الأحد، 23 أغسطس 2009

مطاردة الظلم

بطل القصة فتى ليس وسيما و لا ذكيا، أحول و يرى الدنيا بمنظار أعوج مما أكسبه بلاهة تبدو واضحة لمن يراه، و مع ذلك فقد فاجأ أباه يوماً بسؤال يبدو تافها : سأله عن معنى كلمة سمعها في الطريق في مشهد أمامه، و هذه الكلمة هى محور القصة بل محور الحياة .. إنها "الظلم"

كان تفسير الأب لهذه الكلمة ظالما أيضا فقد أراد ضرب مثل للظلم ليقرب الصورة لابنه فذكر له "أن الخادمة عندما تجلس على مقاعد أسيادها الحريرية فهي ظالمة" أي أنه جعل مساواة الناس الأغنياء منهم و الفقراء نوعا من أنواع الظلم و هذا بالطبع تعريف ظالم و خاطئ!!

و لكن هل استوعب الفتى كلام أبيه؟ عندما يعجز العقل تقوى الفطرة، فقد أحس الفتى بفطرته أن تلك الكلمة لها شأن كبير و دور عظيم في لعبة الحياة و تعاملات البشر، فحفظها عن ظهر قلب و ظل يرددها، و من شدة التأثر راح يكتب تلك الكلمة في كل مكان تقع عينه عليه بدءا من منزله.. فما كان من الوالدين إلا التهديد و الوعيد، و ظنت الأم أن علاج الأزمة في مسح الكلمة من مواضعها في المنزل فمسحتها بقطعة قديمة من القماش.. و لكن هل يمسح الظلم بسهولة؟!

بعد أن استخدم الفتى الطباشير "الأبيض" في الكتابة داخل منزله لجأ إلى الفحم "الأسود" في الكتابة على مدى أوسع في الطرقات و على الجدران، و لم يكتف بهذا فاستخدم الأشد من ذلك "طلاء أسود" صعب إزالته ليدهن به تلك الكلمة على أبواب المحلات التجارية و يا لها من مصيبة لهذا التاجر الذي كتب على باب محله "ظلم" فذلك ينفر و يبعد الزبائن بالتأكيد..

الموضوع يزداد معه و لا يستطيع الفتى مقاومة يده التي تكتب الكلمة في أي مكان بالرغم من وعده لأبيه بعدم فعل ذلك.. و لكن ما باليد حيلة تلك الرغبة الجارفة دفعته- بعد هدوء نسبى- إلى "حفر" كلمة ظلم على باب دار "الحكومة" بقدرة غريبة و دون أن يشعر به أحد، و كاد أن يدخل السجن لولا شفقة رجال الشرطة!

و كانت النصيحة و الحل الأخير لهذه الحالة المتردية التي وصل إليها الفتى أن تهدأ أعصابه بالبعد عن مركز الأحداث التي تذكره بتلك الكلمة الرنانة فليذهب إلى الريف إذن، و اصطحبه والداه في رحلتهم بالقطار .. و لكن الأبوين – و يا للعجب - طاردتهم كلمة "ظلم" ليس بخط ابنهم هذه المرة؛ بل سمعاها في صوت احتكاك عجلات القطار مع القضبان في طريق طويل ممتد ...سمعاها بشكل مخيف و متكرر ..إنها تدوي "ظلم ظلم ظلم ".

و في النهاية.. من الظالم ؟ ذلك الفتى ظلم أصحاب المحلات الذين أفسد عليهم أبواب محلاتهم؟

أم الظلم نفسه الذي انتشر و توغل في كل مكان؟

أم أن الظالم و المظلوم وجهان لعملة واحدة فالمظلوم ظالم لنفسه بقبول الظلم و عدم الدفاع عن حقه ، و الظالم مظلوم باستسلام الناس له و عدم منعه من الاستمرار في الظلم؟

أم أن المظلوم في موقف ما هو نفسه ظالم لشخص آخر فى موقف ثان و هكذا.. يظلم القوى الأضعف منه فيظلم الضعيف بدوره من هو أشد ضعفا منه .. و بهذا تكتمل حلقة بغيضة من الظلم...

هل علمت الآن ما سر مطاردة الظلم للفتى و أسرته أينما ذهبوا؟ لأن وجود الظلم حقيقة لابد أن تظهر يوماً مهما حاول الناس إخفاءها و إنكارها.


 

ظلم – زكى نجيب محمود

كان الفتى فى عامه الثانى عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا ، فى عينيه اليمنى حول ظاهر ، ولايفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه ، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التى لايخطئها النظر .
سأل أباه ذات يوم اذ هما على مائدة الغداء ، فقال :
- كلمة ظلم ما معناها ؟؟
- وأين سمعتها ؟؟
- سمعتها رجلا يصيح بها فى الطريق ، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام ، وكان الشرطى من ورائه يصفعه ويركله .
- الظلم هو ان يوضع الانسان فى غير موضعه اللائق به ، فاذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم ، واذا اسندت الرياسة الى من لايستحقها فذلك ظلم ، واذا اخذ العامل اجرا على غير عمل فذلك ظلم ، واذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم ، كذلك من الظلم ان يفلت من العقاب من هو حقيق به ، وهكذا . كل هذه امثلة لناس وضعوا فى غير اماكنهم الصحيحة .
سمع الفتى هذه الاجابة من ابيه فى انصات ظاهر ، وكأنما أعجبه رنين الكلمة فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء ، وبلغاعجابه بالكلمة ان كان ينطق بها فى نغمات مختلفة ، ثم يضحك ضحكاته البلهاء .
ولما أصبح صباح اليوم التالى ، ارتاعت أم الفتى لما رأته فى كل ركن من أركان الدار......اذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة " ظلم " يكتبها على المقاعد والموائد والجدران ، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه ، فهى على أوانى المطبخ ، وهى على البلاط ، وهى على جوانب الاثاث ، وهى على السجاد القاتم ......
ونودى الغلام وسئل عما فعل ، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء ، وماذا يصنع الابوان فى ابن يعلمان فيه البلاهة ؟؟
انهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد الى مثل هذا العبث ، ثم طفقت الام تمسح " الظلم " من أجزاء بيتها بخرقة بالية ! .
ومضى يوم واحد ، جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه ، فقد ظفر بقطعة من الفحم ، وراح يتسلل الى حيث استطاع سبيل من دورهم ، وأخذ يخط كلمة " ظلم على الاشياء فيفسدها ، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم .
فضربه أبوه ، وسأله فى غيظ قائلا :
ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها فى كل مكان ، تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ؟
فاجاب الغلام بعينين دامعتين : لست ادرى يا أبت ! اعف عنى هذه المرة ولن أعود . لكن لم يكد يمضى يوم آخر ، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه ، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره فى يسر ، كما محيت آثار الفحم والطباشير ، ظفر بوعاء فيه طلاء اسود وفرجون ، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها ، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم ، على الطوار : " ظلم " ، " ظلم " فشوه بخطه الردئ من ناحية ، واساء الى المتاجر واصحابها من ناحية اخرى ، لأن هؤلاء يريدون اغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم ، لاتنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الردئ .
وهاهنا بلغ الغيظ من الوالد ابلغ مداه ، وجاء بغلامه امام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة ، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل ان تمس قلبه وهو الوالد .
وساله ابوه من جديد : ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ، ولهؤلاء الناس بالطلاء ؟
فاجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء : لست ادرى يا أبت ! اتركنى هذه المرة ، ولن اعود الى مثل ذلك ابدا .
لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها " ظلم " يصيب احدا من الناس ، وفى اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة ،وشغل الابوان وبحثا عنه فى مظانه كلها فلم يعثرا له على أثر حتى اذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها فى الليل ، دق الجرس وأسرع الابوان فى لهفة الى الباب ، فاذا ابنهما فى صحبة رجل من رجال الشرطة .
قال الشرطى : هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة : فأخذناه الى قسم الشرطة وكتبنا عن الامر " محضرا" لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا ، ورأينا ان تسوقه الى داره ليقضى ليله مع والديه حتى لايشغلا عليه بالا ونظر الغلام الى ابيه نظرة يطلب بها العفو والعطف ، فلم يسأله أبوه عن شئ ، وبات محزونا .
حتى اذا ما جاء الصبح ، وذهب الى الدار الحكومية التى أتلف الغلام بابها بمبراته ، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة " ظلم " – حفرها كلمة كبيرة عميقة ، حتى ليدهش الرائى كيف استطاع ان يصنع ذلك كله فى ظلمة الليل ، وأين كان الحارس طول الساعات التى استغرقها الفتى فى حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين .
واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران ان يخلوا له سبيل الغلام ، وكان ذلك بمشورة طبيب استشارة الوالد فى أمر ولده ، فأشار الطبيب بأن يصحب ابوان ابنهما الى مكان من الريف لتهدأ اعصابه لأنه مريض .
وكم عجب الوالدان وهما فى القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان فى صوت واضح لاسبيل الى إنكاره : ظلم . ظلم . ظلم .


 

السبت، 15 أغسطس 2009

هكذا يكون الطبيب

نجيب محفوظ اسم اشتهر في عالم الأدب ..و لعل سر تسميته بهذا الاسم هو أن الدكتور نجيب محفوظ قام بالإشراف على ولادته و من هنا جاءت تسميته فكأن اسم نجيب محفوظ رمزاً للنبوغ و الشهرة و العالمية.

