الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

أبداً.. لم يكن وهماً


هل الحقيقة هي ما نراها بأعيننا، و الوهم ما خفي عنا فنتحدث إليه أو عليه فقط دون مشاهدته أو سماعه؟


الحقيقة هي ما نصدقها و نطمئن إلى حدوث نتائجها و تحقق أشراطها و علاماتها.


أما الوهم فهو السراب، كلمة مائعة مصيرها التسويف أو الإهمال، و أماني آخرها التحويل و أشباح الخيال


و لله المثل الأعلى وصف نفسه بأنه الملك الحق: "فتعالى الله الملك الحق"


و رؤية الجنة حق و رؤية النار حق


و عين اليقين هي العين التي سيرى بها الإنسان يوم القيامة الجحيم التي ذكرت في القرآن و سوف يسأله الله عندئذ عن النعيم الذي تمتع به في حياته و كيف أنفق ماله و عمره و صحته.


و تخاصم أهل النار حق، حيث يلقى المجرمون على بعضهم الملامة و المسئولية عن المصير البائس الذي وصلوا إليه.


و الحق فوق الباطل دائما يغلبه و ينتصر عليه مهما طال الصراع


"بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق * و لكم الويل مما تصفون"


و من ثقة الإنسان في وعود ربه أن يثق فيما عند الله أكثر مما يثق فيما بين يديه و أن رزقه الذي فى السماء - و الذي أقسم الله أنه حق مثلما ننطق - سيأتيه و لابد فى الوقت الذي قدره الله.


و لذا لا يشترط أن نرى الشيء حتى نصدقه، تكفى علامات وجوده، و ثقة وعوده، و اكتمال الصورة الذهنية للصفات و النتائج، فليس كل حقيقة ترى.


و سؤال متعلق بهذه الفكرة : هل الحب ينشأ من القلب أم العين؟ أي هل من الضرورة رؤية المحبوب قبل أن يتعلق القلب؟


و الإجابة ببساطة في مثال و كلمة


المثال: حب الأم لطفلها جنيناً لم يخرج للحياة بعد، تظل تحبه و ترجو رؤيته و تهيئ له ملابسه و فراشه و تتخيل ملامحه و قسمات وجهه الصغير، و تتحمل آلام الحمل وعذاب الوضع المرير، صابرة مستسلمة حتى تتلقفه بين يديها لتراه عيناها لأول مرة بعد طول اشتياق.


الكلمة: الحب مكانه في القلب و يسكن فيه، و بالتالي ينبع من القلب إلى جميع خطرات و جوارح الإنسان و من ضمنها العين فهي تحت سيطرة القلب و تابعة له.


و كم من مجهول أضاف إليه الغموض جمالا و بهاء، و لما ظهر و أصبح معلوماً زالت تلك الهالة من حوله و عاد شيئا معتاداً.



الأحد، 13 سبتمبر 2009

عبس و تولى

إن الله تعالى ينصر الضعيف و يسمع من يناجيه مهما كان شكله أو مكانته بين الناس طالما قلبه عامر بالإيمان؛ فرب أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء فيستجاب له و يتقبل الله منه و لا يتقبل من غنى شريف بين الناس.

و الفقراء يدخلون الجنة قبل غيرهم من الأغنياء فيرحمهم الله من سوء الحساب و طول الانتظار في أيام الآخرة التي هي كألف سنة من سنوات الدنيا ، فهم خفيفون بقلة ما امتلكوا في الدنيا، أما الأغنياء فسوف يحاسبون على أموالهم الكثيرة و كيف أنفقوها؟ حسابا يحصى كل كبيرة و صغيرة..

و الضعفاء الذين لا حول لهم و لا قوة يسمع الله استغاثتهم و شكواهم إليه، كما في سورة المجادلة:

"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله"

امرأة مستضعفة كادت تتعرض للتشريد هي و أولادها إلا أن ينقذها الله و يحكم الرسول لها بما أراه الله، جاءت الرسول و هي تأمل الخير بعدما اشتكت إلى الله فسمعها سبحانه و أنزل قرآنا في أمرها - و كم من الناس أعلى الله شأنهم فأنزل فيهم قرآنا يتلى على مر الأزمان- و استجاب لها و رحم ضعفها و حيرتها.

لقد علمنا الله الآداب القرآنية، قال تعالي: "عبس و تولى أن جاءه الأعمى" فقد عاتب الله نبيه الحبيب على عبوسه في وجه الأعمى، و كان سبب العبوس انشغال الرسول بدعوة أقوام شرفاء أراد دعوتهم للإسلام... بالرغم من كونه أعمى و لا يرى وجه من يتحدث إليه و لا يشعر بعبوسه إلا أن له حق الاهتمام به مثل المبصر تماما.

أفلا نتعلم من هذه الآية ألا نعبس في وجوه من حولنا خاصة إذا كانوا يقصدوننا في خدمة أو عمل؟ و الكلام موجه خصيصا للقائمين بإدارة مصالح الناس العامة، فكلهم في الهم سواء الموظف و المواطن طالب الخدمة كلاهما محمل بهموم المعيشة، فلماذا لا يرحم بعضنا بعضا؟ فمن مشى و سعى في حاجة أخيه يسر الله له أموره و كفى بذلك جزاء و خيرا كثيراَ.

ليس العبوس مكروهاً في وجه الغريب فقط؛ بل الأشد منه العبوس في وجه القريب الذي يلجأ إليك أو حتى بين أفراد الأسرة الواحدة اعتمادا على أن كل واحد منهم سيتحمل الآخر و أنه يمكن الاستغناء عن التجمل و كلمات الشكر الرقيقة في المنزل تخففا من روتين العمل و المجاملات المفروضة في تعاملات الناس الخارجية، و لكن هذا خطأ بالطبع فالعبوس و العنف لا يأتي بخير بل يزيد من الجفاء و يثير الغضب، كما أن الابتسام و الكلمة الطيبة لن تكلف الإنسان شيئاً بل سيريح نفسه و غيره.


 

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

دقات العمر

من منا لم تؤرقه دقات الساعة في أوقات القلق و الانتظار المرير؟ من لم يخرج الساعة المدوية من مكان نومه حتى لا يصاب بالجنون و قد استعصى عليه النوم في ليل طويل؟

دقات الساعة الرتيبة ليست فقط حركة عقارب و ثوان و تروس متتابعة بل هي حركة عداد العمر...العمر الذي ينتقص كلما مرت الساعات فيمضى العمر الثمين و ترحل ليالي كنا نظنها كثيرة و هي في الحقيقة معدودة قليلة.

"أليس الصبح بقريب؟"

مهما طال الليل فلابد له من نهار.. فلماذا يتعجل الإنسان حدوث الأشياء؟ حقاً لقد خلق الله الإنسان من عجل، لماذا لا يستمتع باللحظة الحالية بكل ما فيها؟ فليس الغد بأفضل من اليوم و ليس اليوم بأفضل من الأمس...

لماذا نفسد الحاضر بانتظار و ترقب المستقبل البعيد إذا كان مشرقا نأمل فيه الخير، أو القلق الشديد بشأنه إذا كان معتما نخشى منه الغدر.

ما أعجب الإنسان..

الطفل غير راض عن كونه صغيرا و الكل يتحكم فيه و مراقب من الوالدين في أفعاله و أقواله متلقيا التوجيه و اللوم و في كل وقت ...فهو يتمنى أن يكبر سريعاً.

الشاب غير راض عن كونه لم يعمل بعد فهو يتمنى أن يستقل بذاته و يكون حياته الخاصة.

الرجل غير راض عن كونه أصبح مقيدا بسلاسل من المسئولية لينفق على أسرته و متطلباتها الكثيرة فهو يدور في دوامة الحياة لا يكاد يلتقط أنفاسه.

الموظف غير راض عن كونه ملزماً بالحضور و الانصراف في مواعيد ثابتة فهو يتمنى لو استقل بعمله ليكون متبوعا لا تابعا و لا تحكمه اللوائح.

المحال على المعاش غير راض عن كونه لديه وقت فراغ طويل و لا أحد يهتم بخبرته فى الحياة.

الفتاة تتمنى أن تتزوج لتكون ملكة في بيتها فتترك أكثر الناس حباً لها و أرأفهم بها: والديها.

السيدة تتمنى أن تنجب أطفالا يملئون حياتها بهجة و صخبا.

الأم تتمنى أن يكبر أبناؤها لتتخفف من مسئولية التربية التي أثقلت كاهلها.

الجدة تتمنى و تستجدى زيارة الأبناء و الأحفاد بعد أن تشعر بوحشة المكان بعد أن غادره الأبناء بالزواج أو السفر واحداً تلو الآخر.

لماذا هذا الإنسان غير راض عن وضعه في كل مرحلة عمرية من حياته و لما يصل إلى ما يتمناه يعرض عنه و يتمنى شيء آخر؟ أليس الأفضل أن يرضى كلٌ بما هو متاح لديه؟

لقد أمرنا الله بالرضا و نهانا عن تمنى ما بيد الآخرين، قال تعالى: "و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"

كما أمرنا بألا نتعجل الأحداث فهي آتيه في وقتها التي قدرها الله سبحانه: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"

و علاج الأرق سهل و أكيد بذكر الله و صلاة ركعتين فى غسق الليل تذهب القلق ليحل مكانها الطمأنينة و هدوء النفس.

أما وقت الفراغ الطويل فذلك يستدعى خطة محكمة فقتل الوقت (و هو تعبير دارج مرفوض) هو قتل للعمر فهل يرضى إنسان لنفسه أن تتسرب أيامه من بين يديه؟ إن وقت الفراغ ليس مفتوحا أو مباح إهداره في أشياء تافهة مثل التسكع في الطرقات أو لعب النرد (الزهر) أو مشاهدة مباريات الكرة بشكل مبالغ فيه ، و بالنسبة للفتيات و السيدات لا يصح تضييع الوقت في التسوق الغير هادف و كثرة الحديث في الهاتف ، وعلى الجميع عدم إضاعة الوقت في الجدال العقيم فكثرة الكلام بغير ذكر الله تميت القلب.

و لكي تتحقق البركة في الوقت لمن لديه أعمال كثيرة أو للطلاب وقت الامتحانات يجب تنظيم الوقت بحيث يتم تنفيذ الأهم فالمهم و محاولة العمل المتوازي (أي في نفس الوقت) للأعمال التي تسمح بهذا و التخطيط الأمثل للوقت.

كل الأوقات تمضي بخيرها و شرها.. ما يهم هو العاقبة و النتيجة؛ إن كان العمل فيها خيرا فخير و إن كان شرا فشر.


 

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2009

كيف تشملك نعمة غيرك؟

إن أصحاب القلوب الصافية و الفطرة السليمة يعتبرون فضل الله على غيرهم بشرى لهم و فضل و كرم من الله، فيسعدون لسعادتهم و يتمنون مثلها من الله، أما ذوي الأحقاد و القلوب المريضة فيستاءون ويقارنون ما لديهم بما لدى غيرهم و ربما يستكثرون النعمة على غيرهم و تنهشهم الغيرة فيدمرهم الحسد و يفسد عليهم حياتهم، و لا يقنعون بفضل الله عليهم فتكون عقوبتهم أن يأكل الحسد أعمالهم يوم القيامة كما يأكل النار الهشيم.

فالذى يفرح لنعمة أصابته فقط يسعد في أوقات معدودة محدودة ؛ أما الذي يفرح لفرح غيره فيفرح مرات و مرات و يعايش مشاعر جميلة عاشها من قبل أو تمنى أن يعيشها فتضئ له حياته و تغمرها بالرضا و الأمل ، و العكس صحيح فإذا رأى المسلم ضراً أصاب أحداً تأثر له وساعده، وواساه فالمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى ؛ و إن كان أغلب الناس يتأثرون بمصائب الغير و لكن ذلك وقتياً و بمرور الوقت ينسى الناس ما كان فلا يتذكرون المصاب و لا يتعهدونه بالرعاية و العون بل يتركونه في خضم الحياه يناضل و يكافح بلا سند ممن حوله فلا يتذكرونه إلا إذا أصابهم مثلما أصابه و دارت عليهم الدوائر.

و الغبطة أن تتمنى مثل النعمة الحاصلة لغيرك فيكون ذلك حافزاً للوصول إلى الأحسن و يؤدي إلى التنافس محمود، أما الحسد فهو أن تتمنى زوال نعمة غيرك و هو بالطبع خلق مذموم و فعل محرم ؛ قال تعالى "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".

و في القرآن الكريم قال الله تعالى في سورة مريم "هنالك دعا زكريا ربه"؛ لقد كان سيدنا زكريا يجد عند مريم رزقاً كثيراً كلما دخل عليها المحراب و لما سألها من أين لك هذا ؟ أجابته "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" هنالك انطلقت من أعماق القلب دعاء خالص أن يهبه ذرية طيبة و هي الأمنية التي طالما تمناها زكريا عليه السلام حتى اشتعل الرأس منه شيباً فاستجاب له الله ووهبه يحي عليه السلام حناناً من لدنه و الذي كان براً بوالديه و كان صالحاً تقياً.
و مطلوب من المؤمن أن يشكر الله أيضا على نعمة الغير كما في دعاء الرسول عليه الصلاة و السلام "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد و لك الشكر"و أن يطلبه لنفسه أيضاً كما فى الدعاء "اللهم ما قصر عنه رأيي ولم تبلغه نيتي، ولم تبلغه مسألتي، من خير وعدته أحدا من خلقك، أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك، فإني أرغب اليك فيه"

فياليتنا نترابط و نتكافل معاً و نلتزم بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا تحاسدوا و لا تباغضوا و كونوا عباد الله إخوانا" كى نحيا فى سعادة و نجنى ثمرة الطاعة بفضل الله و برحمته.

الأحد، 23 أغسطس 2009

مطاردة الظلم

بطل القصة فتى ليس وسيما و لا ذكيا، أحول و يرى الدنيا بمنظار أعوج مما أكسبه بلاهة تبدو واضحة لمن يراه، و مع ذلك فقد فاجأ أباه يوماً بسؤال يبدو تافها : سأله عن معنى كلمة سمعها في الطريق في مشهد أمامه، و هذه الكلمة هى محور القصة بل محور الحياة .. إنها "الظلم"

كان تفسير الأب لهذه الكلمة ظالما أيضا فقد أراد ضرب مثل للظلم ليقرب الصورة لابنه فذكر له "أن الخادمة عندما تجلس على مقاعد أسيادها الحريرية فهي ظالمة" أي أنه جعل مساواة الناس الأغنياء منهم و الفقراء نوعا من أنواع الظلم و هذا بالطبع تعريف ظالم و خاطئ!!

و لكن هل استوعب الفتى كلام أبيه؟ عندما يعجز العقل تقوى الفطرة، فقد أحس الفتى بفطرته أن تلك الكلمة لها شأن كبير و دور عظيم في لعبة الحياة و تعاملات البشر، فحفظها عن ظهر قلب و ظل يرددها، و من شدة التأثر راح يكتب تلك الكلمة في كل مكان تقع عينه عليه بدءا من منزله.. فما كان من الوالدين إلا التهديد و الوعيد، و ظنت الأم أن علاج الأزمة في مسح الكلمة من مواضعها في المنزل فمسحتها بقطعة قديمة من القماش.. و لكن هل يمسح الظلم بسهولة؟!

بعد أن استخدم الفتى الطباشير "الأبيض" في الكتابة داخل منزله لجأ إلى الفحم "الأسود" في الكتابة على مدى أوسع في الطرقات و على الجدران، و لم يكتف بهذا فاستخدم الأشد من ذلك "طلاء أسود" صعب إزالته ليدهن به تلك الكلمة على أبواب المحلات التجارية و يا لها من مصيبة لهذا التاجر الذي كتب على باب محله "ظلم" فذلك ينفر و يبعد الزبائن بالتأكيد..

الموضوع يزداد معه و لا يستطيع الفتى مقاومة يده التي تكتب الكلمة في أي مكان بالرغم من وعده لأبيه بعدم فعل ذلك.. و لكن ما باليد حيلة تلك الرغبة الجارفة دفعته- بعد هدوء نسبى- إلى "حفر" كلمة ظلم على باب دار "الحكومة" بقدرة غريبة و دون أن يشعر به أحد، و كاد أن يدخل السجن لولا شفقة رجال الشرطة!

و كانت النصيحة و الحل الأخير لهذه الحالة المتردية التي وصل إليها الفتى أن تهدأ أعصابه بالبعد عن مركز الأحداث التي تذكره بتلك الكلمة الرنانة فليذهب إلى الريف إذن، و اصطحبه والداه في رحلتهم بالقطار .. و لكن الأبوين – و يا للعجب - طاردتهم كلمة "ظلم" ليس بخط ابنهم هذه المرة؛ بل سمعاها في صوت احتكاك عجلات القطار مع القضبان في طريق طويل ممتد ...سمعاها بشكل مخيف و متكرر ..إنها تدوي "ظلم ظلم ظلم ".

و في النهاية.. من الظالم ؟ ذلك الفتى ظلم أصحاب المحلات الذين أفسد عليهم أبواب محلاتهم؟

أم الظلم نفسه الذي انتشر و توغل في كل مكان؟

أم أن الظالم و المظلوم وجهان لعملة واحدة فالمظلوم ظالم لنفسه بقبول الظلم و عدم الدفاع عن حقه ، و الظالم مظلوم باستسلام الناس له و عدم منعه من الاستمرار في الظلم؟

أم أن المظلوم في موقف ما هو نفسه ظالم لشخص آخر فى موقف ثان و هكذا.. يظلم القوى الأضعف منه فيظلم الضعيف بدوره من هو أشد ضعفا منه .. و بهذا تكتمل حلقة بغيضة من الظلم...

هل علمت الآن ما سر مطاردة الظلم للفتى و أسرته أينما ذهبوا؟ لأن وجود الظلم حقيقة لابد أن تظهر يوماً مهما حاول الناس إخفاءها و إنكارها.


 

ظلم – زكى نجيب محمود

كان الفتى فى عامه الثانى عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا ، فى عينيه اليمنى حول ظاهر ، ولايفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه ، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التى لايخطئها النظر .
سأل أباه ذات يوم اذ هما على مائدة الغداء ، فقال :
- كلمة ظلم ما معناها ؟؟
- وأين سمعتها ؟؟
- سمعتها رجلا يصيح بها فى الطريق ، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام ، وكان الشرطى من ورائه يصفعه ويركله .
- الظلم هو ان يوضع الانسان فى غير موضعه اللائق به ، فاذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم ، واذا اسندت الرياسة الى من لايستحقها فذلك ظلم ، واذا اخذ العامل اجرا على غير عمل فذلك ظلم ، واذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم ، كذلك من الظلم ان يفلت من العقاب من هو حقيق به ، وهكذا . كل هذه امثلة لناس وضعوا فى غير اماكنهم الصحيحة .
سمع الفتى هذه الاجابة من ابيه فى انصات ظاهر ، وكأنما أعجبه رنين الكلمة فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء ، وبلغاعجابه بالكلمة ان كان ينطق بها فى نغمات مختلفة ، ثم يضحك ضحكاته البلهاء .
ولما أصبح صباح اليوم التالى ، ارتاعت أم الفتى لما رأته فى كل ركن من أركان الدار......اذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة " ظلم " يكتبها على المقاعد والموائد والجدران ، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه ، فهى على أوانى المطبخ ، وهى على البلاط ، وهى على جوانب الاثاث ، وهى على السجاد القاتم ......
ونودى الغلام وسئل عما فعل ، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء ، وماذا يصنع الابوان فى ابن يعلمان فيه البلاهة ؟؟
انهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد الى مثل هذا العبث ، ثم طفقت الام تمسح " الظلم " من أجزاء بيتها بخرقة بالية ! .
ومضى يوم واحد ، جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه ، فقد ظفر بقطعة من الفحم ، وراح يتسلل الى حيث استطاع سبيل من دورهم ، وأخذ يخط كلمة " ظلم على الاشياء فيفسدها ، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم .
فضربه أبوه ، وسأله فى غيظ قائلا :
ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها فى كل مكان ، تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ؟
فاجاب الغلام بعينين دامعتين : لست ادرى يا أبت ! اعف عنى هذه المرة ولن أعود . لكن لم يكد يمضى يوم آخر ، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه ، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره فى يسر ، كما محيت آثار الفحم والطباشير ، ظفر بوعاء فيه طلاء اسود وفرجون ، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها ، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم ، على الطوار : " ظلم " ، " ظلم " فشوه بخطه الردئ من ناحية ، واساء الى المتاجر واصحابها من ناحية اخرى ، لأن هؤلاء يريدون اغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم ، لاتنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الردئ .
وهاهنا بلغ الغيظ من الوالد ابلغ مداه ، وجاء بغلامه امام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة ، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل ان تمس قلبه وهو الوالد .
وساله ابوه من جديد : ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ، ولهؤلاء الناس بالطلاء ؟
فاجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء : لست ادرى يا أبت ! اتركنى هذه المرة ، ولن اعود الى مثل ذلك ابدا .
لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها " ظلم " يصيب احدا من الناس ، وفى اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة ،وشغل الابوان وبحثا عنه فى مظانه كلها فلم يعثرا له على أثر حتى اذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها فى الليل ، دق الجرس وأسرع الابوان فى لهفة الى الباب ، فاذا ابنهما فى صحبة رجل من رجال الشرطة .
قال الشرطى : هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة : فأخذناه الى قسم الشرطة وكتبنا عن الامر " محضرا" لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا ، ورأينا ان تسوقه الى داره ليقضى ليله مع والديه حتى لايشغلا عليه بالا ونظر الغلام الى ابيه نظرة يطلب بها العفو والعطف ، فلم يسأله أبوه عن شئ ، وبات محزونا .
حتى اذا ما جاء الصبح ، وذهب الى الدار الحكومية التى أتلف الغلام بابها بمبراته ، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة " ظلم " – حفرها كلمة كبيرة عميقة ، حتى ليدهش الرائى كيف استطاع ان يصنع ذلك كله فى ظلمة الليل ، وأين كان الحارس طول الساعات التى استغرقها الفتى فى حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين .
واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران ان يخلوا له سبيل الغلام ، وكان ذلك بمشورة طبيب استشارة الوالد فى أمر ولده ، فأشار الطبيب بأن يصحب ابوان ابنهما الى مكان من الريف لتهدأ اعصابه لأنه مريض .
وكم عجب الوالدان وهما فى القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان فى صوت واضح لاسبيل الى إنكاره : ظلم . ظلم . ظلم .


 

السبت، 15 أغسطس 2009

هكذا يكون الطبيب

نجيب محفوظ اسم اشتهر في عالم الأدب ..و لعل سر تسميته بهذا الاسم هو أن الدكتور نجيب محفوظ قام بالإشراف على ولادته و من هنا جاءت تسميته فكأن اسم نجيب محفوظ رمزاً للنبوغ و الشهرة و العالمية.

و حديثنا اليوم عن الطبيب و ليس الأديب نجيب محفوظ الذي كانت مروءته و إحساسه العميق بمسئولية ورسالة الطبيب سبباً في أن في مجال النساء و التوليد بدلا من الجراحة و أن يكون ذلك فاتحة خير بالنسبة له ليحقق نجاحا باهرا و يساهم في نهضة علمية كبيرة في مصر و العالم.


 

وليد ذي رأس مقطوع يحول مسار الدكتور نجيب محفوظ:

رافق الدكتور نجيب أحد الأطباء الأجانب ليشرف على وضع البنج لإحدى السيدات المتعسرات في الولادة و شاهد كيف استعمل الطبيب الجفت لشد الطفل و لما لم يفلح أداره قليلا و حاول إخراج قدميه ثم باقي جسمه و سأل الدكتور الأجنبي نجيب أن يساعده في جذب الطفل و لكنه اعتذر حيث لم تكن له خبرة سابقة في التوليد فقد كانت كل معلوماته من خلال قراءته في بعض الكتب التي أهداها له أحد أصدقائه ، و لم يفلح الطبيب في إخراج الرأس فقطعت بداخل رحم الأم و ماتت الأم و بداخلها رأس الجنين في نهاية مأساوية و لم يستطع نجيب أن ينسى منظر الطفل وهو بدون رأس فقد آلمه أنه لم يستطع أن يساهم في إنقاذ هذه السيدة و منذ هذه اللحظة عاهد نفسه على أن يهب حياته لطب النساء و الولادة لإنقاذ المتعسرات في الولادة ، و كم هو هدف نبيل أن يجتاز المصاعب ليخفف من آلام المرضى مهما بذل من جهد و سهر في سبيل ذلك0


 

مروءة الطبيب

و له مواقف نادرة فقد كان جهز نفسه لرحلة علمية في أوروبا و رتب كل شيء و حجز تذاكر السفر ثم حدث أن جاءته إحدى السيدات مصابة أثر الولادة و كانت تسكن في أقصى الصعيد و نصحوها بالذهاب إلى نجيب محفوظ لأنه الوحيد المتخصص في مرضها ، و لأنها كانت فقيرة و لابد لها من العلاج فقد قطعت الطريق كله من بلدتها إلى القصر العيني سيرا على الأقدام مستجدية من الناس ما يسد رمقها و عندما وصلت المستشفى وقعت على الأرض بين الحياة و الموت و عندما علم بذلك الدكتور نجيب أدخلها المستشفى أعدها للعملية و أجل سفره حتى لا تنتظره المريضة و هي في هذه الحالة، فهل سمعتم عن طبيب يؤجل سفره بسبب مريض كأن هذا المريض من أهله أو عشيرته؟!


 

صدف عجيبة

كانت دعوات المريضات اللاتي دعون الله له عرفانا بعلاجه لهن و شفائهن على يديه مجابة فقد حالفه التوفيق في مراحل حياته المختلفة و نجى من مخاطر مميتة كان من الممكن أن تودي بحياته عدة مرات ؛ فقد زار في رحلة سياحية بركان فيزوف و تسلقه و عندما غادر المدينة التي تحتويه انفجر البركان و تسببت الحمم البركانية المنصهرة في موت الآلاف من سكانها و السياح الذين تصادف وجودهم في لحظة الانفجار، و مرة أخرى تأخر عن القطار الذي سيركبه في أوروبا فإذا به يسمع في اليوم التالي أنه اصطدم بآخر لنقل البضائع ، و كذلك سقوط طائرة كان من المفترض أنه بداخلها لولا أنه أجل سفره ؛ و غير ذلك من الصدف العجيبة ، بل لقد لحق الحظ السعيد أحد أصدقائه القدامى في دمياط عندما قام لتوه من مكانه بالقهوة التي كان يجلس بها ليسلم على نجيب محفوظ فإذا بالشرفة التي كان يجلس تحتها صديقه تنهار و يموت من كان يجالسه في القهوة!.


 


 

الاثنين، 3 أغسطس 2009

طب النفس

هذه المقالة للكاتب أحمد أمين كتبت فى عام 1940 تقريبا أى منذ ما يقرب من 70 عاما و لكنها لا تزال تنبض بالحياة و تشع بالفائدة فهى تعكس خاصية للإنسان و هى إهمال الجانب الروحى والتعلق الشديد بالجانب الحسي من حياته و يتعرض لأسباب ذلك و نتائجه ، و إن كان الزمان اختلف و الاهتمام بالطب النفسي في تقدم و تطور اليوم عن الأمس، أما عن نظرته للمثقف فنظرة يشوبها نوع من المبالغة ، فليس على الإنسان أن يقف عند حدود إمكانياته بل يتطلع و يطمح إلى التغيير و اكتساب مهارات جديدة؛ فإن أخفق فيكفيه شرف المحاولة ، و إنما المطلوب منه الصدق مع نفسه و مراجعتها بين الحين و الآخر لمعرفة الطريق السليم و إعادة تكوين - و ليس تطبيع- نفسه بما يلائمها و يتناسب مع قدراتها بلا شطحات و لا خيالات غير قابلة للتحقيق حتى لا يضيع عمره و يصاب بالصدمات النفسية عند تكرار الفشل.

و لا شك أن الكاتب في تطرقه لها الموضوع أثار قضيه هامة تخص المجتمع و خاصة شريحة هامة منه هى شريحة المثقفين ، و أهمية السلامة النفسية للإنسان و تقديمها على السلامة الجسمية.

و نستعرض الآن أجزاءً من المقال:


 

من المشاهد أن الناس يؤمنون أشد الإيمان بمرض أجسامهم و لا يؤمنون بمرض نفوسهم، فإذا شعر أحدهم بمرض جسمي أسرع إلى الطبيب باذلاً الأموال مهما جلت ثم هو يمرض نفسياً فلا يهتم بذلك كأن نفسه أهون عليه من جسمه، و روحه أتفه من بدنه.

آلام الناس من نفوسهم أكثر من آلام جسومهم، و أضرار المجتمعات من مرضى النفوس تفوق أضرارها من مرضى الجسوم، و للنفس أمراض لا حصر لها ؛ فهناك حميات نفسية متعددة كحميات الأجسام و هناك ميكروبات نفسية كالميكروبات المادية ، و هناك عدوى تصيب النفوس كعدوى الأجسام و كذلك انفعالات تحرق النفس و تضني البدن، و لكل من هذه الأمراض علاجات تختلف باختلاف المرض و الشخص.


 

و السبب في أن الناس تنصرف عن علاج نفوسهم أنهم لا يزالون يسبحون في دائرة الحس وحده و لم يرتقوا إلى ملاحظة النفوس و شئونها، أو لأنهم لا يؤمنون بأطباء النفوس إيمانهم بأطباء الأجسام فلا يعتقدون في صلاحيتهم و يتشككون في قدرتهم على العلاج فيستسلمون للمرض النفسي كما يستسلمون لمرض جسمي استحال شفاؤه، و قد يكون السبب ن الناس يؤمنون بسهولة أمراض النفوس و قدرتهم على الشفاء منها بدون طبيب و هذا خطأ فادح؛ فأمراض النفوس كأمراض الجسم فيها ما يداوي و فيها ما يستعصي على الطبيب الماهر.


 

لأمراض النفس سباب عدة من حالة صحية و بيئة اجتماعية و بذور ميكروبات تسربت إليها من كتب قرتها و أحاديث سمعتها و مناظر رأتها، و لعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين

و سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم و يريدون أن يكونوا غيرهم.

لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها و مختلفة في جهات أخري ، فكل وجه به عينان و أنف و غم و لكن لكل إنسان وجهه الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره.

كذلك النفوس ؛ لكل إنسان نفسه الخاصة و مما ألاحظه أن نفس كل إنسان إن سارت على فطرتها و عرفت أن تتغذى بما يناسبها و طلبت لها مثلاً أعلى يتفق و طبيعتها عاشت في الأغلب راضية مطمئنة، و إن خالفت فطرتها و حاولت أن تكون غيرها أظلمت و أصابها الحزن و القلق و الاضطراب ، و فقدت سعادتها و اطمئنانها، و محال أن تنال ما يخالف فطرتها.


 

يسعد الإنسان إذا عرف طبيعته و حدوده التي لا يستطيع أن يصل إليها و نوع الرقي الذي يمكن أن يبلغه ، فإن حاول أن يكون غير ذلك كان في الحياة ممثلاً لا يعيش الطبيعة و محال أن يوائم بين نفسه الحقيقية و الدور الذي يمثله إلا بمقدار ما يظهر علي المسرح فإن هو حاول أن يطيل ذلك فجزاؤه السخرية منه و قلق نفسه و اضطراب شأنه.

فأكثر أسباب اضطراب المثقف ناشئ من أنه غبي يريد أن يكون ذكياً، أو ميال بطبعه إلى العزلة و الانكماش يريد أن يكون وجيهاً شهيراً، أو عالم يريد أن يكون أديباً أو العكس أو خجل يريد أن يكون وقحاً... ثم يخفق و يخفق، لأنه يكلف نفسه ضد طباعها و هذا الإخفاق يهز نفسه هزة عنيفة تسبب له القلق الروحي و الاضطراب النفسي، هو بذلك يريد أن يكون إنسانا صناعيا و هو مخلوق إنسانا طبيعياً؛ فالتوفيق محال فخير نصيحة لهذا و لأمثاله أن نقول له:

"كن نفسك و لا تنشد إلا مثلك"