الخميس، 29 نوفمبر 2012

الماكرو و فن التقريب

مازالت فنون التصوير و طرقه الكثرة تسر الناظرين ،و تطرب السامعين من شدو الطيور التى صورها ابداع المصورين..و تقتحم المجهول بحثا وراء الجمال و ما لم يرسمه بعد الخيال.
 
و اذا كانت للعين البشرية حدود فى الاقتراب من الأشياء كى تستطيع رؤيتها ، ففى فن الماكرو تتغلب العين على تلك القيود و تستطيع باستخدام تقنيات و عدسات خاصة أن تقترب و تقترب ،و تكبر أمامها الأشياء و تتضخم..كل هذا يتم بدقة عالية و وضوح تام..ما أجمل الحياة التى ليس فيها مستحيل!
إن هذه الطريقة فى التصوير قد تتسبب فى ابراز الحشرات بشكلها غير المبهج ،و بشكل مخيف و مقزز ، فالاقتراب الشديد قد يظهر ما كان خفيا من القبح ،و تلك مهارة الفنان ألا يجعل هدفه تسجيليا و علميا فقط ، بل يراعى معايير الجمال فى عمله فيستخدم الشفافية و تناسق الألوان و الخلفية الهادئة الطبيعية حسب مقتضيات الموضوع.
عنكبوت ثائر..نملة شامخة.. ذبابة كلها عيون..فراشة باسطة جناحيها فى رشاقة فوق الزهر.. كل ذلك نماذج من موضوعات حية لتصوير الماكرو، و ما بين قطرات الندى العاكسة و أوراق الورود الحالمة تتشكل سيمفونيات بديعة من الالوان و الظلال و المعانى الجديدة التى تتعدى كون الصورة تكبير للواقع و ما تشاهده العين المجردة.
و لا يستدعى مثل هذه التصوير بالضرورة النزول إلى مقر الحشرات و اقتحام مساكنها و بيئتها ،بل من السهل و من الأفضل استضافة تلك الحشرات أو الورود فى الاستوديو أو المنزل مع عمل التجهيزات الفنية البسيطة المناسبة ،و أهمها ضبط الإضاءة – إذ تقل الإضاءة كثيرا مع طول العدسة اللازم للتقريب – كما أن الضوء ضرورى لإظهار كل معالم الموضوع بوضوح شديد.
و يتم تجهيز خلفيات مناسبة من لوحات ذات ألوان متناسقة هادئة و قد تحاكى المناظر الطبيعية ،فالخلفية فى النهاية سوف تظهر ضبابية كقاعدة عامة فى تصوير الماكرو لعدم التشويش على موضوع الصورة ،فيجب عمل عزل قوى للموضوع عن الخلفية لإبراز الموضوع و التركيز عليه و عدم تشتيت العين ،فلا يتبقى من الخلفية سوى طيف ألوان لطيف أو ما يشبه أوراق و فروع الأشجار. و تتم إضاءة الخلفية ايضا بشكل معين.
و هذه الصورة النهائية المبهرة لا تأتى من لقطة واحدة بل تتشكل من دمج عدة صور كلٌ منها تركز على جزء من الموضوع الكبير الذى يشغل معظم المشهد ،و هكذا حتى تتم تغطية كل الأجزاء المطلوب ابرازها ،مع تثبيت الكاميرا على حامل لضمان عدم الاهتزاز حتى لا تفقد الصورة تركيزها و حدتها.
يتم التركيز على جماليات المخلوقات و اظهار شفافيتها و دقة خلاياها و ملمس الجلد و الشعر و الأقدام ،فهذا الضفدع المكبر يقف بدلال لتظهر خلايا جلده و ألوانها الرائعة ،و يقوم الضوء الخلفى بإظهار قدميه كأنها شيء رخو لين تكاد ينبثق الدماء منه و توشك أن ترى نبض قلبه و مسار الدماء فيها.
تجسيد الكائنات يعطيها حيوية و رشاقة و قوة أيضا ،فهذه المخلوقات ليست ضعيفة ،إنها تقف بثبات ،أو تستند برشاقة على النبات ، تفكر .. تخطط و تمتلك آليات التحكم و التكيف مع ما حولها من طبيعة. إنها تفتخر بنفسها ، ربما لو كان لديها الاحساس البشرى و نطقت لتمسكت باقتناء مثل هذه الصور فى جحرها أو أعشاشها لكى تزهو بها بين أقرانها!
إن الهدف من التقريب هو البحث عن الحقيقة ،فقد سعى العلماء منذ قديم الزمان لعمل الطرق التى تمكنهم من التكبير لدراسة المخلوقات و تشريحها و باقى الأغراض العلمية ،و البحث عن الحقيقة يتطلب من الإنسان أحيانا الاقتراب الشديد كما فى حالة الماكرو ،أو الابتعاد الكبير للحصول على رؤيا شاملة كما فى البانوراما ،و إجمالى كل هذه المحاولات و الالتفاف حول موضوع الصورة هو المعرفة الشاملة و الاقتراب من حقيقة و معانى الاشياء من خلال ما تتركه هذه الصور من انطباعات فى نفس الرائى.و ما تقدمه من صورة ذهنية للموضوع فى شكل جمالى متميز.
ما أجمل التصوير تارة نقترب (ماكرو ) و تارة نبتعد (لاندسكيب) ، تارة نثبت و تارة نتحرك (بان)،تارة نظهر الألوان و تارة نطمسها(ابيض و اسود)، تارة نركز على شيء و تارة نجعله ضبابيا غير واضح ،كل ذلك فى سبيل توصيل الفكرة و إظهار الحقائق.
و الابداع فيها هو تقديم ما هو جميل ،فليس معنى الاقتراب أن تظهر كل شيء حتى لو كان سيئا لمجرد إظهار براعة العرض و الوصول فقط ،بل تصوير المشهد بما يشبه اللوحة الفنية التجريدية. إن جمال المفاجأة هنا يأتى من التساؤل عن ماهية موضوع الصورة و كيف تم التقاطها ،و الانبهار بأن هذا ما نشاهده فى الطبيعة و لا ندرك أن تفاصيله بمثل هذا الاتقان و الدقة ،فتبارك الله رب العالمين الذى خلق فسوى و اتقن كل شيء خلقه ،و تلك فائدة أهم لتصوير الماكرو : تسبيح الله و التدبر فى مخلوقاته.
و تصوير الحشرات و الكائنات الدقيقة تتطلب دراسة تلك الاحياء و صفاتها و خصائصها ،فإن ما يتم تصويره سواء نبات أو حيوان أو حشرة يتطلب تتبعها و معرفة سلوكها لتيمكن المصور من تخمين حركاتها القادمة و تتبعها و الاستعداد لها. و تسهل عليه التعامل معها و استدراجها للوقوف أو الحركة أو التقاط شيء كما يخطط لتصويره و تجسيد معيشتها فى شكل قصة و مشاهد تبين أساليب معيشتها وسط بيئتها كأنها عالم من البشر.
و فى القرآن الكريم "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" الأنعام (38)
و فى آيات أخرى ذكر مجتمعات النمل و أسراب الطيور و جماعات النحل و تلك العوالم الخفية التى تتفاهم معا بلغتها الخاصة ،و تتحد و تتعاون كمجتمع ناجح محكم البنيان.
و شرَف الله تلك المخلوقات و أعلى ذكرها فسميت سور كثيرة بأسمائها و صفاتها ،مثل سورة النحل و النمل و الصافات و الفيل و البقرة و الأنعام ،حيث تناولت تلك السور إيحاء الله لها بما تقوم به و يحفظ لها معيشتها ،و هديه لها لتتحقق منظومة الحياة و تكتمل كما أرادها خالقها ،و تبين إعجاز الله سبحانه فى الخلق البديع الرائع ليدركها من كان له عين تنظر أو قلب حى يرق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق