الأربعاء، 20 مايو 2009

نملتان في الفلفل


قصة فلسفية للكاتب زكى نجيب محمود و التي يتوارى فيها خلف الرموز و الإيحاءات ليعبر عن وجهة نظره في أحوال البشر و ما صاروا إليه الآن، فلنستعرض أولاً ملخص القصة :

جلس الشيخ يفكر في جيوش النمل التي تهجم علي السكر كل ليلة فلا تضل طريقها إلى مكانه مهما غيره الشيخ كل ليلة فوق - تحت – معلق في الهواء... يصل إليه النمل أيضاً، و فجأة تنبه الشيخ إلى السبب الحقيقي لمعرفة النمل مكان السكر – و هو واضح جدا- كيف لم ينتبه له؟ لقد كتب على صندوق السكر بطاقة تدل على محتواه و حيث أن النمل نظره ثاقب فإنه يرى هذه البطاقة في الظلام و يصل إلي السكر!

و هداه تفكيره إلى فكرة رائعة فقرر أن يتحايل على النمل و بدل بطاقتي السكر و الفلفل لينخدع النمل، و لما جاء النمل انصرف لما شم رائحة الفلفل ما عدا نملتين متعلمتين (المتعلمتان فقط هما اللتان خدعتا!) استطاعتا قراءة محتوى البطاقة و تسللتا إلى السكر المزعوم فوجدتا اختلافاً في اللون و الملمس و الطعم فبدلاً من بياض السكر و انعكاس الضوء عليه وجدتا عتمة سواد الفلفل ؛ و بدلاً من السير على سطح السكر الناعم وجدتا نفسيهما تدوران حول موضع قدميهما (لاحظ الشكل الكروي لحبة الفلفل) ؛ و كذلك الطعم فقد وجدتا بدلاً من حلاوة السكر لسعاً يحرق اللسان.

و عبثاً حاولت إحدى النملتين إقناع الأخرى بأنه سكر لأنها قرأت عنوان البطاقة بعينيها (كذًبت نفسها و صدقت الإنسان المخادع) , و لما خرجتا للتأكد من بطاقة العنوان احتارتا أتصدقان ما تريان و تحسان أم تصدقان كلام البطاقة التي كتبها الشيخ (الذي لا يخطئ!) ثم استقرتا على أن تصدقا المكتوب على البطاقة و استمرتا في الأكل حني الشبع.

و لما أصبح الصبح كانت كلتاهما تتلوي من الألم؛ فقالت إحداهما "لقد ذهبت عني غشاوة عيني و غفلة الليل و عاد إلي رشدي و صوابي مع ضوء النهار ..لقد خدعنا هؤلاء الناس..." و لكي تثبت لأختها أن الخداع طبع متأصل في البشر اتفقت معها على أن تقدم لها الدليل في المساء.

و في المساء خرجت النملتان إلى خزانة الكتب و فتحت الأولى كتاباً بعنوان "الفلسفة الإسلامية" فإذا به يحتوي على "فقه" و لكن مؤلفه جعل له هذا الاسم ليقرأه طلاب الفلسفة بينما مضمونه في الفقه ، ثم أرتها كتاباً آخر اسمه "خواطر الأدب" فإذا به خليط من معرفة لا يرقي إلى العلم في دقته و لا إلى الأدب في جماله ... و لكنه الخداع ، ثم خرجتا إلى الطريق لتريا مظاهر الجهل و الطغيان و التي أسماها الإنسان واهماً مخادعاّ نفسه "مدنية شرقية" ، و لما جادلت النملة الحمقاء أختها قائلة إنها سمعت أن المدنية إنما هي علم يعلمه الإنسان حيثما كان و لا يوجد منها شرقية أو غربية لامتها أختها قائلة "أتنصتين لما يقولون بعد كل هذا ..ألا يكفينا ليلة واحدة قضيناها في علبة الفلفل؟!"

في هذه القصة الرمزية تبدو فيها فلسفة زكي نجيب محمود من خلال حوار نملتين حيث جعل النمل رمزاً للمتعلم المثقف الذي يحكم على الأشياء بمنطق البرئ المصدق لكل ما حوله ، و لكنه في النهاية و بعد تجربة مريرة يكتشف عيوب الإنسان المخادع الذي يعطي الأشياء مسميات غير حقيقية ظناً منه أنه أذكي ممن حوله ؛ و معللاً ذلك بأغراض مختلفة واهية تجعله في النهاية راضياً عن نفسه؛ مثل الشيخ الذي بدل عنواني علبتي السكر و الفلفل ليخدع النمل ؛ والمؤلفين الذين يضعون عناوين على الكتب بخلاف مضمونها ليقرأها طالبو العلم حتى لو لم تلائم احتياجاتهم و أذواقهم ، و الناس الذين يغرقون في الجهل و لا يأخذون من المدنية سوى القشور الخارجية ثم يسمونها "مدنية شرقية" ... و في هذا كله نقد للمجتمع بأسلوب قصصي جذاب و أسلوب يجمع بين الطرافة و الموعظة.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق