الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

ضحية المجتمع فى أدب نجيب محفوظ


مشاكل المجتمع لا تتغير بشكل كبير من جيل إلى جيل ،ربما تتحول من صورة لأخرى لكن تبقى مشكلة الفقر و تفاوت الطبقات و استغلال الطبقة الدنيا من المشكلات المزمنة ،و عندما  تكون ضحيتها امرأة يكون الأمر أسوأ ،و أكثر تأثيرا على المجتمع الذى تخلى عن حمايتها ،فى المجموعة القصصية "خمارة القط الأسود" عالج نجيب محفوظ فى قصته "صورة" مشكلة فتاة ريفية دفعتها الأقدار للعمل فى عدة أماكن فى قلب القاهرة ثم انتهت حياتها بقتلها فى الصحراء وراء الهرم.
و الكاتب هنا يستخدم مدخلا بوليسيا لعرض القصة ،فمن خلال صورة منشورة فى صفحة الحوادث طالعتها عيون من لا يعرف القتيلة و يتعاطف معها و من يعرفها و كان له تأثير فى حياتها يستعرض الكاتب تاريخ حياة تلك المرأة ، و كيف انتهت تلك النهاية المؤلمة.

تبدأ القصة بامرأة عجوز تتطالع صفحة الحوادث ،تقرأها و تحلل الأخبار كصحفى بارع يعد تقريرا عن أحوال المجتمع و مشاكله ،فتدقق النظر فى صورة المرأة القتيلة و ترثى لشبابها و تستنج أن وراء مقتلها قصة عاطفية و ليس السرقة ،و تستخدم العجوز كل المعطيات للوصول للحقيقة : ملبس المرأة و هيئتها و مكان وجود الجثة...

ثم تتضح خيوط الجريمة من خلال لقطات أخرى لشخصيات تعرفها القتيلة ،و ربما كان لهم دور فى ذهابها إلى حيث لقت حتفها ،و بالرغم من مناشدة الجريدة لمن يعرف معلومات عن القتيلة أن يقدم شهادته للبوليس للمساعدة فى اكتشاف القاتل ؛لكن الجميع امتنع و خشى المساءلة و فتح الذكريات القديمة و الأوراق المنسية ،و ما قد يسببه لهم من متاعب أسرية لو تم كشف الأسرار.

و من خلال تلك الشخصيات نعرف شخصية القتيلة  و قصة حياتها ،فهى امرأة ريفية أتت للقاهرة لتعمل خادمة، جاءت تحمل الأمل و مقبلة على الحياة ،و يبدو أن ربة الدار خشيت على زوجها من جمال و شباب الخادمة فقامت بطردها بالرغم من عملها بإخلاص و تفانٍ ،تركتها المرأة إلى حيث المجهول ،فذهبت لتعمل فى مصنع ،فأراد أحد الموظفين الزواج بها عرفيا لأنه لم ينو الاستمرار و الاعتراف بزواجه منها ،و لما حملت قام بتطليقها و تم اجهاضها لتتلقى صدمة أخرى فى حياتها الحزينة ،ثم انحرفت بعد طلاقها لتتحسن أحوالها المادية و تسوء نفسيتها و آدميتها.
و تتعرف على نساء يعملن فى الملاهى و تقيم معهن ،ثم تتعرف على شخص سكير لكنها تهرب منه لتتعرف أخيرا على طالب فى الجامعة ،و الذى قتلها باسم الحب فى ظلام الصحراء ،ليندم بعد هذا و يتمنى لو عاد الزمان و لم يقس عليها و يتم جريمته ،و بعد القتل يهيم على وجهه فى الشوارع خائفا مترقبا.

و فى دقة وصف الكاتب للقاتل و شعوره و ندمه بعد أن قرأ خبر الجريمة فى الجريدة:
"و تأبط الجريدة و كلما وجد نفسه فى خلاء فتح صفحة الحوادث و أدام إلى الصورة النظر ،و قال أنه سيسقط فى آخر الأمر من شدة الإعياء ،و ريقه جاف  و مر و تنفسه بطئ. ها هى الزوبعة الهوجاء قد سكتت و الأسئلة المندلعة قد خمدت و النية المبيتة قد نفذت ، و مع ذلك فلا يشعر مطلقا بأنه حقق مطلبا أو بلغ أملا ،لا شيء ..خواء..انهيار..قد قضى عليك فلا مهرب"

و براعة الكاتب فى أن المعلومات تأتى بتأن و بطء و انسيابية من خلال تعرف الشخصيات على القتيلة ليلتقط القارئ لمحات من حياتها ، يساعد فى ذلك الترتيب الزمنى لظهور الشخصيات ليعرف القارئ فى نهاية سرد مواقف حوارية لتلك الشخصيات من معرفة قصة البطلة و تفكير كل من كان يعرفها و ظلم الناس و المجتمع لها.

كانت فتاة ريفية بسيطة تحب الحياة شغوفة بها حتى و لو كانت خادمة ؛فلم تفقد حبها للاغانى الريفية التى كانت تدندن بها و هى تقوم بأعمال المنزل ،و كانت تخدم بصبر و همة لكن ذلك لم يشفع لها لتعيش حياة كريمة و تعامل بآدمية ،فالطمع و سوء الظن يحيطها من كل جانب كأن الصورة النمطية للخادمة أو العاملة ثابتة لا تتغير من شخصية لأخرى ،و هذا خطأ و فساد فى الحكم لكن الجميع يؤثر السلامة لنفسه و لا يفكر فى الفئة الضعيفة ،و لا يوجد من المروءة و الشهامة فى المحيطين بها - سواء مخدومها أو رئيسها فى العمل أو جيرانها - ما يكفل لها الحماية ؛فلا تجد بعد كل هذا سوى نهاية القتل والعدم لتصبح كائنا منسيا ،ليتلقف المجتمع بعدها ضحية جديدة يقدمها طعاما للأسود الأقوياء من البشر.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق