الجمعة، 24 يوليو 2009

واأسفي على يوسف

الأبناء هم قرة العين و مهما زاد عددهم و تباينت أعمارهم فلكل منهم محبة و ذكريات خاصة، و بالرغم من تحقيق العدل بينهم إلا أن للقلب شأن آخر؛ فقد يميل و يهفو لأحد الأبناء لصغر سنه أو لجماله الشديد و براءة نفسه، فيبدو الحب و ينكشف مكنون الصدر رغم عدم التصريح، ظاهرا لباقي الأبناء مثيرا لدواعي الغيرة فيستجيب الأخوة لنزغ الشيطان و همزاته بمحاولة إيذاء ذلك الأخ المميز المصطفى ذي الحظوة و المكانة عند أبيه، أو التخلص منه نهائيا ليخلو لهم الجو و تصفو لهم مشاعر أبيهم و ينصرف إليهم بعطفه و اهتمامه، و هم يرون أن تصرفهم هذا له مبرر؛ فأبوهم في ضلال مبين بحبه الشديد لهذا الأخ، و لابد لهم أن يعالجوا الأمر بطريقتهم، ثم يتوبون من الذنب - و الله غفور رحيم - فيفوزوا بحب أبيهم وعفو ربهم و يكونوا من الصالحين.

و ما أشد فجيعة الأب عندما يصدم بفقد ولده الحبيب و الحرمان من رؤيته خاصة إذا كان يتوقع ذلك بإلهام من الله؛ و على يد من؟ إخوته...الذين هم أيضاَ أبناؤه و سنده في شيخوخته الطاعنة، الذين ادخرهم لحماية أخيهم العزيز و رعايته صغيرا حتى يبلغ أشده و يصبح في قوتهم و بأسهم...

قصة يوسف عليه السلام من أجمل القصص القرآني و هي آية في التصوير الفني لحياة نبي كريم ، و قد ذكر الله القصة كاملة في سورة يوسف بينما ذكرت قصص أخرى منفصلة في سور مختلفة و لذلك حكمة ، فقصة يوسف وجدانية تتعلق بمشاعر غيرة و إيذاء و حب و خيانة و ظلم و سرقة و حيلة و مفاجآت كثيرة؛ التقاء بعد طول شتات و رؤية بعد عمى و تحقيق رؤيا بعد سنين طويلة .. و كل هذه المشاعر يكتمل الإحساس بها إذا جمعت في سياق سورة واحدة حتى لا تنسى بعض أحداثها من الذهن بل تكون جميعها في خيط واحد متصل.

لقد ثبته الله في أصعب اللحظات و هو لا يزال صغيرا ملقى في ظلمات بئر بعد أن انتزعه إخوته من حنان أبيه فقد أوحى إليه في تلك اللحظة أن ستأتي لحظة أخرى في حياته يخبر إخوته عما فعلوا به في طفولته و هم لا يعرفونه: "و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون" فما أرحمه سبحانه و لطفه بعباده.

سميت السورة باسم النبي يوسف الذي تعرض لكثير من الفتن و الابتلاءات و حفظه الله بحسن خلقه و صرف عنه شرورا كثيرة و رفعه مكانا عاليا بتأويله رؤيا الملك و انقاد مصر و ما حولها من سنين جدباء و أصبح على خزائن مصر يدير أمورها بحكمة و أمانة؛ كما كان تفسير يوسف لتلك الرؤيا سببا في خروجه من السجن و إبرائه من تهمة امرأة العزيز له و أن يصبح مقربا خالصا للملك، و كان لتلك السنين العجاف حكمة في أن يأتي إخوته إلى مصر للحصول على طعام و يتم لقاؤه بهم و تتحقق الرؤيا.

و ما أكثر المفاجآت التي احتوتها قصة يوسف مثل:

  • خروج يوسف من البئر على يد من ألقى بالوعاء في البئر ليخرج الماء "قال يا بشرى هذا غلام"
  • حضور فرعون ليجد امرأته ممسكة بجزء من ثوب يوسف المقطوع "و ألفيا سيدها لدى الباب"
  • انبهار النسوة بجمال يوسف و جرح أيديهن عند رؤيته "فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن "
  • اكتشاف وجود إناء الملك في أمتعة الأخ الأصغر ليوسف و اتهامهم بالسرقة لإبقاء ذلك الأخ مع يوسف "ثم استخرجها من وعاء أخيه"
  • مقابلة يوسف لإخوته و هم يجهلونه و دهشتهم الشديدة لذلك "قالوا أئنك لأنت يوسف"
  • ارتداد البصر ليعقوب بعدما القوا قميص يوسف على وجهه "فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا"

و كل هذه المفاجآت تزيد من حيوية القصة الكريمة و كمال تأثيرها و سبحان الله العظيم

و أشد الآيات تأثيرا عندما علم يعقوب بفقد الأخ الأصغر ليوسف

"قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * و تولى عنهم و قال يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون * يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"

لقد اعتزلهم و اختلى بربه القريب؛ لتفيض نفسه و عينه بالدموع بعيدا عن لومهم له، و كانت النتيجة هي فقدان البصر

و ما كان لوم أبنائه له إلا من خشيتهم عليه أن يهلك و يموت من شدة الحزن على يوسف بعد كل هذه السنوات، و لكنه يشتكي إلى الله، و إلى من يشتكى الإنسان؟ إلى بشر مثله ضعيف أم إلى قريب مجيب؟ فمن التجأ إلى الله فقد احتمى بركن شديد...

حتى في أقسى اللحظات، لم يفقد يعقوب الأمل بل أمر أبنائه بالرجوع إلى مصر و عدم اليأس من روح الله ...و تم اللقاء و اجتمع الشمل و طابت النفوس.

و تتجلى قوة الإيمان عندما يستحضر يوسف عليه السلام فضل الله عليه في لحظة تحقيق رؤيته؛ راجيا منه أن يتولاه و يرعاه ، آملا في حسن الخاتمة.

"رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات و الأرض أنت ولى في الدنيا و الآخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين"


 

و للحديث بقية....


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق