رامبرانت الفنان الهولندي (1606- 1669) الذي ضحكت له الدنيا في بداية حياته و أشرقت في سماء فنه موهبته الفريدة ، فأمطرته اللوحات بوابل من الأموال و الثروة التي يغدقها عليه النبلاء من شهرته الواسعة حتى قرر أن يعيش في رفاهية و يتزوج فتاة رائعة الجمال من طبقة أعلى منه و يشترى أفخر الملابس و المجوهرات لها و بيتا وجيها واسعا ..لكنه لم يتوقع الغدر و فقدان مورد الرزق و انصراف الناس من حوله.
لم يستمع لنصح والدته بأن عليه أن يعمل حسابا للزمن ، و ألا يلقى بأمواله يمينا و يسارا بدون حساب، فقد اعتاد إقراض أصحابه و من يلجأ إليه بدون سند يضمن له حقه، و لم يدخر شيئا لشتاء الحياة و عواصفها.
"دورية الليل"
طُلبت منه لوحة جماعية لستة عشر سيدا هم فرقة حراس الليل، وهم من الكبراء الذين يحبون الظهور، ليعلقوها في غرفة اجتماعاتهم ، ليرضوا غرورهم و يظهرهم في أشجع صورة، و طلبوا مقاس اللوحة كبير جدا طولها ثمانية أمتار و عرضها ستة أمتار و التي أسماها "دورية الليل".
و بالرغم من تهديد الضابط الذي تعاقد مع رامبرانت على اللوحة بأن العواقب ستكون سيئة إذا لم يوفق في لوحته؛ إلا أنه استجاب لصوت الفن و الموهبة و رسمها بما أملى عليه حسه الفني، فجاءت اللوحة رائعة في نظره لكنها لم ترقهم و لم تنل إعجابهم ألبته، فقد أغرق بعضهم في الظلام و ركز الضوء على آخرين مسترشدا بملامح وجوههم و ما هو أصلح لتجانس اللوحة و تناسقها و ليس بناء على رتبتهم العسكرية।
و أثار ذلك غضب الضباط و قرروا الانتقام فأثاروا الشائعات حوله و خططوا بمكر ليصرفوا عنه الناس و يحتقروه و يعتبروه خارجا عن الفنانين الشرفاء.
و في تلك الأثناء توفيت زوجته الجميلة المحبة تاركا له طفله الوحيد رضيعا و وصية ظالمة كتبتها سطور الغيرة عليه، فكان مضمونها حرمانه من ابنه و ثروتها إذا تزوج بعد وفاتها، و تلك الوصية كبلت حياته و عرضته لمشكلة كبيرة فيما بعد.
فقد أحب مربية ابنه لرحمتها و شفقتها به و خصالها الهادئة الطيبة، و لكن وقفت تلك الوصية فى طريق زواجه بها، فطاردته الشائعات السيئة و حرم من مباركة الكنيسة زواجه ليحيا حياة طبيعية سعيدة.
و مع تناقص أمواله و مدخراته و استدانته ليجد قوت يومه؛ قرر الدائنون يوما إشهار إفلاسه، و كان يوما قاسيا على نفس فنان كانت لوحاته يوما الأغلى ثمنا و الأكثر قيمة، و الأشد من ذلك قسوة أن من تسبب في إشهار إفلاسه أحد أصدقائه القدامى الذين استفادوا من عطائه و كرمه يوم أن كان ثريا.
و زحف الشيب و أمراض الشتاء على عجوز يعيش في منزل شديد التواضع بارد تحيطه العواصف و لا يجد من وسائل التدفئة ما يهدئ كيانه المرتجف، و ماتت مربية ولده الحنون تاركة له ميراثا من الوحدة و الألم.
و اكتملت حوله أسباب التعاسة عندما توفى ابنه الوحيد بعد زواجه من محبوبته بعدة أشهر فانطفأت روحه و انزوى في مرسمه يتألم و يبدع من الألم لوحات أكثر تعبيرا و تأثيرا، يرسم و هو يدرك أنه لن يحصد من تلك اللوحات شيئا بعدما انصرف الناس من حوله، لكن أملا في الحياة جاء مع مولد ابنة ابنه المتوفى و تعلقه بها ليعطيها ما تبقى عنده من رحيق الحنان و الحب.
توفى الفنان المبدع رامبرانت فقيرا معدما و دفن في مقابر الفقراء و الشحاذين! ثم بيعت بعد ذلك لوحاته بمبالغ خيالية و أصبحت كنوزا لا تقدر بثمن।