الثلاثاء، 1 مايو 2012

لقطات من أحلام نجيب محفوظ


نجيب محفوظ يتألق بحكمته و فلسفته في نهايات العمر.. و ماذا بعد طول سنين لإنسان متأمل لأحداث الحياة يمتلك فكر فيلسوف و أسلوب أديب و خبرة عجوز؟ خلاصة سنين طويلة من التأمل في سلسلة من الأحلام؛ بل قل لقطات غير مترابطة، لكنها حول عدة محاور منها ما يخص العالم الخارجي و منها ما ينطلق من ذات الكاتب و فكره الداخلي.

أحلام فترة النقاهة أسلوب جديد؛ مجموعة من الأحلام ليست قصص قصيرة و ليست أقصوصة لكنها نبضات فكرية أو مشاهد سريعة من أحداث الحياة؛ ليست خواطر لأنها تصف أشخاصاً أو أمكنة، قد تكون قصيرة لكن يكتمل فيها رسم المكان – كعادة نجيب محفوظ الفنان في رسم الأمكنة – و الزمان و الشخوص و ربما احتوت فى عجالة العقدة أيضا ، لكنها دائما نهايات مفتوحة و غامضة.
نقاهة من ماذا؟ من المرض أم من وطأة الحياة و ثقل المسئوليات؟ إنه إحساس شيخ كبير أدى رسالته نحو أسرته و وطنه و تفرغ للإبداع و حالة من صفاء الذهن و عمق التفكير

إننى حقا اشتاق لمعرفة ماذا كان يقصد الكاتب فعلا من كل حلم ، هل هو ما فكرت فيه أم شيء آخر بعيد المنال؟ انه مثل الأحاجي و الفوازير التي ليس لها حل محدد لكنها فعلا شيقة في كل مرة أقرأ حلما انتقل للآخر بسرعة لأراهن نفسي هل سأفهمها بسهولة و أفك شفرتها أم سيتعبتى البحث و تدور بى الاحتمالات؟ إنها حقا رحلة ممتعة في عقل نجيب محفوظ.
و أراها شديدة التعقيد و الغموض، انه يقصد أشياء و أشياء؛ هل هي أبيات شاعر يحتفظ بالمعاني لنفسه أم أنها أجزاء من سيمفونية الحياة انه الفنان في كل زمان و مكان يعشق التنوع و ينبذ التكرار حتى فى الاسلوب و التعبير فيأتى دائما بالجديد..

هل هي كوابيس أو أحلام مزعجة أم أحلام يقظة أم أمنيات؟
ماذا عن الوحدة الفنية فيها و الجو النفسي الذي يهيمن عليها و يحدد مسارها؟ انها لغة التشاؤم فى نظرى و الاثبات يأتى من عدة ملاحظات..
-          تكرار كلمات مثل متجهما – انقبض صدري – مسدس – مرتجفة – لعنات – تشاؤم - شتائم
-          نهايات مفتوحة و تلميحات عن الفساد
-          تكرار ذكر الشيخوخة و العجز و مقارنة الأيام السابقة بالواقع الأليم
منذ النظرة الأولى يتبين الجو النفسى العام للكاتب ، فهو يميل إلى التشاؤم و تميل أحلامه إلى الكوابيس..
دعوني أسمى الأحلام بدلا من أرقامها التي عنونها الكاتب بها:

حلم 1: الصداقة تتحول لسراب
أسوق دراجتى من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع، باحثا عن مطعم مناسب لذوى الدخل المحدود و دائما أجدها مغلقة الأبواب. و حانت منى التفاتة إلى ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقى فدعانى بشارة من يده فملت بدراجتى نحوه، و إذا به على علم بحالى فاقترح علىَ أن أترك دراجتى معه ليسهل علىَ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث و جوعى يشتد. و صادفنى فى طريقة مطعم العائلات ، فبدافع من الجوع و اليأس اتجهت نحوه على الرغم من علمى بارتفاع أسعاره ، و رآنى صاحبه و هو يقف فى مدخله أمام ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستار فبدت خرابة ملأى بالنفايات فى وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج ماذا جرى؟ فقال الرجل : أسرع إلى كبابجى الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب ، و لم أضيع وقتا فرجعت إلى ساعة الميدان لكننى لم أجد الدراجة و لا الصديق..
مطعم العائلات خال إلا من النفايات، الأمل الأخير فى كبابجى الشباب عند ساعة الميدان، الصديق يقف تحتها و على علم مسبق بجوعه الشديد، و لما استمع لنصيحة صاحبه لم يجد الدراجة و لا الصديق..
هل لأن العمر مضى أم خيانة أتته من أقرب الناس له.

حلم 3: الهوان
هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه، و هو يحرك رأسه بعنف يمنة و يسرة و يهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى هذا العذاب؟ و كان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق و يتبادلون النظر فى ذهول ، و تساءل صوت: من فعل بك ذلك؟ فأجاب الرجل المعذب و رأسه لا تكف عن الحركة: أنا الفاعل – لماذا؟ هو العقاب الذى استحقه – من أى ذنب؟ فصاح بغضب : الجهل، فقلت له : عهدنا بك ذو حلم و خبرة، جهلنا أن الغضب استعداد كل فرد، و ارتفع صوته و هو يقول: و جهلت أن أى إنسان لا يخلو من كرامة مهما هن شأنه. وغلبنا الحزن و الصمت.
رجل مقيد بحبل و الكرامة الجريحة تمثيل بالإنسان إذ يستهين بعقاب الله و هو لا يتحمل ذرة منه. لا يملكون له شيء سوى الحزن و الصمت ..
ثلاثتنا: من هم الثلاثة؟ أسئلة حائرة.
الظاهر: أنه ذو حلم و خبرة.
الحقيقة: أنه مهان نتيجة نتيجة سوء صنيعه و الدليل كلمة "الفاعل" و أن هذا العقاب الذي يستحقه.

حلم 36: المتآمرون
جمعنا بهو ما، ثمة وجوه أراها لأول مرة و وجوه أعرفها جيدا من الزملاء، و كنا ننتظر إعلان نتيجة اليانصيب، و أعلنت النتيجة و كنت الرابح، و كانت الجائزة فيلا حديثه و حصل تعليقات و  توهان، لم تستطع وجوه كثيرة أن تخفى كمدها. و قال لى كثيرون أنه فوز لكنه خازوق من أين لك المال لتأسيسها و توفير الخدم اللازمين لها و استهلاك الماء و الكهرباء و خدمة حمام السباحة و التكييف...الخ
الحق أن الحلم ما زال حيا، و ها أنا أتفقد الفيلا كل يوم تقريبا و أرجع بالخيبة و الحسرات، و استغل أناس قلة خبرتى و أقنعونى ببيعها و اشتروا بثمن فرحت به ساعات حتى تبين لى أنى خدعت و سرقت.
و حدث فى ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام ، و كثر التزاحم حولها و المرشحون و بطاقات ذوى النفوذ، و قابلت الوزير و قلت له أننى لا وسيط لى سواه، و لكنه قال لى إنك لم تستطع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟ و صرت نادرة و مثالا... فطلبت ضم المدة الباقية لى فى الخدمة إلى خدمتى و إحالتى إلى المعاش، و أخيرا وجدت الطمأنينة فى موضع لا يتطلع إليه طماع، و لا ينظر إليه ذوو الطموح. 
ماذا جاء سهلا يذهب سهلا، و هذا شأن أموال اليانصيب التى لا تتطلب سوى لحظة حظ دون أدنى مجهود أو إعداد، و ليت تلك الجائزة التى كسبها من اليانصيب ذهبت و فارقته فحسب، لكنها خلفت له حسرة و شؤما بداية من الحقد و الحسد الذى لاحقه، ثم حسرته على بيعها بثمن بخس، و انتهاء بوصفه لا يصلح لرعاية المال و تحمل المسئولية ثم احالته على المعاش و فقدان عمله هروبا من كلام الناس و نظراتهم. فهل كان فوزه فوزا حقيقيا و نعمة تستحق الفرحة أم خسارة و شر مقنع؟

حلم 65 : ما أجمل اللامعقول!
انقضى العام الدراسى و أعلن عن يوم الامتحان و لم نكن فتحنا كتابا و لا حفظنا جملة توجب التفكير فيما ينبغى عمله، و ثمة قلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من الاحترام لما هو معقول فقررت الامتناع عن حضور الامتحان ، فأما الأخرى فكانت مولعة بالعبث و اللامعقول فانتهزت الفرصة المتاحة و عزمت على حضور الامتحان و فى الصباح الموعود انتظمنا الصفوف و لبسنا أقنعة الجدية و الاهتمام و إذا برئيس اللجنة يقوم و يقول بصوت جهورى إنه سيوزع علينا ورقتين إحداهما تحوى الأسئلة و الأخرى تحوى الإجابات الصحيحة. و ذهبنا حقا فلم نكن نتصور أن بين أساتذتنا من يفوقنا فى حب العبث و اللامعقول.
حدث لا يحدث إلا فى الأحلام الجميلة ذات النهاية السعيدة حتى لو لم تتفق مع المنطق، المراقب يوزع عليهم بكل جرأة ورقة الإجابات مع الأسئلة فى استهانة صارخة بمبدأ العدل و تكافؤ الفرص، الكل يحب الخداع؛ فالطلبة ارتدوا أقنعة الجد و الاجتهاد، و الأساتذة قرروا التجديد و التسهيل عليهم أثناء التصحيح؛ الإجابات ستكون موحدة و النجاح أكيد لكنه فى النهاية نجاح زائف و تمثيلية عبثية غير معقولة.

هناك تعليقان (2):

  1. مقالات نفسية عن احلام نجيب محفوظ
    http://www.maganin.com/Content.asp?ContentID=11837
    http://www.maganin.com/Content.asp?ContentID=11852
    http://www.maganin.com/Content.asp?ContentID=11863

    ردحذف
  2. شكرا للإفادة و اتمنى يكون المقال فيه امثلة تطبيقية لنقد هذا الكاتب بشكل مبسط

    ردحذف