و حديثنا اليوم عن الطبيب و ليس الأديب نجيب محفوظ الذي كانت مروءته و إحساسه العميق بمسئولية ورسالة الطبيب سبباً في أن في مجال النساء و التوليد بدلا من الجراحة و أن يكون ذلك فاتحة خير بالنسبة له ليحقق نجاحا باهرا و يساهم في نهضة علمية كبيرة في مصر و العالم.


 

وليد ذي رأس مقطوع يحول مسار الدكتور نجيب محفوظ:

رافق الدكتور نجيب أحد الأطباء الأجانب ليشرف على وضع البنج لإحدى السيدات المتعسرات في الولادة و شاهد كيف استعمل الطبيب الجفت لشد الطفل و لما لم يفلح أداره قليلا و حاول إخراج قدميه ثم باقي جسمه و سأل الدكتور الأجنبي نجيب أن يساعده في جذب الطفل و لكنه اعتذر حيث لم تكن له خبرة سابقة في التوليد فقد كانت كل معلوماته من خلال قراءته في بعض الكتب التي أهداها له أحد أصدقائه ، و لم يفلح الطبيب في إخراج الرأس فقطعت بداخل رحم الأم و ماتت الأم و بداخلها رأس الجنين في نهاية مأساوية و لم يستطع نجيب أن ينسى منظر الطفل وهو بدون رأس فقد آلمه أنه لم يستطع أن يساهم في إنقاذ هذه السيدة و منذ هذه اللحظة عاهد نفسه على أن يهب حياته لطب النساء و الولادة لإنقاذ المتعسرات في الولادة ، و كم هو هدف نبيل أن يجتاز المصاعب ليخفف من آلام المرضى مهما بذل من جهد و سهر في سبيل ذلك0


 

مروءة الطبيب

و له مواقف نادرة فقد كان جهز نفسه لرحلة علمية في أوروبا و رتب كل شيء و حجز تذاكر السفر ثم حدث أن جاءته إحدى السيدات مصابة أثر الولادة و كانت تسكن في أقصى الصعيد و نصحوها بالذهاب إلى نجيب محفوظ لأنه الوحيد المتخصص في مرضها ، و لأنها كانت فقيرة و لابد لها من العلاج فقد قطعت الطريق كله من بلدتها إلى القصر العيني سيرا على الأقدام مستجدية من الناس ما يسد رمقها و عندما وصلت المستشفى وقعت على الأرض بين الحياة و الموت و عندما علم بذلك الدكتور نجيب أدخلها المستشفى أعدها للعملية و أجل سفره حتى لا تنتظره المريضة و هي في هذه الحالة، فهل سمعتم عن طبيب يؤجل سفره بسبب مريض كأن هذا المريض من أهله أو عشيرته؟!


 

صدف عجيبة

كانت دعوات المريضات اللاتي دعون الله له عرفانا بعلاجه لهن و شفائهن على يديه مجابة فقد حالفه التوفيق في مراحل حياته المختلفة و نجى من مخاطر مميتة كان من الممكن أن تودي بحياته عدة مرات ؛ فقد زار في رحلة سياحية بركان فيزوف و تسلقه و عندما غادر المدينة التي تحتويه انفجر البركان و تسببت الحمم البركانية المنصهرة في موت الآلاف من سكانها و السياح الذين تصادف وجودهم في لحظة الانفجار، و مرة أخرى تأخر عن القطار الذي سيركبه في أوروبا فإذا به يسمع في اليوم التالي أنه اصطدم بآخر لنقل البضائع ، و كذلك سقوط طائرة كان من المفترض أنه بداخلها لولا أنه أجل سفره ؛ و غير ذلك من الصدف العجيبة ، بل لقد لحق الحظ السعيد أحد أصدقائه القدامى في دمياط عندما قام لتوه من مكانه بالقهوة التي كان يجلس بها ليسلم على نجيب محفوظ فإذا بالشرفة التي كان يجلس تحتها صديقه تنهار و يموت من كان يجالسه في القهوة!.


 


 

الاثنين، 3 أغسطس 2009

طب النفس

هذه المقالة للكاتب أحمد أمين كتبت فى عام 1940 تقريبا أى منذ ما يقرب من 70 عاما و لكنها لا تزال تنبض بالحياة و تشع بالفائدة فهى تعكس خاصية للإنسان و هى إهمال الجانب الروحى والتعلق الشديد بالجانب الحسي من حياته و يتعرض لأسباب ذلك و نتائجه ، و إن كان الزمان اختلف و الاهتمام بالطب النفسي في تقدم و تطور اليوم عن الأمس، أما عن نظرته للمثقف فنظرة يشوبها نوع من المبالغة ، فليس على الإنسان أن يقف عند حدود إمكانياته بل يتطلع و يطمح إلى التغيير و اكتساب مهارات جديدة؛ فإن أخفق فيكفيه شرف المحاولة ، و إنما المطلوب منه الصدق مع نفسه و مراجعتها بين الحين و الآخر لمعرفة الطريق السليم و إعادة تكوين - و ليس تطبيع- نفسه بما يلائمها و يتناسب مع قدراتها بلا شطحات و لا خيالات غير قابلة للتحقيق حتى لا يضيع عمره و يصاب بالصدمات النفسية عند تكرار الفشل.

و لا شك أن الكاتب في تطرقه لها الموضوع أثار قضيه هامة تخص المجتمع و خاصة شريحة هامة منه هى شريحة المثقفين ، و أهمية السلامة النفسية للإنسان و تقديمها على السلامة الجسمية.

و نستعرض الآن أجزاءً من المقال:


 

من المشاهد أن الناس يؤمنون أشد الإيمان بمرض أجسامهم و لا يؤمنون بمرض نفوسهم، فإذا شعر أحدهم بمرض جسمي أسرع إلى الطبيب باذلاً الأموال مهما جلت ثم هو يمرض نفسياً فلا يهتم بذلك كأن نفسه أهون عليه من جسمه، و روحه أتفه من بدنه.

آلام الناس من نفوسهم أكثر من آلام جسومهم، و أضرار المجتمعات من مرضى النفوس تفوق أضرارها من مرضى الجسوم، و للنفس أمراض لا حصر لها ؛ فهناك حميات نفسية متعددة كحميات الأجسام و هناك ميكروبات نفسية كالميكروبات المادية ، و هناك عدوى تصيب النفوس كعدوى الأجسام و كذلك انفعالات تحرق النفس و تضني البدن، و لكل من هذه الأمراض علاجات تختلف باختلاف المرض و الشخص.


 

و السبب في أن الناس تنصرف عن علاج نفوسهم أنهم لا يزالون يسبحون في دائرة الحس وحده و لم يرتقوا إلى ملاحظة النفوس و شئونها، أو لأنهم لا يؤمنون بأطباء النفوس إيمانهم بأطباء الأجسام فلا يعتقدون في صلاحيتهم و يتشككون في قدرتهم على العلاج فيستسلمون للمرض النفسي كما يستسلمون لمرض جسمي استحال شفاؤه، و قد يكون السبب ن الناس يؤمنون بسهولة أمراض النفوس و قدرتهم على الشفاء منها بدون طبيب و هذا خطأ فادح؛ فأمراض النفوس كأمراض الجسم فيها ما يداوي و فيها ما يستعصي على الطبيب الماهر.


 

لأمراض النفس سباب عدة من حالة صحية و بيئة اجتماعية و بذور ميكروبات تسربت إليها من كتب قرتها و أحاديث سمعتها و مناظر رأتها، و لعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين

و سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم و يريدون أن يكونوا غيرهم.

لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها و مختلفة في جهات أخري ، فكل وجه به عينان و أنف و غم و لكن لكل إنسان وجهه الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره.

كذلك النفوس ؛ لكل إنسان نفسه الخاصة و مما ألاحظه أن نفس كل إنسان إن سارت على فطرتها و عرفت أن تتغذى بما يناسبها و طلبت لها مثلاً أعلى يتفق و طبيعتها عاشت في الأغلب راضية مطمئنة، و إن خالفت فطرتها و حاولت أن تكون غيرها أظلمت و أصابها الحزن و القلق و الاضطراب ، و فقدت سعادتها و اطمئنانها، و محال أن تنال ما يخالف فطرتها.


 

يسعد الإنسان إذا عرف طبيعته و حدوده التي لا يستطيع أن يصل إليها و نوع الرقي الذي يمكن أن يبلغه ، فإن حاول أن يكون غير ذلك كان في الحياة ممثلاً لا يعيش الطبيعة و محال أن يوائم بين نفسه الحقيقية و الدور الذي يمثله إلا بمقدار ما يظهر علي المسرح فإن هو حاول أن يطيل ذلك فجزاؤه السخرية منه و قلق نفسه و اضطراب شأنه.

فأكثر أسباب اضطراب المثقف ناشئ من أنه غبي يريد أن يكون ذكياً، أو ميال بطبعه إلى العزلة و الانكماش يريد أن يكون وجيهاً شهيراً، أو عالم يريد أن يكون أديباً أو العكس أو خجل يريد أن يكون وقحاً... ثم يخفق و يخفق، لأنه يكلف نفسه ضد طباعها و هذا الإخفاق يهز نفسه هزة عنيفة تسبب له القلق الروحي و الاضطراب النفسي، هو بذلك يريد أن يكون إنسانا صناعيا و هو مخلوق إنسانا طبيعياً؛ فالتوفيق محال فخير نصيحة لهذا و لأمثاله أن نقول له:

"كن نفسك و لا تنشد إلا مثلك"


 

الجمعة، 31 يوليو 2009

عظات و عبر من سورة يوسف

سورة يوسف اشتملت على كثير من الفوائد و العبر، و صدق الله العظيم إذ ختمت السورة بقوله تعالى "إن في قصصهم لعبرة لأولى الأبصار" و من تلك الفوائد:

  • جواز استعمال الحيل و المكايد التي يتوصل بها الإنسان إلى الحقوق كما فعل يوسف حيث ألقى الصواع (إناء الملك) في متاع أخيه ثم استخرجها منه ليوهم بأنه سارق و يبقى أخاه عنده ، إنما الممنوع هو التحايل بالمكر لإسقاط واجب.
  • أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة و سوء حال أن يعترف بنعمة الله عليه و يتذكر حالته الأولى كما قال يوسف "و قد أحسن بى إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو".
  • جواز إخبار الإنسان بما يجد من مرض أو فقر بدون تسخط على قدر الله كما قال إخوة يوسف "يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر" و لم ينكر عليهم أخوهم يوسف قولهم.
  • الحذر من شؤم الذنب و أن الذنب الواحد يستتبع ذنوباً متعددة فأخوة يوسف لما أرادوا التفريق بين يوسف و أبيه احتالوا لذلك بأنواع من الحيل و كذبوا عدة مرات و زوروا القميص و الدم الذي به و اتهموا الذئب بأكله.
  • الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة فإن امرأة يوسف قد كان منها ما جرى بسبب توحدها بيوسف و حبها الشديد له.
  • ينبغي للمرء إذا رأى محلاً فيه فتنة و أسباب معصية أن يفر منها و يهرب ليتمكن من التخلص من المعصية كما فر يوسف هاربا يطلب الباب ليتخلص من شر امرأة العزيز
  • أن المؤمن إذا خير بين أمرين إما فعل معصية و إما عقوبة دنيوية أن يختار العقوبة الدنيوية على اقتراف الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا و الآخرة.
  • أن من دخل الإيمان قلبه و كان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه و صدق إخلاصه الكثير من أنواع السوء و الفحشاء "و هم بها لولا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين".
  • لابد للمؤمن البعد عن أسباب الشر و كتمان ما تخشى ضرره و هذا من الأخذ بالأسباب ، كما فى قول يعقوب "يا بنى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً".
  • لا بأس للإنسان أن يخبر عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل إذا كان في ذلك مصلحة و لم يقصد به الرياء أو الكذب لقول يوسف "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
  • أن من وقع في مكروه أو شدة لا بأس بأن يستعين بمن له القدرة على تخليصه و هذا لا يناقض التوكل على الله بل هو من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس ببعضهم كما قال يوسف للذي ظن انه ناج من الفتيين الذين طلبا منه تعبير الرؤيا "اذكرني عند ربك" أي اذكرني عند سيدك ، و لكن كل شيء يقدره الله بحكمة فقد أنسى الشيطان ذلك الفتى طلب يوسف و لم يتذكر إلا عندما طلب الملك تأويل و تفسير رؤيته ".
  • أن الفرج مع الكرب و أن مع العسر يسراً فلما طال الحزن على يعقوب و اشتد به و فقد يوسف و أخاه و مسه الضر و الاضطرار؛ أذن الله بالفرج و تم بذلك الأجر و حصل السرور و عاد إلى يعقوب بصره فإنما يبتلى الله أوليائه ليمتحن صبرهم و شكرهم ثم يوفيهم أجرهم بغير حساب.

إن القصص القرآني زاخر بالعظات و العبر و ما هذه الفوائد إلا نقطة صغيرة في بحر التدبر في قصة يوسف عليه السلام ؛ نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا و أن يزيدنا علماً.


الجمعة، 24 يوليو 2009

واأسفي على يوسف

الأبناء هم قرة العين و مهما زاد عددهم و تباينت أعمارهم فلكل منهم محبة و ذكريات خاصة، و بالرغم من تحقيق العدل بينهم إلا أن للقلب شأن آخر؛ فقد يميل و يهفو لأحد الأبناء لصغر سنه أو لجماله الشديد و براءة نفسه، فيبدو الحب و ينكشف مكنون الصدر رغم عدم التصريح، ظاهرا لباقي الأبناء مثيرا لدواعي الغيرة فيستجيب الأخوة لنزغ الشيطان و همزاته بمحاولة إيذاء ذلك الأخ المميز المصطفى ذي الحظوة و المكانة عند أبيه، أو التخلص منه نهائيا ليخلو لهم الجو و تصفو لهم مشاعر أبيهم و ينصرف إليهم بعطفه و اهتمامه، و هم يرون أن تصرفهم هذا له مبرر؛ فأبوهم في ضلال مبين بحبه الشديد لهذا الأخ، و لابد لهم أن يعالجوا الأمر بطريقتهم، ثم يتوبون من الذنب - و الله غفور رحيم - فيفوزوا بحب أبيهم وعفو ربهم و يكونوا من الصالحين.

و ما أشد فجيعة الأب عندما يصدم بفقد ولده الحبيب و الحرمان من رؤيته خاصة إذا كان يتوقع ذلك بإلهام من الله؛ و على يد من؟ إخوته...الذين هم أيضاَ أبناؤه و سنده في شيخوخته الطاعنة، الذين ادخرهم لحماية أخيهم العزيز و رعايته صغيرا حتى يبلغ أشده و يصبح في قوتهم و بأسهم...

قصة يوسف عليه السلام من أجمل القصص القرآني و هي آية في التصوير الفني لحياة نبي كريم ، و قد ذكر الله القصة كاملة في سورة يوسف بينما ذكرت قصص أخرى منفصلة في سور مختلفة و لذلك حكمة ، فقصة يوسف وجدانية تتعلق بمشاعر غيرة و إيذاء و حب و خيانة و ظلم و سرقة و حيلة و مفاجآت كثيرة؛ التقاء بعد طول شتات و رؤية بعد عمى و تحقيق رؤيا بعد سنين طويلة .. و كل هذه المشاعر يكتمل الإحساس بها إذا جمعت في سياق سورة واحدة حتى لا تنسى بعض أحداثها من الذهن بل تكون جميعها في خيط واحد متصل.

لقد ثبته الله في أصعب اللحظات و هو لا يزال صغيرا ملقى في ظلمات بئر بعد أن انتزعه إخوته من حنان أبيه فقد أوحى إليه في تلك اللحظة أن ستأتي لحظة أخرى في حياته يخبر إخوته عما فعلوا به في طفولته و هم لا يعرفونه: "و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون" فما أرحمه سبحانه و لطفه بعباده.

سميت السورة باسم النبي يوسف الذي تعرض لكثير من الفتن و الابتلاءات و حفظه الله بحسن خلقه و صرف عنه شرورا كثيرة و رفعه مكانا عاليا بتأويله رؤيا الملك و انقاد مصر و ما حولها من سنين جدباء و أصبح على خزائن مصر يدير أمورها بحكمة و أمانة؛ كما كان تفسير يوسف لتلك الرؤيا سببا في خروجه من السجن و إبرائه من تهمة امرأة العزيز له و أن يصبح مقربا خالصا للملك، و كان لتلك السنين العجاف حكمة في أن يأتي إخوته إلى مصر للحصول على طعام و يتم لقاؤه بهم و تتحقق الرؤيا.

و ما أكثر المفاجآت التي احتوتها قصة يوسف مثل:

  • خروج يوسف من البئر على يد من ألقى بالوعاء في البئر ليخرج الماء "قال يا بشرى هذا غلام"
  • حضور فرعون ليجد امرأته ممسكة بجزء من ثوب يوسف المقطوع "و ألفيا سيدها لدى الباب"
  • انبهار النسوة بجمال يوسف و جرح أيديهن عند رؤيته "فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن "
  • اكتشاف وجود إناء الملك في أمتعة الأخ الأصغر ليوسف و اتهامهم بالسرقة لإبقاء ذلك الأخ مع يوسف "ثم استخرجها من وعاء أخيه"
  • مقابلة يوسف لإخوته و هم يجهلونه و دهشتهم الشديدة لذلك "قالوا أئنك لأنت يوسف"
  • ارتداد البصر ليعقوب بعدما القوا قميص يوسف على وجهه "فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا"

و كل هذه المفاجآت تزيد من حيوية القصة الكريمة و كمال تأثيرها و سبحان الله العظيم

و أشد الآيات تأثيرا عندما علم يعقوب بفقد الأخ الأصغر ليوسف

"قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * و تولى عنهم و قال يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون * يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"

لقد اعتزلهم و اختلى بربه القريب؛ لتفيض نفسه و عينه بالدموع بعيدا عن لومهم له، و كانت النتيجة هي فقدان البصر

و ما كان لوم أبنائه له إلا من خشيتهم عليه أن يهلك و يموت من شدة الحزن على يوسف بعد كل هذه السنوات، و لكنه يشتكي إلى الله، و إلى من يشتكى الإنسان؟ إلى بشر مثله ضعيف أم إلى قريب مجيب؟ فمن التجأ إلى الله فقد احتمى بركن شديد...

حتى في أقسى اللحظات، لم يفقد يعقوب الأمل بل أمر أبنائه بالرجوع إلى مصر و عدم اليأس من روح الله ...و تم اللقاء و اجتمع الشمل و طابت النفوس.

و تتجلى قوة الإيمان عندما يستحضر يوسف عليه السلام فضل الله عليه في لحظة تحقيق رؤيته؛ راجيا منه أن يتولاه و يرعاه ، آملا في حسن الخاتمة.

"رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات و الأرض أنت ولى في الدنيا و الآخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين"


 

و للحديث بقية....


 

الجمعة، 10 يوليو 2009

احذر الذنوب

تشعر بضيق في صدرك تتلون معه الحياة باللون الأسود؟

تشعر بوحشة بالرغم من وجود الناس حولك؟

تحيط بك الهموم من كل جانب؟

تتعلق نفسك بأمل بعيد المنال كلما اقتربت منه ازداد عنك بعداً؟

تشعر بحاجز بينك و بين الله عندما تصلى أو تدعو؟

تتوالى عليك المحن و لا تدري ما السبب؟

إنها الذنوب و هذه علامات و دلائل هامة لتكاثرها، و علاجها الأكيد في الاستغفار...


 

الاستغفار هو طريق النجاة من هذه المهالك، فمغفرة الله تضاعف الرزق بجميع أنواعه في المال و الزرع و الأولاد ؛فما أكرمه عز و جل، اقرأ معي قول الله تعالى "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرار و يمددكم بأموال و بنين و يجعل لكم أنهارا"

و لابد أن يقترن الاستغفار بالتوبة من الذنوب و العزم القوى على هجرها و اجتنابها.

ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه و إن تاب منها و أقلع عنها، فمن الناس من يسكن و يطمئن إلى قبول التوبة بلا خوف أو ندم، و قد يسهل عليه العودة إلى الذنوب بلا مقاومة للشيطان و كيده و تحايله بكل السبل ليرجع الإنسان إلى ظلمة المعصية مرة أخرى.

و لنا في الأنبياء أسوة حسنة؛ ورد في الصحاح أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون اشفع لنا فيقول: ذنبي؛ و إلى نوح عليه السلام فيقول: ذنبي؛ و إلى إبراهيم و موسى و إلى عيسى صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين فيقولون مثل قولهم ، فهل كان لهؤلاء الأنبياء ذنوباً؟ لم تكن ذنوباً حقيقية ثم إنهم تابوا إلى الله و مع ذلك هم على خوف من الله.


 

و للمعاصى من الآثار القبيحة المضرة بالقلب و البدن ما لا يعلمه إلا الله ، منها تعسير الأمور على العاصي؛ فكما أنه من اتقى اللهً جعل له من أمره يسراً؛ فمن ترك التقوى جعل له من أمره عسراً، فهو يجد ظلمة في قلبه حتى أنه يقع في البدع و الضلالات و الأمور المهلكة و هو لا يشعر– قال تعالى "و لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" .


 

و المعاصي تقصر العمر و تمحق البركة ، كما أنها تتكاثر بمعنى أن تكون سبباً في توالد معاصي أخرى حتى ليصعب على العبد الإقلاع عنها؛ و يكون عقاب الله له أن يرسل على الذي يعتاد ارتكاب المعاصي الشياطين لتغريه بالشر وتدفعه إليها دفعاً– قال تعالى "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً" .

و تجد العاصي هيناً على ربه - وما أشد ذلك - فإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد ، قال تعالى "و من يهن الله فما له من مكرم" و بالتالى تورثه ذلاً لا يفارقه إلا أن يتوب.

كما أن تكرار الذنوب يطبع على قلب صاحبها فيكتب من الغافلين و يكون على قلبه غطاء كثيف لا يتخلله نور الإيمان- قال تعالى "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"

و تكون المعاصي سببا لزوال النعم و مجيء النقم - قال تعالى "و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير".

فجدير بالمؤمن ألا ينظر إلى كبر الذنب أو صغره فى نفسه بل ينظر إلى قدر من عصاه و انتهك محارمه – قال تعالى "ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه"


 

و ما أصدق قول أحد العارفين:


و ترك الذنوب حياة القلوب *** و خير لنفسك عصيانها


 


 


 

الجمعة، 3 يوليو 2009

خلود الجدود

الأهرامات .. كلمة تثير في النفس المصرية الشموخ و الفخر و الحزن و الحسرة على المجد الغابر فما أعظم الفرق بين المصري القديم و المصري الحديث

نظرة إلى أعلى إلى قمة الهرم التي تناطح السحاب ثم ينحسر البصر خاسئا مرتداً إلى أرض الواقع و ما وصلت إليه الأحوال الحالية من سلبيات و إهمال و نفوس محبطة....

كلما نظرت إلى الأهرامات تقف مشدوداً منبهراً حتى لو كانت المرة المليون التي تشاهدها فيها..و لعل السبب في ذلك أنك تشعر بتضاؤل الكائنات الأخرى بجانب حجم الهرم بل حجر واحد من حجارته و تخيل عملية نقل الحجارة الكبيرة واحدة فوق الأخرى و تصميم مداخل و دهاليز بداخله و أسرار حيرت العالم و جعلتها معجزة من معجزات الدنيا..

و صمودها عبر الزمن لتشهد بحضارة و مجد المصري القديم جيلا بعد جيل غير عابئة بما يدور حولها من كوارث مثل الزلازل وعوامل التعرية و الحرائق و الحروب و غيرها من الحوادث التي مرت عليها فلم تزدها إلا رسوخا في الأرض وعلوا في السماء و شهرة و انجذاب لها من جميع الأنحاء.

أهمية الأهرامات في العقيدة المصرية القديمة

كان أول ما يفكر فيه ملوك مصر عقب توليهم الحكم و الانتهاء من مراسم دفن الملك السابق هو الإعداد لمكان يليق بدفنهم حيث كانوا يؤمنون بالبعث و الخلود و من هنا كان حرصهم الشديد على دفن ممتلكاتهم الثمينة معهم .و أن تكون أماكن دفنهم على درجة عالية من الفخامة و الإبداع و أعلى مستوى من الحماية من اللصوص.

إبداع لن يتكرر:

خضع موقع الهرم لدراسات جيولوجية و فلكية حيث كان هناك عاملان هامان في تحديده؛ أولهما أن يكون الهرم في الناحية الغربية حيث توجد مملكة الموتى ، و الثاني أن تكون الهضبة التي سيبنى فوقها صالحة للبناء و أن يكون المكان متصلاً بنهر النيل لتسهيل نقل الأحجار من المحاجر إلى موقع الهرم.

ارتبط اختيار مدخل الهرم بمكان النجوم التي تقع في الشمال حيث كان المصري القديم يعبد الإله رع إله السماء الذي يشرق و يغرب في السماء ؛و لهذا اعتبروا الهرم سلماً يدفن داخله الملك ليصعد عن طريقه إلى السماء فالشكل الهرمي يمثل رمزا من رموز الشمس.

أما طريقة تثبيت حجارة الأهرامات الضخمة فهي بدون استخدام الملاط مطلقا لكن باستخدام فكرة كاسات الهواء: يملئون الحفر الني فوق الحجر بنوع من النفط ثم يشعلونها و يضعون الحجر الآخر فوقها فتحدث خلخلة في الهواء تثبت الحجرين معاً.

لماذا الشكل الهرمي؟

من خصائص الشكل الهرمي أنه يعيد تلميع العملات المتأكسدة و يساعد علي التئام الجروح و الحروق في فترة قصيرة - و حتى الحالة النفسية يفيدها فالجلوس تحت حيز هرمي الشكل يبعث على الشعور بالراحة و تخفيف التوتر و القلق كما يسبب حالة من التأمل و الهدوء.

و يقال أن درجة الحرارة داخل غرفة دفن الملك بالهرم الأكبر علي مدار العام لا تتعدي 22 درجة وهى درجة حرارة وسط بين البرودة و الحرارة و سبب ذلك و جود ثقبين يخترقان الصخور.

قمة الهرم:

أظهرت الدراسات العلمية أن قوة الهرم تتركز في نقطة التقاء المثلثات الأربعة التي تمثل أوجه الهرم ، و من تجارب الذين استطاعوا الصعود إلى قمة الهرم و الوقوف عليها :تحدث أحدهم عن شعوره بشحنة كهربية جارفة ، و آخر تحدث عن إحساسه بمجال طاقة رهيب يدفعه للهبوط قبل أن يفقد إحساسه و غير ذلك من الأقاويل العجيبة.

براعة المصري في إخفاء الكنوز:

حرص الملك خوفو على إخفاء حجرة الدفن الخاصة به عن طريق أجزاء ضخمة من أحجار الجرانيت لإغلاقها ووضع نصوص تحذيرية أمام مدخل المقابر تتوعدهم بلعنة تصيبهم إن هتكوا حرمتها و قدسيتها.

تكريم و تشريف:

كان العمال القائمين بأعمال البناء و نقل الحجارة يعملون برضاهم و يأخذون أجرا على عملهم و ليس بتسخيرهم لأن السخرة يمكن أن تنتج مباني ضخمة و لكن ليس فيها إبداع أو إعجاز فني مثل الأهرامات، و تكريماً لهم فقد تم تخصيص مقابر لدفنهم بجوار الهرم مثل مقابر النبلاء و الموظفين و ذلك يعكس الذكاء و حسن الإدارة.


 

كيف تصل للميت كنوزه (وجهة نظر حديثة جداً):

إذا كان المصري القديم قد حرص كل الحرص على أن يدفن معه كنوزه و مجوهراته و أجهد عقله في التخطيط لهذا و تضليل اللصوص لكيلا يصلوا إليها؛ فإن التفكير في هذا الأمر من الناحية الإسلامية سهل و بسيط جدا: يتصدق بها ابتغاء وجه الله؛ فيصله الثواب موفورا مضاعفا، كاملاً غير منقوص، و ينعم في الجنة بما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و شتان بين حلى الجنة من ذهب و لؤلؤ و فضة و حلى الدنيا، و ما عند الله خير و أبقى.