الاثنين، 3 أغسطس 2009

طب النفس

هذه المقالة للكاتب أحمد أمين كتبت فى عام 1940 تقريبا أى منذ ما يقرب من 70 عاما و لكنها لا تزال تنبض بالحياة و تشع بالفائدة فهى تعكس خاصية للإنسان و هى إهمال الجانب الروحى والتعلق الشديد بالجانب الحسي من حياته و يتعرض لأسباب ذلك و نتائجه ، و إن كان الزمان اختلف و الاهتمام بالطب النفسي في تقدم و تطور اليوم عن الأمس، أما عن نظرته للمثقف فنظرة يشوبها نوع من المبالغة ، فليس على الإنسان أن يقف عند حدود إمكانياته بل يتطلع و يطمح إلى التغيير و اكتساب مهارات جديدة؛ فإن أخفق فيكفيه شرف المحاولة ، و إنما المطلوب منه الصدق مع نفسه و مراجعتها بين الحين و الآخر لمعرفة الطريق السليم و إعادة تكوين - و ليس تطبيع- نفسه بما يلائمها و يتناسب مع قدراتها بلا شطحات و لا خيالات غير قابلة للتحقيق حتى لا يضيع عمره و يصاب بالصدمات النفسية عند تكرار الفشل.

و لا شك أن الكاتب في تطرقه لها الموضوع أثار قضيه هامة تخص المجتمع و خاصة شريحة هامة منه هى شريحة المثقفين ، و أهمية السلامة النفسية للإنسان و تقديمها على السلامة الجسمية.

و نستعرض الآن أجزاءً من المقال:


 

من المشاهد أن الناس يؤمنون أشد الإيمان بمرض أجسامهم و لا يؤمنون بمرض نفوسهم، فإذا شعر أحدهم بمرض جسمي أسرع إلى الطبيب باذلاً الأموال مهما جلت ثم هو يمرض نفسياً فلا يهتم بذلك كأن نفسه أهون عليه من جسمه، و روحه أتفه من بدنه.

آلام الناس من نفوسهم أكثر من آلام جسومهم، و أضرار المجتمعات من مرضى النفوس تفوق أضرارها من مرضى الجسوم، و للنفس أمراض لا حصر لها ؛ فهناك حميات نفسية متعددة كحميات الأجسام و هناك ميكروبات نفسية كالميكروبات المادية ، و هناك عدوى تصيب النفوس كعدوى الأجسام و كذلك انفعالات تحرق النفس و تضني البدن، و لكل من هذه الأمراض علاجات تختلف باختلاف المرض و الشخص.


 

و السبب في أن الناس تنصرف عن علاج نفوسهم أنهم لا يزالون يسبحون في دائرة الحس وحده و لم يرتقوا إلى ملاحظة النفوس و شئونها، أو لأنهم لا يؤمنون بأطباء النفوس إيمانهم بأطباء الأجسام فلا يعتقدون في صلاحيتهم و يتشككون في قدرتهم على العلاج فيستسلمون للمرض النفسي كما يستسلمون لمرض جسمي استحال شفاؤه، و قد يكون السبب ن الناس يؤمنون بسهولة أمراض النفوس و قدرتهم على الشفاء منها بدون طبيب و هذا خطأ فادح؛ فأمراض النفوس كأمراض الجسم فيها ما يداوي و فيها ما يستعصي على الطبيب الماهر.


 

لأمراض النفس سباب عدة من حالة صحية و بيئة اجتماعية و بذور ميكروبات تسربت إليها من كتب قرتها و أحاديث سمعتها و مناظر رأتها، و لعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين

و سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم و يريدون أن يكونوا غيرهم.

لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها و مختلفة في جهات أخري ، فكل وجه به عينان و أنف و غم و لكن لكل إنسان وجهه الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره.

كذلك النفوس ؛ لكل إنسان نفسه الخاصة و مما ألاحظه أن نفس كل إنسان إن سارت على فطرتها و عرفت أن تتغذى بما يناسبها و طلبت لها مثلاً أعلى يتفق و طبيعتها عاشت في الأغلب راضية مطمئنة، و إن خالفت فطرتها و حاولت أن تكون غيرها أظلمت و أصابها الحزن و القلق و الاضطراب ، و فقدت سعادتها و اطمئنانها، و محال أن تنال ما يخالف فطرتها.


 

يسعد الإنسان إذا عرف طبيعته و حدوده التي لا يستطيع أن يصل إليها و نوع الرقي الذي يمكن أن يبلغه ، فإن حاول أن يكون غير ذلك كان في الحياة ممثلاً لا يعيش الطبيعة و محال أن يوائم بين نفسه الحقيقية و الدور الذي يمثله إلا بمقدار ما يظهر علي المسرح فإن هو حاول أن يطيل ذلك فجزاؤه السخرية منه و قلق نفسه و اضطراب شأنه.

فأكثر أسباب اضطراب المثقف ناشئ من أنه غبي يريد أن يكون ذكياً، أو ميال بطبعه إلى العزلة و الانكماش يريد أن يكون وجيهاً شهيراً، أو عالم يريد أن يكون أديباً أو العكس أو خجل يريد أن يكون وقحاً... ثم يخفق و يخفق، لأنه يكلف نفسه ضد طباعها و هذا الإخفاق يهز نفسه هزة عنيفة تسبب له القلق الروحي و الاضطراب النفسي، هو بذلك يريد أن يكون إنسانا صناعيا و هو مخلوق إنسانا طبيعياً؛ فالتوفيق محال فخير نصيحة لهذا و لأمثاله أن نقول له:

"كن نفسك و لا تنشد إلا مثلك"


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق