الثلاثاء، 19 يونيو 2012

أمانة توصيل الرسالة


لم يخلق الله الانسان سدى ، لم يخلقه ليأكل و يشرب و ينام ،و لم يخلقه للجرى وراء المال متخطيا المبادئ و القيم، لكن خلقه لرسالة أعلى و أسمى ،للعبادة و تعمير الأرض.
و الحياة متجددة إن لم يتعلم فيها الناس باستمرار ،و يخترع العلماء فيها ما يناسب مستجدات الحياة و طفرات الطبيعة ،و يلاحقوا متطلبات الانسان المتسارعة فقد يؤدى ذلك لمعاناة شديدة لكثير من البشر و انتشار المجاعات و سوء الحال.
فمثلا عليهم يتغلبوا على مصادر الطاقة المتناقصة ،و يسدوا الأفواه الجائعة ،و يعالجوا الامراض الجديدة الفتاكة و يقاوموا السلالات الذكية المتحولة المقاومة للعلاج ،فالحاجة للعلم لا منتهى لها.
و قد خلق الله الانسان كلٌ ميسر لما خلق له ،فمن يطيق العلم قد لا يطيق العمل اليدوى ،و من يتقن حرفة لا يتحمل تعلم حرفة أخرى ،و من يقبل أن يعمل فى شيء يأبى آخر أن يقوم بنفس العمل ،و هذا من حكمة الله ليتحقق التكامل و التعاون بين الناس و تمضى الحياة و تعمر الأرض.
لهذا لا يوجد ما يسمى كليات القمة أو عمل مرموق أو ما شابه ذلك فكل عمل مخلص هو عمل عظيم مهما كان ،و مأجور عليه صاحبه طالما مفيد و ينتفع به الآخرون ،و أكبر خطأ أن يصر ولى الأمر على توجيه ابنائه لمجال لا يحبونه و لا يطيقون دراسته من أجل رسم شكل اجتماعى معين أو استكمال مسيرته و إعداد الابن ليشترك مع والده عند تخرجه. لان ذلك يقتل موهبة أخرى ،فكل انسان لديه مواهب أفلح إن اكتشفها و اهتم بها، و من يقل أنه بلا موهبة فقط هو لم يكتشفها بعد ،و للأسف الشديد قد لا يكتشفها حتى الممات.
و اكتشاف مواهب الأبناء مسئولية كبرى على الآباء ،يكتشفونها من خلال الملاحظة و المناقشة مع الابن ،و اختباره و الزج به فى انشطة كثيرة حتى يثبت تفوقه فى بعض منها ،ثم يطورها و يتقنها.
يختار الله الرسل لأداء رسالة تبليغ الأمانة و أصول العبادة و الأوامر و النواهى و تلك رسالة الله إلى البشر.
كما يختار من العلماء و الأدباء و من تميز فى شيء لأداء رسالة الغرض منها تعمير الأرض و إظهار كل ما هو جميل فى الحياة
فهذا قارئ القرآن الذى يتأثر بالآيات تنغيما ووقفا ووصلا ،فيأتى ترتيله بتأثير مهيمن يبكى العيون.
و هذه الطبيبة التى تعالج النساء بمهارة شديدة و لا يصلح من الرجال من يقومون بدورها انتفعت بها الآلاف من النساء المريضات.
و هذا المهندس البارع الذى اخترع نظاما لبناء المنزل مع تهوية رائعة كأنه تكييف طبيعي دون ضرر بالبيئة
و الفنان الذى تتسمر أقدامنا أمام لوحه من لوحاته تسرق عيوننا و تشغل تفكيرنا فنبتسم من جمال الالوان و دخولنا عالم وهمى جديد ذى بعدين لكن كأنه حقيقى نراه و نلمسه.
و هذا الشاعر الذى يطربنا بكلمات متناسقة متناغمة كأنها سلاسل من ذهب و ليس من حروف.
و هذا العازف الذى نسمع لحنه فتذوب الاحزان و تشرق السعادة.
أمام أعمالهم نقف مبهورين و نقول "الله" ..سبحان الله الذى علم الإنسان ما لم يعلم ،فالإبداع نعمة من الله و آية من آياته فى خلق الناس و تعليمهم ما خفى و لطف بإذنه تعالى.
هؤلاء جميعا جعلهم الله سببا فى إسعادنا و دفع الضرر عنا و تحسين أذواقنا ..باختصار خلقهم الله لأداء رسالة ما فى الأرض ليتم تعميرها و الحفاظ عليها.
و ما تفضل الله به عليهم من العلم واجبٌ عليهم تبليغه و الاستفادة منه  و المضى فى العمل به و تطويره لأنها أمانة كبرى.
"أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " الانعام 89
إن الله سائل ولى الأمر عن وديعته هل رعاها؟ هل استغل موهبتها و ساعدها كى تؤدى رسالتها التى أراد الله لها أن تؤديه؟ أم نظر إلى مصالحه و حول صاحب الموهبة إلى اداة تدور لصالحه فقط حتى لو لم يقم بالمستوى المطلوب.
يسأله الله هل قتل الإبداع بداخل زوجته كى يضمن دورانها فى طاحونة منزله باستمرار؟
هل جعل منها كتلة صلبة جافة كالإنسان الآلي ؟هل جعلها حبيسة الدار ،أم تركها ترعى حشاش الأرض و تسعى فى طلب العلم و العمل.
و حرمان المرأة من التعليم ذنب عظيم ،فمن يفعل هذا يحرم المرأة من أداء فريضة العلم ،إن واجبه فقط ينحصر فى مساعدتها و توفير الجو الملائم لها ،و نصحها بالاحتشام و الالتزام فى تعاملها مع زملائها ،ثم الدعاء لها بالتوفيق و مكافأتها و مجازاتها خيرا عندما تتقن و تحسن عملها.

اللهم علمنا ما ينفعنا و نفعنا بما علمتنا و زدنا علما

الجمعة، 8 يونيو 2012

قضاء فرعون و قضاء الله


مهما كان حكم البشر قاسيا و ظالما، لا ينبغى التحسر و قتل النفس حزنا و كمدا على قلة الحيلة و العجز عن دفع الظلم، فما هو أقصى شيء يمكن أن يفعله من يقضى بالظلم؟ إنما قضاؤه موقت و حكمه سار لفترة محدودة بعدد من السنوات؛ قد تقصر..قد تطول لكن لن يكتب له الخلود، و لن يبقى إلا بحدود عمر الأشخاص أو عمر الزمان، فهو فى النهاية قضاء دنيوى زائل فان.
"قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" سورة طه (72)
كلمة خالدة اجتمع عليها السحرة صادقوا الايمان لما رأوا الحقيقة ساطعة و ثبتهم الله على كلمة واحدة: ايثار و تفضيل الايمان بالله مهما تعرضوا لغضب فرعون و ما يتبعه من تعذيب و تنكيل.
و لأنهم يدركون الحيل التى يصنعونها و يسحرون بها أعين الناس و يخدعونهم ؛ كانوا أول من صدق بمعجزة موسى لما ألقى عصاه فتحولت ثعبانا يأكل الثعابين الكاذبة التى يصنعونها بسحرهم، و كان رد فعلهم السجود لرب موسى لله رب العالمين، و الجهر بالايمان به دون خوف من قضاء فرعون و حكمه عليهم، و أنطقهم الله كلمة الحق فقالوا  "و الله خير و أبقى"....
لقد وعدهم  فرعون من قبل أن يكونوا من المقربين إذا نجحوا فى مهمتهم - و هى الانتصار على فرعون أمام جموع الناس فى اليوم المشهود يوم الزينة- ليثبتوا للملأ كذبا أن موسى ليس نبيا و أن فرعون هو الاله الوحيد، لكنهم ألقوا كل شيء وراء ظهورهم رضا فرعون و المكانة العالية و الجوائز الدنيوية مقابل اظهار الحق و نصرته ، فكانوا من الفائزين...
و عاقبهم فرعون فى الدنيا بتقطيع أيديهم و ارجلهم من خلاف و تصليبهم فى جذوع النخل ، لكنه عذاب وقتى ..ساعات معدودة ثم فاضت ارواحهم لينالوا حسن الجزاء و يواجهوا قضاء الله العادل العظيم: رضاه و الخلود فى جنات النعيم، و ذلك جزاء من تزكى.

و هذا مثال من الحياة...
لما فاجأها بقسوة حكمه و فظاظة كلامه و قراره الجائر، الذى أراد به حسم النقاش لصالحه- من وجهة نظره- دون أدنى تنازل منه أو تقارب فى المصالح، صمتت برهة من الوقت و قد أسقط فى يدها ، و أدركت أن لا حيلة لها فى تغيير القضاء و المقدور...
إن كان الله أعطاه سلطة القرار و إصدار الحكم، و ألزمها بالطاعة و الرضوخ، فذلك لأن الحساب الشديد ينتظره ، فيوم التغابن ترفع المظالم و ترد الحقوق ، و يسمع الله الاعذار و يحكم بالحق.
و طمأنها  صوت من قلبها يقول لها: لا تحزنى و لا تشعرى بالقهر، فليقل ما يشاء و ليفعل ما يشاء، إنما يقضى هذه الحياة الدنيا ، و تلك من رحمة الله أن جعل أحكام البشر الدنيوية وقتية عبر زمن محدود، مهما طال فإن النصر آت، و سوف تقف الدموع و تسكت الآهات.

و موقف من قلب الأحداث...
فى محاكمة القرن – كما يسميها الإعلام - بادر القاضى الشجاع الجميع بالحكم الذى كان مفاجأة بجميع المقاييس ؛ الملايين كانت تنصت بين شامت و مشفق، مذهول و مصدق، داخل البيوت و خارجها ، فى مصر و ما حولها، القاضى مشهود له بالأمانة والاستقامة و عدم اللهاث وراء الشهرة أو الأضواء و ليس عليه غبار و تاريخه مشرف لا يعيبه شيء فقد سبق له الحكم بجرأة لينصف المظلومين حتى لو كان المجرمون من علية القوم و أصحاب السلطة.
و بالرغم من هذا لما نطق القاضى بالحكم؛ البعض قال "الله اكبر" ،و البعض امتعض و استنكر، و لما تلا باقى الأحكام زمجر معظم العوام، و انطلقت الحناجر بالأقوال المجحفة و الاتهامات المسرفة ؛فقالوا " باطل.. باطل" كأنهم على علم كامل!
قضى القضاء المصرى و سرى الحكم و مهما كانت الحيثيات و الأسباب ، و مواطن الاختلاف أو الاتفاق ، هو فى النهاية قضاء دنيوى يحتمل الخطأ و الصواب حسب طبيعة القصور البشري و ليقض القاضى ثم بنفذ قضاء الله ، و عقاب الله فى الآخرة أشد وطأة و أثقل حسابا، و هو العدل الحقيقي المطلق الذى لا مراء فيه و لا معقب عليه...
"فاقض ما أنت قاض * إنما تقضى هذه الحياة الدنيا"

الأحد، 20 مايو 2012

"أنتم شر مكانا"


اذا كان لديك صبر قوى فقط فسوف تتمكن من الصبر على من يسبك و هو لا يدرى أنك تسمع ما يقول؛ فالصبر على الإهانة قوة تحمل كبرى خاصة إذا كان الشخص قادرا على رد الإساءة بالإساءة، و لا يمنعه خوف و لا سن من يعتدى عليه باللسان و القول البذئ.
فإذا كان وزيرا عظيما أمينا عاليا فى الأرض مقربا من الملك ، و يقف على خزائن الأرض حيث القحط و الجدب فى كل مكان إلا فى تلك البلد التى يتبوأ فيها أعلى المناصب، ثم سمع من يسبه و يصفه بالسرقة و هو الحفيظ الأمين، و من قال هذا الكلمات هم قوم ليسوا أغرابا عليه و ليسوا من أهل البلدة، إنهم إخوته حيث جاءوا ليطلبوا الطعام من أجل القحط و الجوع الذى حل بهم.
سيدنا يوسف الصديق ماذا فعل عندما وصفه إخوته بأنه سارق؟ أسر ذلك فى نفسه و لم يظهر معرفته بهم أو يبين شخصيته:
"قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ" يوسف الآية 77
و قد سامح يوسف إخوته ووصف الجريمة التى فعلوها به وصفا هينا يخفف من بشاعتها؛ إذ هى فى صميمها جريمة قتل خففت لتصبح شروع فى قتل و إبعاد عن كنف الأب و عطفه، وصف يوسف صنيع إخوته بأنه عمل من نزغ الشيطان
"من بعد أن نزغ الشيطان بينى و بين إخوتى"
و رفع عنهم حرج طلب السماح و الاعتراف بالخطأ قائلا
"لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين"
فلم يكتف بأن يغفر لهم بل طلب من الله أن يغفر لهم ذنبهم القديم
فالشخص الذى يتهم غيره ظلما و زورا، أو يغتاب أخاه المسلم إنما هو أكثر شرا و هو الذى يستحق السوء و السخرية و ليس الموصوف...و الله أعلم بالحقيقة و مدى دقة الوصف و انطباقه أو بعده عن الشخص.
و لا يقدر على الغفران من بعد سماع الكلمة السيئة وجها لوجه سوى إنسان ذي ايمان قوى و عزيمة شديدة ، و لذلك قال تعالى "و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور".
و من يفعل ذلك فقد وكل إلى الله أمر الدفاع عنه و إعادة حقه، و رضى بأن مكانته عند الله هى الأهم من مكانته بين جموع النمامين و المغتابين، و يكفيه أن يغفر الله له جزاء صفحه عمن آذوه..
 "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " النور 22

كانت عيناى تجريان وراء سطور الرسالة التى كتبها أحد الاشخاص لآخر، و تتضمن سبا لى و سخرية منى، و دق قلبى سريعا، ما أسوأ أن يطلع الإنسان على ما ليس له به علم، خاصة إن كان يؤذيه، فلو لم أقرأ تلك الرسالة التى ليست موجهة لى لما حزنت عندما قرأت ذلك الكلام عنى، و لما امتلأ قلبى غيظا و كرها للشخص المرسل  و المرسل اليه ، و مع ذلك كنت مجبرة على عدم مواجهته حتى لا يعلم أنى تلصصت عليه و تتبعت رسائله، لكن ذلك وليد الشك فيه و عدم الاطمئنان لأفعاله و توقع الغدر منه، فكان من باب أخذ الحيطة و الحذر..
و تلك حكمة كبرى أن ينهى الله عن التجسس، و ألا يسعى الانسان لمعرفة ما يضره و لا ينفعه، فعقل المؤمن أكبر من أن ينشغل بتلك التفاهات من لهو الحديث، و عمره أثمن من أن يضيعه القيل و القال و الجدال السارق للوقت و الجهد، و المدمر للأعصاب و الذي لا طائلة منه سوى إنهاك النفس، و تعطيل العلم و التحصيل.

الثلاثاء، 1 مايو 2012

لقطات من أحلام نجيب محفوظ


نجيب محفوظ يتألق بحكمته و فلسفته في نهايات العمر.. و ماذا بعد طول سنين لإنسان متأمل لأحداث الحياة يمتلك فكر فيلسوف و أسلوب أديب و خبرة عجوز؟ خلاصة سنين طويلة من التأمل في سلسلة من الأحلام؛ بل قل لقطات غير مترابطة، لكنها حول عدة محاور منها ما يخص العالم الخارجي و منها ما ينطلق من ذات الكاتب و فكره الداخلي.

أحلام فترة النقاهة أسلوب جديد؛ مجموعة من الأحلام ليست قصص قصيرة و ليست أقصوصة لكنها نبضات فكرية أو مشاهد سريعة من أحداث الحياة؛ ليست خواطر لأنها تصف أشخاصاً أو أمكنة، قد تكون قصيرة لكن يكتمل فيها رسم المكان – كعادة نجيب محفوظ الفنان في رسم الأمكنة – و الزمان و الشخوص و ربما احتوت فى عجالة العقدة أيضا ، لكنها دائما نهايات مفتوحة و غامضة.
نقاهة من ماذا؟ من المرض أم من وطأة الحياة و ثقل المسئوليات؟ إنه إحساس شيخ كبير أدى رسالته نحو أسرته و وطنه و تفرغ للإبداع و حالة من صفاء الذهن و عمق التفكير

إننى حقا اشتاق لمعرفة ماذا كان يقصد الكاتب فعلا من كل حلم ، هل هو ما فكرت فيه أم شيء آخر بعيد المنال؟ انه مثل الأحاجي و الفوازير التي ليس لها حل محدد لكنها فعلا شيقة في كل مرة أقرأ حلما انتقل للآخر بسرعة لأراهن نفسي هل سأفهمها بسهولة و أفك شفرتها أم سيتعبتى البحث و تدور بى الاحتمالات؟ إنها حقا رحلة ممتعة في عقل نجيب محفوظ.
و أراها شديدة التعقيد و الغموض، انه يقصد أشياء و أشياء؛ هل هي أبيات شاعر يحتفظ بالمعاني لنفسه أم أنها أجزاء من سيمفونية الحياة انه الفنان في كل زمان و مكان يعشق التنوع و ينبذ التكرار حتى فى الاسلوب و التعبير فيأتى دائما بالجديد..

هل هي كوابيس أو أحلام مزعجة أم أحلام يقظة أم أمنيات؟
ماذا عن الوحدة الفنية فيها و الجو النفسي الذي يهيمن عليها و يحدد مسارها؟ انها لغة التشاؤم فى نظرى و الاثبات يأتى من عدة ملاحظات..
-          تكرار كلمات مثل متجهما – انقبض صدري – مسدس – مرتجفة – لعنات – تشاؤم - شتائم
-          نهايات مفتوحة و تلميحات عن الفساد
-          تكرار ذكر الشيخوخة و العجز و مقارنة الأيام السابقة بالواقع الأليم
منذ النظرة الأولى يتبين الجو النفسى العام للكاتب ، فهو يميل إلى التشاؤم و تميل أحلامه إلى الكوابيس..
دعوني أسمى الأحلام بدلا من أرقامها التي عنونها الكاتب بها:

حلم 1: الصداقة تتحول لسراب
أسوق دراجتى من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع، باحثا عن مطعم مناسب لذوى الدخل المحدود و دائما أجدها مغلقة الأبواب. و حانت منى التفاتة إلى ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقى فدعانى بشارة من يده فملت بدراجتى نحوه، و إذا به على علم بحالى فاقترح علىَ أن أترك دراجتى معه ليسهل علىَ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث و جوعى يشتد. و صادفنى فى طريقة مطعم العائلات ، فبدافع من الجوع و اليأس اتجهت نحوه على الرغم من علمى بارتفاع أسعاره ، و رآنى صاحبه و هو يقف فى مدخله أمام ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستار فبدت خرابة ملأى بالنفايات فى وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج ماذا جرى؟ فقال الرجل : أسرع إلى كبابجى الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب ، و لم أضيع وقتا فرجعت إلى ساعة الميدان لكننى لم أجد الدراجة و لا الصديق..
مطعم العائلات خال إلا من النفايات، الأمل الأخير فى كبابجى الشباب عند ساعة الميدان، الصديق يقف تحتها و على علم مسبق بجوعه الشديد، و لما استمع لنصيحة صاحبه لم يجد الدراجة و لا الصديق..
هل لأن العمر مضى أم خيانة أتته من أقرب الناس له.

حلم 3: الهوان
هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه، و هو يحرك رأسه بعنف يمنة و يسرة و يهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى هذا العذاب؟ و كان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق و يتبادلون النظر فى ذهول ، و تساءل صوت: من فعل بك ذلك؟ فأجاب الرجل المعذب و رأسه لا تكف عن الحركة: أنا الفاعل – لماذا؟ هو العقاب الذى استحقه – من أى ذنب؟ فصاح بغضب : الجهل، فقلت له : عهدنا بك ذو حلم و خبرة، جهلنا أن الغضب استعداد كل فرد، و ارتفع صوته و هو يقول: و جهلت أن أى إنسان لا يخلو من كرامة مهما هن شأنه. وغلبنا الحزن و الصمت.
رجل مقيد بحبل و الكرامة الجريحة تمثيل بالإنسان إذ يستهين بعقاب الله و هو لا يتحمل ذرة منه. لا يملكون له شيء سوى الحزن و الصمت ..
ثلاثتنا: من هم الثلاثة؟ أسئلة حائرة.
الظاهر: أنه ذو حلم و خبرة.
الحقيقة: أنه مهان نتيجة نتيجة سوء صنيعه و الدليل كلمة "الفاعل" و أن هذا العقاب الذي يستحقه.

حلم 36: المتآمرون
جمعنا بهو ما، ثمة وجوه أراها لأول مرة و وجوه أعرفها جيدا من الزملاء، و كنا ننتظر إعلان نتيجة اليانصيب، و أعلنت النتيجة و كنت الرابح، و كانت الجائزة فيلا حديثه و حصل تعليقات و  توهان، لم تستطع وجوه كثيرة أن تخفى كمدها. و قال لى كثيرون أنه فوز لكنه خازوق من أين لك المال لتأسيسها و توفير الخدم اللازمين لها و استهلاك الماء و الكهرباء و خدمة حمام السباحة و التكييف...الخ
الحق أن الحلم ما زال حيا، و ها أنا أتفقد الفيلا كل يوم تقريبا و أرجع بالخيبة و الحسرات، و استغل أناس قلة خبرتى و أقنعونى ببيعها و اشتروا بثمن فرحت به ساعات حتى تبين لى أنى خدعت و سرقت.
و حدث فى ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام ، و كثر التزاحم حولها و المرشحون و بطاقات ذوى النفوذ، و قابلت الوزير و قلت له أننى لا وسيط لى سواه، و لكنه قال لى إنك لم تستطع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟ و صرت نادرة و مثالا... فطلبت ضم المدة الباقية لى فى الخدمة إلى خدمتى و إحالتى إلى المعاش، و أخيرا وجدت الطمأنينة فى موضع لا يتطلع إليه طماع، و لا ينظر إليه ذوو الطموح. 
ماذا جاء سهلا يذهب سهلا، و هذا شأن أموال اليانصيب التى لا تتطلب سوى لحظة حظ دون أدنى مجهود أو إعداد، و ليت تلك الجائزة التى كسبها من اليانصيب ذهبت و فارقته فحسب، لكنها خلفت له حسرة و شؤما بداية من الحقد و الحسد الذى لاحقه، ثم حسرته على بيعها بثمن بخس، و انتهاء بوصفه لا يصلح لرعاية المال و تحمل المسئولية ثم احالته على المعاش و فقدان عمله هروبا من كلام الناس و نظراتهم. فهل كان فوزه فوزا حقيقيا و نعمة تستحق الفرحة أم خسارة و شر مقنع؟

حلم 65 : ما أجمل اللامعقول!
انقضى العام الدراسى و أعلن عن يوم الامتحان و لم نكن فتحنا كتابا و لا حفظنا جملة توجب التفكير فيما ينبغى عمله، و ثمة قلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من الاحترام لما هو معقول فقررت الامتناع عن حضور الامتحان ، فأما الأخرى فكانت مولعة بالعبث و اللامعقول فانتهزت الفرصة المتاحة و عزمت على حضور الامتحان و فى الصباح الموعود انتظمنا الصفوف و لبسنا أقنعة الجدية و الاهتمام و إذا برئيس اللجنة يقوم و يقول بصوت جهورى إنه سيوزع علينا ورقتين إحداهما تحوى الأسئلة و الأخرى تحوى الإجابات الصحيحة. و ذهبنا حقا فلم نكن نتصور أن بين أساتذتنا من يفوقنا فى حب العبث و اللامعقول.
حدث لا يحدث إلا فى الأحلام الجميلة ذات النهاية السعيدة حتى لو لم تتفق مع المنطق، المراقب يوزع عليهم بكل جرأة ورقة الإجابات مع الأسئلة فى استهانة صارخة بمبدأ العدل و تكافؤ الفرص، الكل يحب الخداع؛ فالطلبة ارتدوا أقنعة الجد و الاجتهاد، و الأساتذة قرروا التجديد و التسهيل عليهم أثناء التصحيح؛ الإجابات ستكون موحدة و النجاح أكيد لكنه فى النهاية نجاح زائف و تمثيلية عبثية غير معقولة.