الأحد، 23 أغسطس 2009

مطاردة الظلم

بطل القصة فتى ليس وسيما و لا ذكيا، أحول و يرى الدنيا بمنظار أعوج مما أكسبه بلاهة تبدو واضحة لمن يراه، و مع ذلك فقد فاجأ أباه يوماً بسؤال يبدو تافها : سأله عن معنى كلمة سمعها في الطريق في مشهد أمامه، و هذه الكلمة هى محور القصة بل محور الحياة .. إنها "الظلم"

كان تفسير الأب لهذه الكلمة ظالما أيضا فقد أراد ضرب مثل للظلم ليقرب الصورة لابنه فذكر له "أن الخادمة عندما تجلس على مقاعد أسيادها الحريرية فهي ظالمة" أي أنه جعل مساواة الناس الأغنياء منهم و الفقراء نوعا من أنواع الظلم و هذا بالطبع تعريف ظالم و خاطئ!!

و لكن هل استوعب الفتى كلام أبيه؟ عندما يعجز العقل تقوى الفطرة، فقد أحس الفتى بفطرته أن تلك الكلمة لها شأن كبير و دور عظيم في لعبة الحياة و تعاملات البشر، فحفظها عن ظهر قلب و ظل يرددها، و من شدة التأثر راح يكتب تلك الكلمة في كل مكان تقع عينه عليه بدءا من منزله.. فما كان من الوالدين إلا التهديد و الوعيد، و ظنت الأم أن علاج الأزمة في مسح الكلمة من مواضعها في المنزل فمسحتها بقطعة قديمة من القماش.. و لكن هل يمسح الظلم بسهولة؟!

بعد أن استخدم الفتى الطباشير "الأبيض" في الكتابة داخل منزله لجأ إلى الفحم "الأسود" في الكتابة على مدى أوسع في الطرقات و على الجدران، و لم يكتف بهذا فاستخدم الأشد من ذلك "طلاء أسود" صعب إزالته ليدهن به تلك الكلمة على أبواب المحلات التجارية و يا لها من مصيبة لهذا التاجر الذي كتب على باب محله "ظلم" فذلك ينفر و يبعد الزبائن بالتأكيد..

الموضوع يزداد معه و لا يستطيع الفتى مقاومة يده التي تكتب الكلمة في أي مكان بالرغم من وعده لأبيه بعدم فعل ذلك.. و لكن ما باليد حيلة تلك الرغبة الجارفة دفعته- بعد هدوء نسبى- إلى "حفر" كلمة ظلم على باب دار "الحكومة" بقدرة غريبة و دون أن يشعر به أحد، و كاد أن يدخل السجن لولا شفقة رجال الشرطة!

و كانت النصيحة و الحل الأخير لهذه الحالة المتردية التي وصل إليها الفتى أن تهدأ أعصابه بالبعد عن مركز الأحداث التي تذكره بتلك الكلمة الرنانة فليذهب إلى الريف إذن، و اصطحبه والداه في رحلتهم بالقطار .. و لكن الأبوين – و يا للعجب - طاردتهم كلمة "ظلم" ليس بخط ابنهم هذه المرة؛ بل سمعاها في صوت احتكاك عجلات القطار مع القضبان في طريق طويل ممتد ...سمعاها بشكل مخيف و متكرر ..إنها تدوي "ظلم ظلم ظلم ".

و في النهاية.. من الظالم ؟ ذلك الفتى ظلم أصحاب المحلات الذين أفسد عليهم أبواب محلاتهم؟

أم الظلم نفسه الذي انتشر و توغل في كل مكان؟

أم أن الظالم و المظلوم وجهان لعملة واحدة فالمظلوم ظالم لنفسه بقبول الظلم و عدم الدفاع عن حقه ، و الظالم مظلوم باستسلام الناس له و عدم منعه من الاستمرار في الظلم؟

أم أن المظلوم في موقف ما هو نفسه ظالم لشخص آخر فى موقف ثان و هكذا.. يظلم القوى الأضعف منه فيظلم الضعيف بدوره من هو أشد ضعفا منه .. و بهذا تكتمل حلقة بغيضة من الظلم...

هل علمت الآن ما سر مطاردة الظلم للفتى و أسرته أينما ذهبوا؟ لأن وجود الظلم حقيقة لابد أن تظهر يوماً مهما حاول الناس إخفاءها و إنكارها.


 

ظلم – زكى نجيب محمود

كان الفتى فى عامه الثانى عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا ، فى عينيه اليمنى حول ظاهر ، ولايفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه ، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التى لايخطئها النظر .
سأل أباه ذات يوم اذ هما على مائدة الغداء ، فقال :
- كلمة ظلم ما معناها ؟؟
- وأين سمعتها ؟؟
- سمعتها رجلا يصيح بها فى الطريق ، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام ، وكان الشرطى من ورائه يصفعه ويركله .
- الظلم هو ان يوضع الانسان فى غير موضعه اللائق به ، فاذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم ، واذا اسندت الرياسة الى من لايستحقها فذلك ظلم ، واذا اخذ العامل اجرا على غير عمل فذلك ظلم ، واذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم ، كذلك من الظلم ان يفلت من العقاب من هو حقيق به ، وهكذا . كل هذه امثلة لناس وضعوا فى غير اماكنهم الصحيحة .
سمع الفتى هذه الاجابة من ابيه فى انصات ظاهر ، وكأنما أعجبه رنين الكلمة فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء ، وبلغاعجابه بالكلمة ان كان ينطق بها فى نغمات مختلفة ، ثم يضحك ضحكاته البلهاء .
ولما أصبح صباح اليوم التالى ، ارتاعت أم الفتى لما رأته فى كل ركن من أركان الدار......اذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة " ظلم " يكتبها على المقاعد والموائد والجدران ، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه ، فهى على أوانى المطبخ ، وهى على البلاط ، وهى على جوانب الاثاث ، وهى على السجاد القاتم ......
ونودى الغلام وسئل عما فعل ، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء ، وماذا يصنع الابوان فى ابن يعلمان فيه البلاهة ؟؟
انهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد الى مثل هذا العبث ، ثم طفقت الام تمسح " الظلم " من أجزاء بيتها بخرقة بالية ! .
ومضى يوم واحد ، جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه ، فقد ظفر بقطعة من الفحم ، وراح يتسلل الى حيث استطاع سبيل من دورهم ، وأخذ يخط كلمة " ظلم على الاشياء فيفسدها ، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم .
فضربه أبوه ، وسأله فى غيظ قائلا :
ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها فى كل مكان ، تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ؟
فاجاب الغلام بعينين دامعتين : لست ادرى يا أبت ! اعف عنى هذه المرة ولن أعود . لكن لم يكد يمضى يوم آخر ، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه ، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره فى يسر ، كما محيت آثار الفحم والطباشير ، ظفر بوعاء فيه طلاء اسود وفرجون ، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها ، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم ، على الطوار : " ظلم " ، " ظلم " فشوه بخطه الردئ من ناحية ، واساء الى المتاجر واصحابها من ناحية اخرى ، لأن هؤلاء يريدون اغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم ، لاتنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الردئ .
وهاهنا بلغ الغيظ من الوالد ابلغ مداه ، وجاء بغلامه امام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة ، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل ان تمس قلبه وهو الوالد .
وساله ابوه من جديد : ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ، ولهؤلاء الناس بالطلاء ؟
فاجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء : لست ادرى يا أبت ! اتركنى هذه المرة ، ولن اعود الى مثل ذلك ابدا .
لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها " ظلم " يصيب احدا من الناس ، وفى اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة ،وشغل الابوان وبحثا عنه فى مظانه كلها فلم يعثرا له على أثر حتى اذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها فى الليل ، دق الجرس وأسرع الابوان فى لهفة الى الباب ، فاذا ابنهما فى صحبة رجل من رجال الشرطة .
قال الشرطى : هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة : فأخذناه الى قسم الشرطة وكتبنا عن الامر " محضرا" لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا ، ورأينا ان تسوقه الى داره ليقضى ليله مع والديه حتى لايشغلا عليه بالا ونظر الغلام الى ابيه نظرة يطلب بها العفو والعطف ، فلم يسأله أبوه عن شئ ، وبات محزونا .
حتى اذا ما جاء الصبح ، وذهب الى الدار الحكومية التى أتلف الغلام بابها بمبراته ، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة " ظلم " – حفرها كلمة كبيرة عميقة ، حتى ليدهش الرائى كيف استطاع ان يصنع ذلك كله فى ظلمة الليل ، وأين كان الحارس طول الساعات التى استغرقها الفتى فى حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين .
واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران ان يخلوا له سبيل الغلام ، وكان ذلك بمشورة طبيب استشارة الوالد فى أمر ولده ، فأشار الطبيب بأن يصحب ابوان ابنهما الى مكان من الريف لتهدأ اعصابه لأنه مريض .
وكم عجب الوالدان وهما فى القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان فى صوت واضح لاسبيل الى إنكاره : ظلم . ظلم . ظلم .


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق