه شعر بدوخة شديدة و عدم تركيز فظل فى مكانه.

و لأن مسئولى المدرسة قلوبهم جافة ،لم يسارعوا بمعالجة الطفل او نقله لأقرب مستشفى بعد اكتشافهم اصابته بلدغة العقرب ،و ظل ينتقل من وحدة صحية لأخرى لمستشفى بحثا عن مصل يعالجه، و الصغار لصغر وزنهم يكون تركيز السم في أجسامهم أكثر ، و الجو حار و الطفل ضعيف ؛فانهار بنيانه و فاضت روحه...ذهب الطفل الى المدرسة فى اول يوم دراسى و عاد جثة هامدة.

نحن أمام موقف حقيقى لاهمال معالجة الحوادث فى المدارس مع كبر احتمال اصابة الاولاد مع الجرى أو صغار السن عند عدم توفر الرعاية المناسبة، و ما أشد فجيعة الأم عندما تتلقى خبر اصابة ابنها من إدارة المدرسة ،ذلك أنها من المفترض انها تركته فى مكان آمين و بين من يحافظون عليه منذ لحظة دخوله للمدرسة حتى مغادرتها ،و حدوث الأذى للطفل و هو بعيد عن مرأى أمه يجعلها فى حالة فزع و اضطراب شديد حتى يبدأ علاجه و إنقاذه إذا كان الأمر بالغ الخطورة.

حوادث المدرسة كثيرة فقد تكون نتيجة لعصبية المدرس فيضرب الطفل أو يؤذيه و يفقأ عينه ،أو بين الأولاد و بعضهم من خلال خلافاتهم و تقليدهم للعنف التليفزيونى و فن الدفاع عن النفس و استعراض القوة ،أو من شقاوة الطفل نفسه و كثرة حركته و تعرضه للوقوع و الإصابة.

لكن الاحتياطات الأمنية المعروفة لابد من اتباعها كوقاية من تلك الحوادث المدرسية ،فتأمين الطلاب من الاخطار واجب أكثر خطورة من العملية التعليمية ذاتها ،مراقبة الأبنية و سلامة بنائها ، اصلاح وصلات الكهرباء فى الفصول و عدم وجود أسلاك مكشوفة خاصة القريبة من مصادر المياه مثل الكولدير و مبردات المياه إن وجدت ،عدم وجود تكسير فى زجاج الفصول ،و غير ذلك من البديهيات المفترض أن تراعيها إدارة المدرسة.

و بلاد الصعيد و التى ينتشر فيها العقارب لابد من  وجود عناية خاصة بالفصول و نظافتها و سد أى شقوق قد تكون مأوى للحشرات القاتلة ،و تعليق لوحات إرشادية للخطوات التى يجب اتباعها فى حالة حدوث لدغ للعقرب و الإسعافات الأولية المطلوبة حتى تكون أمام التلاميذ كل يوم فلا تغادر عقولهم وقت حدوث المشكلة ،و تعليم الاولاد خطورة ذلك و عدم السكوت اذا حدثت لهم اعراض اللدغة مع شرح الاسعافات الاولية كأول ما يتم تعليمه للطلاب فى اول يوم دراسى.

و إذا كانت المسئولية الكبيرة على مدير المدرسة و الوحدة الصحية فإن الأكبر مسئولية كل أم فلابد عليها توعية ابنائها و تلقينهم التصرف المناسب ازاء قرص العقرب كأسوأ الاحتمالات ،و لا تتهاون فى اعطائه تلك النصائح حتى لو كانت مشغولة بعملها أو رعاية إخوته الصغار أو غير ذلك ،فالهروب من المسئولية لن يعيد لها ابنها إن فقدته، و هناك أشياء مثل هذه لابد من متابعتها بواسطة الأم نفسها لخطورتها.

و قد يكون حدوث لدغ العقرب فى المدرسة نادرا لكنه وارد الحدوث ،فالعقارب بشكل عام لا تميل بطبعها للغدر فهي لا تلدغ لدغتها السامة القاتلة إلا عند الجوع أو الدفاع عن النفس أو عند رد الاعتبار ،وتستطيع العقارب أن تلدغ بشوكتها من تريد أن تهاجمه حيث تستخدم السم فى تخدير وقتل الفريسه لتيسير اقتناصها والتهامها ، لدغة العقرب ذات تأثير موضعي ( ألم _ تخدير _ تورم ) طبقا للنوع ،و العقارب كائنات ليلية في عيشها تختبئ أسفل الصخور أو الرمال وهي ضعيفة الرؤية ولكن حاسة الشم لديها حادة وقوية ومن المحتمل أن تنجذب إلى للحم بواسطة حاسة الشم ، وعمرها قد يمتد من ثلاث إلى سبع سنوات وبعضها قد يعمر 25 عاماً .

و من وسائل مكافحة العقارب فى الأماكن المحتمل تواجده فيها : إزالة الأعشاب المتواجدة قرب البيوت اصلاح التصدعات و الشقوق ،و تبليط حوائط المنزل لتصبح ملساء على ارتفاع متر على الأقل و التخلص من المهملات ،تربية الدواجن التي تأكل العقارب (لكن هذا لا يمكن تطبيقه فى المدارس بالطبع !) و يمكن الاستعاضة عنها بالقطط ،و ارتداء الأحذية المغلقة فحص الملابس و الأحذية و الفرش قبل استخدامها على سبيل الاحتياط.

و عند حدوث اللدغة لابد من سرعة نقل المريض لأقرب وحدة طبية و ملاحظة حجم و لون العقرب إن أمكن و وقت حدوث اللسعة حتى تفيد المسعف و تجعل العلاج أدق ،و المهم هو السرعة قبل انتشار السم فى الجسم و حدوث الوفاة.

يتركب السم من أنزيمات ومركبات تسبب الآلام المبرحة للشخص المصاب ،ومركبات أخري تؤثر على الجهاز العصبي ،حيث تخدر الجسم وتسبب له الاضطراب في التنفس وهبوط في القلب. وتبلغ الآلام والاضطرابات أشدها بعد تقريباً ساعة من اللسعة ،وتستمر لمدة ساعة أو ساعتين يبدأ بعدها التحسن إذا تم العلاج ،ويستغرق ذلك يومين أو ثلاثة. حسب حساسية الناس للسم فتختلف ردود أفعال الجسم حسب العمر والوزن ،فالصغار وكبار السن هم الأشد تأثراً بالسم.

كل مخلوق خلقه الله لحكمة و العقارب و إن كانت ضارة و مؤذية ، فالحكمة واضحة أن يعلم الإنسان أنه ضعيف و إن كبر حجمه و طالت هامته و علا ،تسقطه قرصه عقرب و تقضى عليه جرثومة،

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" الحج(73)

و هو عاجز عن انقاذ نفسه أو غيره إلا بقوة من الله و رحمة منه. فوجود تلك المخلوقات ابتلاء من الله هل سينهض الانسان لمقاومتها و اتقاء المرض و يؤدى ما عليه من حماية نفسه و الآخرين المسئول عنهم ،أم يترك كل شيء بدعوى التوكل على الله و ان "ربنا يستر و يسلم" دون مراعاة لقواعد النظافة و الوقاية من الحشرات و الأمراض.

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

البحيرات المرة..للوزراء درة


من المعروف أن البحيرات المرة ذات موقع استراتيجى هام فهى تقع فى الجزء الشمالى و الجنوبى من قناة السويس ، و مياه القناة نقية و صافية خالية من أى تلوث بحرى، و هى شديدة الجمال حيث ينفذ الضوء إلى قاع البحيرات نظرا لجودة مياهها و قلة الشوائب العالقة بالمياه ،كما أنها شديدة الملوحة و مصدرا هاما للثروة السمكية.

و منطقة "لسان الوزراء" أو "لسان الطيارين"تحيطها المياه من ثلاث جهات و هى شبه جزيرة صناعية تم ردم أراضيها التي استقطعت من مياه البحيرات المرة ليقام عليها منتجع سياحي خاص يحيطه سور من الخرسانة يفصله عن الشواطئ العامة الممتدة على الجانب الغربي للبحيرات المرة بمنطقة أبو سلطان بمدينة فايد بمحافظة الإسماعيلية و هى منطقة خلابة و هادئة.

و لهذه المميزات الكثيرة اختارها الوزراء السابقون و كبار رجال الدولة فى النظام السابق و جمعية الطيارين للشراء بأبخس الاثمان ،و على مساحات واسعة بنوا ما يشاءون من فيلات و حدائق غناء و مزارع المانجو المثمرة ،و أمروا الصيادين بالابتعاد عن المنطقة كحرم يجب عدم الاقتراب منه و الاكتفاء برؤيته من بعيد ،بدلا من أن يجعلوها محمية طبيعية و مزارات للسياح و يعمروها لجميع المصريين ، استأثروا بالمكان كأن جنة الله فى أرضه حكرا لهم ..

و كيف جرأ هؤلاء المسئولون السابقون على  الاقتطاع من ارضه فى سرقات مقنعة فى ثياب الأمر المباشر بالتخصيص و مسميات قانونية أخرى لبيع جائر و تفريط فى أجمل بقاع مصر؟ألم يقسموا أمام الله و أمام الشعب الكادح على حماية مصالح الوطن و رعايتها و الحفاظ على أراضيه ؟فكيف يبرون القسم مع الاستيلاء على تلك الاراضى بأسعار وهمية غير مقبولة بدلا من منع بيعها و استغلالها سياحيا و بيئيا.

و ضاع حق تلك الاراضى المحيطة بالبحيرات المرة و ما يسمى "لسان الطيارين"  بين وزارة الزراعة و هيئة التعاونيات و هيئة الثروة السمكية و هيئة قناة السويس و محافظة الاسماعيلية فلم تتحمل جهة منهم المسئولية الكاملة عن بيعها و التفريط فيها.

لتلك المنطقة مكانة و رؤية تاريخية مرتبطة بحفر قناة السويس،أحد مصادر الدخل و العملة الصعبة فى مصر،فقد نشأت من ناتج حفر القناة بعد انتهاء حرب اكتوبر 1973،و ما يتم استخراجه كل عام من طمى عند تعميق مجرى القناة لاستقبال السفن عميقة الغاطس ،فهذه البحيرات ترتبط بحرمة قناة السويس و عمومية فائدتها للمصريين.

لماذا تهون خيرات و ثروات مصر الطبيعية النادرة على ابنائها.لماذا لا يدركون خطورة ما يقومون به من إتلاف للموارد الزراعية و الطبيعية و التاريخية ،إنه ليس تخلفا ثقافيا فقط بل هو انطماس هوية و انعدام وطنية و إن غنوا مئات المرات "بحبك يا مصر"!

فالفلاح الذى يبور أرضه و يحولها من أرض ذات خير و نماء إلى مبان صماء فى غفلة من الحكومة و يقضى عليها بالبوار فيحرم نفسه و أولاده و غيره من خيرها قد ارتكب جريمة فظيعة لا يغفرها أن يتم هدم البناء فى إزالة لعقار مخالف لان هذه لن يعيد للأرض خصوبتها و لن يزيد من محاصيل مصر و زراعتها إردبا واحدا، فتبوير الأرض جريمة قتل مؤجلة لأنها تسلب الاجيال القادمة من حقها فى الطعام و العيش الكريم.

و الاضرار بالمحميات الطبيعية مثل الشعب المرجانية النادرة و تهريب الآثار و سرقة المتاحف لمن جرائم الوطن التى لا تغتفر و لا يمكن تعويضها ،و لا يتم إيقافها إلا من خلال تغليظ عقوبة السرقة من المال العام و إفساد البيئة و المتسبب تلويث الهواء و الأنهار سواء بالمخلفات أو الدخان أو الصرف الصحى.

يسرق السارقون.. و الكثير يعلم و يصمت ، و لا يتم فتح الملفات و ينطق الشهود إلا بعد أن تقوم ثورة كأن الحق عليه أن ينتظر معجزة كى ينكشف و يعرفه الرأى العام ثم تتم معالجة و إصلاح ما يمكن إصلاحه – و هو قليل- فلتكن ثورة على الصمت عن حق مصر و ممتلكاتها و تاريخها بحصر كل الأراضى المشبوهة و فسح عقود بيعها مع معاقبة المشتركين فى السرقة بغرامات مناسبة ،و حصر الأماكن الأثرية التى تم إهمالها و تشويهها و التخطيط لاستعادتها و تحويلها لمزارات و أماكن لاستقطاب السياح.

فتلك محاولات للحفاظ على أصول مصر و منشآتها من عبث المسئولين غير الأمناء على مصالح الوطن ،و أملا فى إيجاد وسائل لزيادة الدخل القومى ،فليست أراضى الوطن بالزينة التى يتحلى الوزراء بامتلاكها و التمتع بها؛ لكنها ملك لجميع المصريين ،و اختيار انسب وسائل الاستثمار لها مسئولية الخبراء و أولى الأمر.

و خير للوزراء الذين فرطوا فى حق الوطن و عبثوا بخيراته و قسموها أن يتقشفوا و يعيشوا كما يعيش باقى الشعب كى تصدق خدمتهم للوطن و تصلح قراراتهم و تعلو على المصالح الشخصية أو الأفكار الوهمية التى لا تحظى بالنجاح أو تعود بالفائدة.

و لو كان زخرف الدنيا خيرا للزعماء لأعطاها الله لرسوله الكريم و ما أيسر ذلك عند  الله ..
قال تعالى مخاطبا نبيه:
"تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا" الفرقان (10)

فالقائد و من يتولى الحكم هو الأحق بالإعراض عن زخرف الدنيا ،و الزهد فى متاعها لكى يتفرغ للمسئولية الثقيلة التى نهض لحملها ووهب سنوات حياته و كل وقته و جهده لها و لتحقيق الرسالة التى كتب الله عليه توصيلها ،أو الحفاظ على أمانة رعاية مصالح المحكومين بالنسبة للحكام ،و ليست القصور علامة النجاح فى الحياة و عنوان الرضا و اكتمال السعادة ،بل هى تشهد على سكانها و تبقى بعد أن يفنون أو تبعدهم الأقدار عن السكن فيها و التمتع بها...

"وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ" القصص (58)

و ما أكثر تلك القصور المغلقة الفارغة إلا من حارس نائم و كلب رابض ،قصور مشيدة و أسوار عالية تحيطها و أشجار تكاد أن تذبل و تموت ،تراقبها كاميرات الصحفيين الذين يريدون إثبات القضية و عرضها على الناس ،و توجد المئات من هذه القصور على طول الساحل الشمالى و فى الغردقة و الأماكن الأخرى الساحرة مثل البحيرات المرة.