الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

تفسير سورة الحديد


}سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيsهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {

تبدأ السورة بالتسبيح  من كل الكائنات و تذكر الآيات صفات الله تعالى حيث أن له ملك السموات و الأرض ، و هو وحده مالك الحياة و الموت و الابتداء و الانتهاء ، و العالم ببواطن الأمور و خفاياها ؛ فضلا عن ظاهرها و منتهاها. فعلم الله واسع لا يحده شيئ زمانا و مكانا. يدبر كل شيء بحكمة بالغة؛ مبنية على علم مبين و رحمة شاملة. و فوق ذلك قدرة على التنفيذ و إرادة متحققة.

لقد كانت قدرته على الخلق كافية لخلق السموات و الأرض فى لحظة لكنه خلقهن فى ستة أيام لحكمته التى اقتضت ترتيب ذلك الحدث لينتهى باستوائه سبحانه على العرش. يسمع و يرى كل شيء سواء ما يدخل فى الأرض؛ على المستوى البسيط كدفن الأموات و زراعة الحبوب و النباتات ، و ما هو أبعد كحركة الكواكب و دخول المجال الجوى للأرض، و ما يخرج منها كاستخراج المعادن و البترول و الثروات ، و إنبات الزروع و الثمار. كما يعلم سبحانه ما ينزل من السماء أمطارا و شهبا ، و ما يعرج فيها من حركة الملائكة و صعود الأرواح و الكلم الطيب و الدعوات. إن دقة اللفظ القرآنى تشهد بالإعجاز، فالسماء تصعد إليها الأشياء و تنزل منها ، بينما الأرض هى التى تدخل فيها الموجودات و تخرج منها فهى كروية لها جسم محدد.

ثم يذكر الله إحاطته و هيمنته على الإنسان ،بعد أن ذكر إحاطته بما حول الإنسان من أرض و سموات. فهو مع الإنسان فى كل وقت أينما يكون ليراه و يبصره و يشهد على ما يفعله. و الله يتحكم فى الإنسان عليم بما فى داخله، يرزقه بالليل و النهار، المتعاقبين ليوفر له البيئة التى تمكنه من العيش و عمارة الأرض و ابتغاء الرزق. ثم يحاسبه على أعماله و نواياه التى هى الفيصل فى المجازاة، و ليس ظاهر الأمور بل ما وقر فى القلب و انعقدت عليه النوايا.

} آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ {

ثم يجيئ أول أمر إلهى للإنسان باتباع الرسول و الإيمان بالله و الإنفاق مما آتاه الله، ثم سرد الأسباب المنطقية العقلية، فليس لهم عذر ألا يؤمنوا و قد جاءهم النذير ؛ رسول منهم يدعوهم فيسمعوا و يعاهدوا الله على الإخلاص بميثاق غليظ. و لأن الله رحيم بالعباد فقد أنزل القرآن على الرسول الكريم ليكون مصدر هداية و نور تسهل على المؤمن اختيار الطريق السليم و تحمل مشاقه. و تلك الأموال التى يقتنيها الإنسان هى من عند الله أودعها عنده ليكون مستخلفا فيها مسئولا عن وسائل إنفاقها ليحاسب على ذلك الاختيار. ثم إن الله يرث الأرض و من عليها و قد وعد المنفقين و المحسنين أجرا مضاعفا، كلٌ حسب عطائه ، فمن أعطى قبل الفتح له درجة أعلى ممن أنفق بعد النصر، فالعطاء ساعة العسرة له أجر عظيم.
 }يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{         

و فى مشهد اليوم العظيم، تبدو هيئة المؤمنين متميزة و جليه فهم كالبدر المنير و نورهم يملأ ما بين أيديهم ، تلك الأيادى التى تعطرت فى الدنيا بالإنفاق و فعل الخيرات، لاحقتها البشرى بالجزاء الوافى. و كما كانوا فى الدنيا يجرون وراء البريق، تذهب عيون المنافقين إلى مصادر النور و العلى ليجدوها مؤمنى الدنيا ، و الذين ربما كانوا من فقراءها الذين كانت تزدريهم أعين المنافقين من قبل، فيسعون لنيل اى جزء أو قبس من تلك الأنوار المبهرة، فربما نظر إليهم المؤمنون بوجوهم التى تشع ضياء فيسقط هذا الضوء على ظلمة وجوه المنافقين ذوى الوجوه المسودة. لكن هيهات فقد قضى الله بعدله أن يميز الخبيث عن الطيب، فقد أمروا بالرجوع للخلف ليقام سور بينهم و بين الضياء ، و ما أعجب هذا السور فبابه له باطن و ظاهر، كما للمنافقين باطن يخالف الظاهر، و ما يواجه المنافقين هو الباب ذو العذاب. و لا ييأس المنافقون من نيل الرحمة التى لا يستحقونها، فينادون من خلف السور يستعطفون المؤمنين ألم نكن معكم فى الدنيا و نشارككم حياتكم و معيشتكم فلم التفرقة الآن . إن السبب هو أفعال المنافقين ذاتهم، فقد كانوا يسعون بالفتنة و الشر و التربص بمن حولهم ، مغترين بعبادة منافق لا خير فيها. و لا مغير لكلمات الله و لا لحكمه حتى لو دفعوا ملأ الأرض ذهبا و أموالا. مثلهم مثل الكافرين لا مأوى لهم سوى النار و العذاب الدائم.



 }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{

ألا تكفى كل تلك الآيات و الشواهد لكى تخشع قلوب المؤمنين و تهتز لذكر الله و تهفو قلوبهم لآياته فيزدادوا إيمانا مع إيمانهم، بخلاف غيرهم من أهل الكتاب الذين فرطوا فى دينهم فتفرط عقده و انهارت عقيدتهم بعصيانهم و قسوة قلوبهم. فالقرآن حياة القلوب كما الماء حياة الأرض و روحها التى تعود إليها كلما يبست و تحجرت.

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }

عودة مرة أخرى إلى فضائل الإنفاق المستمر، حيث يجزيهم الله بكرمه أضعاف ما أنفقوه بركة فى الرزق و حفظا من المرض و البلاء و زيادة فى الأموال و الأجر الوفير فى الآخرة. مجتمعين مع الأنبياء و المرسلين فى جنات النعيم بينما يشقى المكذبون فى جحيم مقيم.

 }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {

هذه هى حقيقة الدنيا يعلمنا بها الله العليم. هى مزيج من اللعب و اللهو و السعى وراء الزينة و التفاخر بالمكتسبات من أموال و مقتنيات ، و مع الأيام تتكاثر النعم و تزيد الأموال و يأتى المزيد من الأبناء . ثم ماذا ؟ يأتى النقصان. فالنباتات الخضراء التى تنتعش بالمطر و تربو و تزدان و تثمر، تتغير مع الزمن لتذبل و تنكسر لتصبح هشيما ضعيفا يحطمها الهواء و غوائل الدهر. و الشيب يحطم القوة و الغنى و المرض يهلك النفوس المغروره بالدنيا ليعيدها إلى الحقيقة و هى أن ليس للإنسان إلا سعيه و ليس ما اكتسبه من أموال و الأولاد. فالسباق لابد أن يكون لفعل الخيرات و نيل العفو و المغفرة من الله ليخرج الإنسان من ضيق الدنيا و نكدها و كدحها إلى جنة لا حدود لها.

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 

و علمنا بأن الدنيا زائلة يجعلنا غير هلوعين عند حدوث المصائب فطبيعة الدنيا زيادة و نقصان و هى دار بلاء و محن و لا تدوم ضاحكة لأحد. و كل حدث إنما هو مكتوب و مقدر فلا يبتئس الإنسان و يقول لو فعلت هذا لما حدثت المصيبة بل يؤمن بالله و ينيب إليه ليخفف عنه و يعوضه. و كذلك لا يبطر و يفرح فرحا شديدا يأخذ بلبه فيمشى مختالا متعاليا على الناس. و ربما دفعه الغرور إلى البخل معتقدا أن تلك الأموال و الرزق من جهده و حق خالص له ليس للفقير و لا للمسكين نصيب فيها. بل و يأمر غيره بعدم الإنفاق و الحرص على الأموال و حرمان السائلين من فضل الله الذى آتاهم. و إعراضهم هذا يعرضهم لغضب الله و نسيانهم و زوال النعمة بعد حين.

إن قاعدة أن كل مصيبة فى كتاب عند الله مكتوبة قبل حدوثها يجعلنا مطمئنين و راضيين بقضاء الله, و يخفف من صدمتها و لوعتها و البحث عن أسبابها و كيف كان يمكن تجنبها ، فالإنسان ضعيف لا يملك من أمره شيئأ مهما حرص ، و كل ما يمكنه هو الالتجاء إلى الله و الدعاء و التضرع له ليصرف عنه الشرور و سوء القضاء و يعينه على الصبر و الشكر.و هذا يقلل التلاوم بين الناس وقت حدوث المصيبة فكل يلقى بالمسئولية على الآخر لتزيد المشاحنات و تتفرق الهمم و يزيد الأثر المؤلم للأحداث. تحليل الأحداث مفيد و مطلوب و يجعلنا نتفادى الأخطاء ،لكن مع العلم بأن القدر هو المسيطر و أننا جميعا لن نفر من قدر الله فهذا يخفف من إحساس الندم و الأسى القاسى على النفس.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } 

و حياة المجتمعات لابد أن يحكمها نظام عادل . و تنبى معاملات الناس على أساس واضح و قوانين موزونة سواء فى المعاملات المالية أو المدنية و الأحكام بينهم. فكما أن الحديد مصدر القوة و البناء المادى للمجتمعات؛ فإن العدل و القسط هو أساس بقاءها و استمرارها. فالحديد وقت السلم للإنشاءات و المبانى و الآلات و المصانع. و وقت الحروب للدروع و آلات الحرب و الدفاع عن النفس. قضى الله أن يكون ذلك المعدن فيه بأس و قوة شديدة تفوق كل المعادن، و رغم قوته فهو ينفع الناس. و المؤمنون لابد أن يكونوا كذلك؛ أقوياء ذوو بأس شديد أمام العدو لكنهم رحماء فيما بينهم. و هذا التباين شأن الناس منهم من يهتدى و منهم من ينصرف عن الحق، منذ قديم الزمان حيث أرسل الله نوحا و ابراهيم أبا الأنبياء ، و بعد ذلك أتبعهم الله بعيسى ابن مريم. و جاء الحواريون ليصدقوا عيسى لكنهم ابتدعوا أنظمة و سننا لم يكتبها الله عليهم فضلوا ، فعلم الله من آمن منهم و أخلص و من استغل تلك الرهبانية فى الفسوق و المصالح الدنيوية.،و حاسب كلا منهم بما يستحق.

 } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {

تقوى الله تأتى بخير عظيم ، فقد وعد الله المؤمنين المتقين بنصيبين من الرحمة ، قد تكون جزءا فى الدنيا يستعينون بها على مشاق الحياة و تحمل البلوى  و المحن  و جزءا فى الآخرة ليغفر لهم و يدخلهم الجنة بسلام ، فيسعدوا فى الدنيا و الآخرة. و يميزهم بنور الإيمان يهديهم به و يضفى حول وجوهم هالة من البشر و الهيبة تحميهم من البطش و المذلة. و يكفى الإيمان و العبادات بإخلاص لنيل تلك الجوائز ، و ليس الرهبنة كما فعل أهل الكتاب ثم زعموا أنهم أبناء الله و أحبائه و لن يعذبهم أبدا. لكن فضل الله يختص الله به المؤمنين و ليس عشيرة أو فئة بعينها، و فضله يسع جميع الكائنات حسبما تقتضى حكمته و عدله. فسبحان الله القوى خالق القوة و المهيمن على كل الأمور و الحاكم فيها بالقسط، راحم الناس من عذاب النفس و الملامة و الأسى و فجيعة المصائب، مرشدهم إلى حقيقة الدنيا و متاعها الزائل، و الحمد لله على نوره الذى وهب قبسا منه للمؤمنين و هداهم إلى الحق المبين.