"يؤتى الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا"
الحكمة كنز كبير لمن يسعى اليها و يطلبها بصدق و يجاهد فى سبيل الحصول عليها، و أساسها العلم و التعمق فيه و زيادة البحث و اطلاق العنان للنقاش و الوصول إلى أسرار العلم و التنافس فيه.
و إذا سعى الحاكم الى نشر العلم و الحفاظ عليه فقد هيأ المناخ الافضل للعلماء و الباحثين، و ضمن الرخاء و الخير لأمته..و هذا ما قام به هارون الرشيد و ابنه المأمون ؛ فقد تم انشاء أول جامعة فى التاريخ فى عهده و أسموها "بيت الحكمة"..
الإنشاء
بيت الحكمة أول مكتبة تأسست ببغداد، و أنشئ في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد وابنه عبد الله المأمون في بداية القرن التاسع الميلادي سنة 840 ميلادية تقريبا
عبد الله المأمون من أشهر خلفاءا العصر العباسى حكم (813 ـ 833 م ) فى بغداد قام برعاية الشعر والعلوم ـ أنشأ دارا للترجمة سمىت ( بىت الحكمة ) ضمت مكتبة كبيرة وعين بها مترجمىن لترجمة الكتب الأجنبىة للعربية وأنفق أموالا طائلة فى شرائها .
كما اشتهر أبو جعفر المنصور بعنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وأشرف علي بناء بيت الحكمة بنفسه.
تصميمه:
كان مشيدا فى قصر الخلافة ببغداد، فقد جرت العادة على أن تكون خزانة الكتب جزءا من القصر مثل قصور قرطبة و قصر الخلفاء فى مصر، و ربما كان بيت الحكمة في بداية إنشائه في عصر الرشيد جزءا من قصر الخليفة وكان بناية مستقلة ملحقة بقصر الخليفة في مكان خارجي، ولما زاد وعدد الكتب المترجمة والمؤلفة في زمن المأمون أصبح من الضروري أن يكون هناك بناية كبيرة فيها عدد كبير من القاعات والفرق والحجرات المخصصة للمترجمين والمؤلفين والدارسين، بالإضافة الى الدواوين الواسعة ولهذا نقلت الى الرصافة بالقرب من باب الشماسية وأضاف اليها مرصدا فلكيا.
تكون البيت من طابقين, الطابق السفلي يضم قاعات خاصة بخزائن الكتب وأقسام الترجمة والنسخ والتأليف والتجليد والمطالعة والدراسة في كل مجال من مجالات المعرفة والعلوم والآداب اما قاعات الطابق العلوي فكانت خاصة بإقامة المؤلفين والمترجمين والدارسين والعاملين وغيرهم .
و بذلك يكون قد ضم مساكن للطلاب و المعلمين و ساحة جامعية بالإضافة إلى مطعم لتزويد رواد الجامعة بالغذاء.
الهيكل التنظيمي لبيت الحكمة
كانت مؤسسة مثل بقية المؤسسات القائمة في عصر المأمون و لذلك أطلق لفظ (صاحب بيت الحكمة )، وهذا اللفظ يطلق على أصحاب المراتب العليا في الدولة ، ويدعى المسئول عن بيت الحكمة (بالخازن)لإدارة شؤونه وصيانة كنوزه .وكان لا يتولى هذا المنصب إلا من العلماء النابهين الكبار ومن الذين برعوا في علوم عديدة لما لهذا المنصب من اهمية كبيرة.
أقسام بيت الحكمة:
كانت بناية كبيرة فيها عدد كبير من القاعات والغرف التي ضمت هذه الكتب والتي قسمت على شكل مجموعات اذ كل مجموعة علمية تخص علم من العلوم في خزانة وهذه الخزانة مقسمة على شكل رفوف وكل رف مقطع بحواجز .
وكانت هذه الكتب مفهرسة على النحو الذي هو عليه المكتبات الحديثة من حيث تنظيم فهرسة واضحة لعناوين المؤلفات والكتب ، إذ تجمع كتب الموضوع الواحد في مكان واحد على الرفوف تجاورها الكتب الوثيقة الصلة بالموضوع ، مما يسهل للقارئ الاهتداء إلى الكتب التي يريدها .بالإضافة الى ذلك فانه عمل فهارس لهذه الكتب ولكل موضوع على حده،و يعد كتاب الفهرست لابن النديم من اهم المصادر التي تحدثت عن بيت الحكمة
كان بالمكتبة عدة اقسام منها:
1-الإيداع
يطلق على الكتب المودعة في بيت الحكمة لفظ "التخليد" من شدة تعظيم الكتاب، والكتب تودع في المكتبة بعدة طرق منها الكتب المؤلفة أو عن طريق الترجمة، أو عن طريق شراء الكتب, فقد كانت الدولة العباسية تعقد الصفقات لشراء كتب وتدفع في سبيلها أغلى الاثمان وخاصة في عهد المأمون حكيم بني العباس الذي سخر كل الامكانيات وطرق كل السبل ليعثر على الكنوز الفكرية الحبيسة في مكتبات القسطنطينية وقبرص.
2-الإعارة
ويوجد في بيت الحكمة حجرة فيها القراء وعلى بابها الخدم لتقديم الخدمة لمن يرتاد تلك الدار، و قد سمحوا فيها بالإعارة الخارجية إلا ان هذه الكتب لا تعطى إلا لمن يعرف قيمة هذه الكتب ,وعند الإعارة يتم أخذ رهن بقيمة الكتاب المعار من أجل الحفاظ على الكتب.
3-النسخ والتجليد
ارتبطت حركة النسخ والتجليد بحركة التأليف والترجمة ,ما إن ينتهي المترجم أو المؤلف من الكتاب يقدمه الناسخ ,وكان في البيت نساخ عرفوا بجودة الخط وكان المأمون يتابع بنفسه هذه الخطوط ويطالب بتعديل الأقلام المستعملة ,وبعد أن يكمل نسخه يذهب لتجليد والتزويق، وينسخ الكتاب بأكثر من نسخة من أجل توزيعها على المكتبات خارج بغداد كبيت الحكمة التونسي في رقادة ودار الحكمة في القاهرة .
4-الخرائط والمصورات
حفظت المكتبة عدداً من الخرائط الجغرافية والمصورات الفلكية التي ينتفع منها الجغرافيون منفعة كبيرة ,ومن هذه المصورات التي شاهدها المسعودي هي الصورة المأمونية؛ التي اجتمع على صنعها عدد كبير من حكماء عصر المأمون ,وصور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره ومساكن الأمم والمدن وأيضا الصورة التي رسمها أحد العلماء للخليفة هارون الرشيد للدنيا كلها ببحورها وجبالها وأوديتها وأقاليمها وسائر امكانها.
5-قسم الترجمة والتأليف:
اهتم الخلفاء العباسيون بنقل وترجمة تراث الأمم الماضية إلى اللغة العربية من اجل الوقوف عليه والاستفادة منه التي كانت تشكل حيزاً كبيراً من مهمات ونشاطات بيت الحكمة,وكان المترجمون على أصناف مختلفة فمنهم من نقل من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية مباشرة,ومنهم ينقل من لغة أجنبية إلى لغة أجنبية أخري ومنها ينقل إلي العربية عن طريق مترجمين ملمين باللغة العربية وكانت الترجمات تتم في الغالب من عدة لغات اليونانية الهندية والسريانية والفارسية وغيرها من اللغات الأخرى وكانت هذه الترحمات تراجع من قبل مترجمين ضليعين لغرض تصحيحها وتقويمها.
كان قسم الترجمة مقسما إلى عدة دوائر بحسب الموضوعان المراد ترجمتها ,وكل دائرة مسئول عنها عالم كبير مثل دائرة العلوم الرياضية والهندسية والحيل والموسيقى وكان المسئول عليها ابوجعفر محمد بن موسى بن شاكر وأخوته. ودائرة حركات النجوم والفلسفة ومن المسئولين عليها أبو يوسف يعقوب الكندي وعمر بن فرخان الطبري,ودائرة الطب التي كان المسئول حنين بن إسحاق الحراني.
ولم يكن بيت الحكمة مقتصرا على الترجمة فقط,بل ألف فيه العديد من العلماء والأدباء الكثير من كتب الأدب واللغة والتاريخ والفقه وعلم الكلام,وان بعض من هذه الكتب الفت بطلب من الخلفاء أنفسهم لكي توضع في بيت الحكمة.
دوره و تأثيره:
كانت منارة و اشعاعا ثقافيا واسعا ، وأحدثت نقلة نوعية في الترجمة تمهيدا للعصر الذهبي الإسلامي لذلك يعد فخرا للحضارة الإسلامية التي أنشأت أول جامعة فى التاريخ.
وبذلك كان بيت الحكمة خزانة كتب، ومركز للترجمة، والتأليف ومركز للأبحاث ورصد النجوم ومن أهم ما ميز بيت الحكمة هو تعدد المصادر وهي الكتب القديمة والتراجم والكتب التي ألفت للخلفاء والكتب التي نسخت مما جعلها مجمعاً علمياً كبيرا.
مصادر الكتب به:
وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى اللغة العربية.
وفي عهد هارون الرشيد أتت إليها دفعة كبيرة من الكتب بعد فتح هرقل وأقليم وبيزنطة وقد أوكل إلى يوحنا بن ماسويه مهمة ترجمة الكتب فلم تعد تقتصر على حفظ الكتب بل وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين.
وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبهُ كثيراً من مالهِ ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة، ويـختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وقد أستقدم المامون من قبرص خزانة كتب الروم.
نهاية البنيان:
وظل بيت الحكمة قائماً حتى أجتاح المغول بغداد سنة (656هـ/1258م)، حيث تم تدمير معظم محتوياته في ذلك الوقت.
إحياء المكان:
أعيد افتتاح مكتبة بيت الحكمة من جديد قبل أعوام قليلة من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م. وكانت على اسمها لكن لم يكن لها نفس الهدف .
مترجمون متميزون بها:
تم تكليف يوحنا بن ماسويه (ت857) أمر الكتب التي أمر الرشيد بنقلها من عمورية وأنقرة، ثم جعله أميناً على ترجمة الكتب. تولى شؤون المكتبة سهل بن هارون الدستميساني في خلافة المأمون، وعاونه يوحنا بن البطريق المترجم، ثم الفتح بن خاقان، وعمل بها بنشاط بنو موسى بن شاكر.
ذكر المؤرخون أسماء ثلاثة أدباء أشرفوا على إدارة بيت الحكمة في عصر المأمون، منهم سهل بن هارون (ت215هـ)، وكان كاتباً حكيماً وشاعراً فصيحاً، لكنه كان شعوبياً شديد التعصب للفرس، كما كان أخوه سعيد نظيره وشريكه في العمل. وهنالك سَلَم الفارسي، الذي كان أيضاً من أصحاب بيت الحكمة، وله مؤلفات ترجمها من الفارسية إلى العربية، وهي من كتب الخرافات والأسمار والأخبار.
ومحمد بن موسى الخوارزمي أشهر العلماء الذين انقطعوا إلى بيت الحكمة زمن المأمون، وهو من أصحاب علم الهيئة، الذين قاموا بالحسابات الفلكية، وألفوا كتباً في الزيج والعمل بالإسطرلاب.
مبان مشابهة..
فى عهد الفاطميين في مصر، تم تأسيس خزانة للكتب، وأطلقـوا عليها اسـم «دار الحكمة»، أنشأها الحاكـم بأمـر الله سنة (395هـ -1005م) بجوار القصر الغربي بالقاهرة. وملئوها بالكتب من خزائن القصور، وفرشها وزخرفها وتخير القائمين عليها متوخياً «خدمة الناس جميعاً في المطالعة والدرس والتأليف، حتى عدّها بعض المؤرخين مدرسة كاملة. وقد اجتمع فيها علماء اللغة والنحو والطب والتنجيم. وكان يذهب اليها محبّو المطالعة على اختلاف طبقاتهم. وصارت مجمعاً ومنبراً للبحث والمناظرة، إلى أن زُيّن للخلافة فيما بعد إبطال هذه المؤسسة اتقاءً للخصومات والفتن.
المغول قاموا بتدمير بيت الحكمة 1258م ، و الفلول قاموا بحرق المجمع العلمى بمصر 2012م... فما اشنع هذا العمل أو ذاك ، إلى متى تطغى السياسة و الحروب بظلالها الكئيبة على العلم؟ ، فلا يمكن تعويض ما تم جمعه و ترجمته و تأليفه و جهد سنين من عقول علماء و مترجمين...
لكن كل شيء هالك إلا وجهه و تلك طبيعة الحياة، و الأمل باق ما دامت الحياة أن نتذكر حضارتنا و نعتز بها و يأتى من الأجيال ما يستعيدون به مجد الآباء و يحققون ما طمحوا إليه।