مهما كان حكم البشر قاسيا و ظالما، لا ينبغى
التحسر و قتل النفس حزنا و كمدا على قلة الحيلة و العجز عن دفع الظلم، فما هو أقصى
شيء يمكن أن يفعله من يقضى بالظلم؟ إنما قضاؤه موقت و حكمه سار لفترة محدودة بعدد
من السنوات؛ قد تقصر..قد تطول لكن لن يكتب له الخلود، و لن يبقى إلا بحدود عمر
الأشخاص أو عمر الزمان، فهو فى النهاية قضاء دنيوى زائل فان.
"قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي
هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" سورة طه (72)
كلمة خالدة اجتمع عليها السحرة صادقوا الايمان لما رأوا الحقيقة ساطعة و
ثبتهم الله على كلمة واحدة: ايثار و تفضيل الايمان بالله مهما تعرضوا لغضب فرعون و
ما يتبعه من تعذيب و تنكيل.
و لأنهم يدركون الحيل التى يصنعونها و يسحرون بها أعين الناس و يخدعونهم ؛ كانوا
أول من صدق بمعجزة موسى لما ألقى عصاه فتحولت ثعبانا يأكل الثعابين الكاذبة التى
يصنعونها بسحرهم، و كان رد فعلهم السجود لرب موسى لله رب العالمين، و الجهر
بالايمان به دون خوف من قضاء فرعون و حكمه عليهم، و أنطقهم الله كلمة الحق فقالوا "و الله خير و أبقى"....
لقد وعدهم فرعون من قبل أن يكونوا
من المقربين إذا نجحوا فى مهمتهم - و هى الانتصار على فرعون أمام جموع الناس فى
اليوم المشهود يوم الزينة- ليثبتوا للملأ كذبا أن موسى ليس نبيا و أن فرعون هو
الاله الوحيد، لكنهم ألقوا كل شيء وراء ظهورهم رضا فرعون و المكانة العالية و
الجوائز الدنيوية مقابل اظهار الحق و نصرته ، فكانوا من الفائزين...
و عاقبهم فرعون فى الدنيا بتقطيع أيديهم و ارجلهم من خلاف و تصليبهم فى
جذوع النخل ، لكنه عذاب وقتى ..ساعات معدودة ثم فاضت ارواحهم لينالوا حسن الجزاء و
يواجهوا قضاء الله العادل العظيم: رضاه و الخلود فى جنات النعيم، و ذلك جزاء من
تزكى.
و هذا مثال من الحياة...
لما فاجأها بقسوة حكمه و فظاظة كلامه و قراره
الجائر، الذى أراد به حسم النقاش لصالحه- من وجهة نظره- دون أدنى تنازل منه أو
تقارب فى المصالح، صمتت برهة من الوقت و قد أسقط فى يدها ، و أدركت أن لا حيلة لها
فى تغيير القضاء و المقدور...
إن كان الله أعطاه سلطة القرار و إصدار
الحكم، و ألزمها بالطاعة و الرضوخ، فذلك لأن الحساب الشديد ينتظره ، فيوم التغابن
ترفع المظالم و ترد الحقوق ، و يسمع الله الاعذار و يحكم بالحق.
و طمأنها
صوت من قلبها يقول لها: لا تحزنى و لا تشعرى بالقهر، فليقل ما يشاء و ليفعل
ما يشاء، إنما يقضى هذه الحياة الدنيا ، و تلك من رحمة الله أن جعل أحكام البشر الدنيوية
وقتية عبر زمن محدود، مهما طال فإن النصر آت، و سوف تقف الدموع و تسكت الآهات.
و موقف من قلب الأحداث...
فى محاكمة القرن – كما يسميها الإعلام - بادر
القاضى الشجاع الجميع بالحكم الذى كان مفاجأة بجميع المقاييس ؛ الملايين كانت تنصت
بين شامت و مشفق، مذهول و مصدق، داخل البيوت و خارجها ، فى مصر و ما حولها، القاضى
مشهود له بالأمانة والاستقامة و عدم اللهاث وراء الشهرة أو الأضواء و ليس عليه
غبار و تاريخه مشرف لا يعيبه شيء فقد سبق له الحكم بجرأة لينصف المظلومين حتى لو
كان المجرمون من علية القوم و أصحاب السلطة.
و بالرغم من هذا لما نطق القاضى بالحكم؛
البعض قال "الله اكبر" ،و البعض امتعض و استنكر، و لما تلا باقى الأحكام
زمجر معظم العوام، و انطلقت الحناجر بالأقوال المجحفة و الاتهامات المسرفة ؛فقالوا
" باطل.. باطل" كأنهم على علم كامل!
قضى القضاء المصرى و سرى الحكم و مهما كانت
الحيثيات و الأسباب ، و مواطن الاختلاف أو الاتفاق ، هو فى النهاية قضاء دنيوى
يحتمل الخطأ و الصواب حسب طبيعة القصور البشري و ليقض القاضى ثم بنفذ قضاء الله ،
و عقاب الله فى الآخرة أشد وطأة و أثقل حسابا، و هو العدل الحقيقي المطلق الذى لا
مراء فيه و لا معقب عليه...
"فاقض ما أنت قاض * إنما تقضى هذه الحياة الدنيا"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق