السبت، 3 نوفمبر 2012

سورة مريم و البلاغة القرآنية


التصوير الفنى و بلاغة القرآن لا تخفى على قارئ، و إن لم يتمكن من فهمها القارئ لقلة علم فإنه يستشعرها بإيمانه ،و يلين لها قلبه فيتأثر بالآيات تأثيرا متجددا لا ينتهى.

سورة مريم سورة قصيرة الآيات ايقاعها سريع ، فنجد أن معظم نهايات الآيات ينتهى ب "يا" مثل فريا نسيا شقيا..مما يعطى لها جمالا فى التجانس اللفظى و يسهل حفظها و تذكرها.

و قد استخدم التضاد اللفظى لإبراز المعنى و توضيح الموقف و عكسه أو النتيجة العكسية للمتوقع مما يجذب الانتباه و يشوق السامع. و لذلك قالوا : و بضدها تتميز الأشياء

مثل: "و اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا"

و كذلك بين لفظى "ودا" و تعنى محبة و قرب،و "لُدا" و تعنى العدو اللدود

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا" (96)

"فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا" (97)

و كذلك تكرار كلمة "كلا" ....يدل على تناقض بين ما قبلها و ما بعدها

يوجد تأثير انطباعى للكلمات الافتتاحية فى بعض سور القرآن مثل سورة مريم ؛ حيث تبدأ بالحروف "كهيعص" و يكون هناك مدلول تابع لها أى استنباط المعنى من لازمة لفظية مرتبطة بالحرف المذكور عندما ينطق كما يلى:

كاف : من المعنى اللفظى اسم الفاعل للفعل يكفى ، على نحو "أليس الله بكاف عبده" فتحمل معنى الكفاية و تحقيق الرضا ، و هذا ما احتوته معانى الآية عندما كفى الله مريم شر قومها فحدثت لها معجزة نطق وليدها عيسى عليه السلام فى المهد ناطقا بالحقيقة و تبرئتها من اتهامات قومها، و عندما كفاها الله شر الالم لحظة الولادة فألهمها الوقوف تحت النخلة و هزها لينزل لها طعاما شهيا "ألا تحزنى قد جعل لك ربك سريا"

و الكفاية تكررت فى السورة ،فقد كفى الله تعالى زكريا هم افتقاد الولد الذى يرث علمه "و انى خفت الموالى من ورائى و كانت امرأتى عاقرا فهب لى من لدنك وليا* يرثنى... " ،و استجاب دعائه فجعله رضيا برا بوالديه ووهبه الحنان من لدنه.

هاء: للغائب و دلالة على المؤنث فالحديث عن السيدة مريم

يا: اداة نداء لبيان الرعاية و الحنان و القرب و علو القدر

عين: توحى بالرعاية و الحماية ،مثل قوله تعالى ليطمئن رسوله فى سورة طه

"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ"  طه (48)

فما كان يحدث بعين الله من الأمور فهو أمر ناجح موفق ،و من كان بعين الله فهو فى أمان و سعادة

ص: متلازمة مع الذكر؛مثل قوله تعالى "ص و القرآن ذى الذكر"

ما سبق هو تفسير انطباعى يعتبر تقديما لما تتضمنه السورة من أحداث و حكم ،و تمهيدا نفسيا للقارئ ليعيش جو الاحساس بالآيات كأن الأحداث أمامه و ليست منذ أزمنة بعيدة ،فكل آية مكملة لما قبلها و ما بعدها فى سلسلة مترابطة قوية البناء اللغوى و متناسقة السياق ،و هى أفضل ما يذكر فى موضعه.

و إن كانت تلك الحروف هى معجزة فى غموضها ؛فهى معجزة أيضا فى دلالتها الضمنية و التى يجب على القارئ تدبرها بخشوع "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"

و من عظمة القرآن أن معانيه متجددة تناسب كل العصور ،و أنه يشمل كل الآداب و القصص التى تنير للناس  الطريق و تجعله دستورا مثاليا للبشر فى كل زمن.

تبدأ سورة مريم بالرحمة لمن شرفه الله بالعبودية "ذكر رحمة ربك عبده زكريا" حيث ألهمه من الدعاء أصدقه و أخفاه ،و ألهمه التوسل إليه بالشيب و الوهن و رجائه فى اجابة دعائه حيث عوده الله سبحانه على الإجابة فيما سبق من حياته فضلا منه "و لم أكن بدعائك رب شقيا" ،و سأله الوريث ليس لسبب دنيوى بل ليكون حافظا للدين من بعده حتى يطمئن على قومه و عدم انحرافهم إلى طريق الضلال.

فدعا لولده المرتجى بأن يكون رضيا ،و الآية التالية حملت البشارة حيث أجاب الله دعائه و زيادة ،فقد سمى الله ذلك الولد باسم جديد لم يسم به أحد من قبل "يحيى" و جعله برا بوالديه ،و ما أشد حاجة الوالدين فى كبرهما و شيخوختهما المفرطة إلى ولد بار غير عاصٍ و لا جبار ،و رزق يحيى الحنان و التقوى.

ثم تنتقل الآيات لذكر السيدة مريم حيث جاءتها البشرى بميلاد عيسى و اصطفاء الله لها و تطهيرها ،و أعانها الله على تحمل مشقة الوضع و كفاها هم مواجهة قومها فأنطق ابنها و هو فى المهد ،بدلا من أن تتحدث هى بلسانها فيكذبها قومها ،و جعل عيسى بارا بوالدته غير شقى.

تنطلق السورة بعد هذا فى وصف يوم القيامة بوصفها يوم الحسرة حيث يرث الله الأرض و من عليها و يفيق الناس من غفلتهم لكن بعد فوات الفرصة و انقضاء الأمر.

و ما بين الترغيب و الترهيب يجئ ذكر ابراهيم الخليل و دعوته لأبيه فى رفق شديد و عطف و خوف عليه رغم كفر والده و عناده و تهديده له بالرجم ،و تحذير ابراهيم لأبيه من عبادة الشيطان ثم استغفاره لأبيه بعد أن وعده بهذا معترفا بحفاوة الله و كرمه ،و تتكرر كلمة "وهبنا" على مدى الآيات لتدل على عطاء الله و كرمه للأنبياء جزاء صبرهم و إخلاصهم فى الدعاء و العبادة.

لكل سورة احساس مهيمن عليها و جو عام موحد فى تناسق جميل ،فسبحان منزل القرآن أفضل البيان و أقوى برهان على صدق الرسالة و عظمة الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق