الشمس و القمر
آيتان بينتان متعاقبتان يوميا لا يخفى على أحد ظهروهما و غيابهما ، كوضوح الشمس و
اتفاق الجميع على ظهورها و سطوعها وقت الضحى و لا ينكر أحد النهار الجلى الواضح، و
مضى بعض المفسرين إلى أن تتابع الأوقات و الأزمنة بين مشرق و مظلم فى هذا القسم
إشارة إلى تتابع الفترات و العصور المظلمة بالضلالة بين البشر و الأوقات المضيئة
بالهداية.
و السماء المرفوعة
بغير عمد كبناء ضخم مشيد، و الأرض المبسوطة الممهدة.إن خالق كل هذه الآيات خلق
النفس بأحوالها ، فهى تعلم طريق الفجور و طريق التقوى، قد أعطاها الله القدرة على
التمييز و الاختيار بالإلهام الفطرى من خالقها و هاديها.
و فى قوله "و
السماء ما بناها" و "و الارض و ما طحاها" تأتى "ما"
بمعنى "من" مثل الآية "و والد و ما ولد"
جاء الحديث
عن آيات الكون بشكل مختصر و متتابع ،لكن عند الحديث عن النفس البشرية جاءت الآيات
تفصيلية عن تلك النفس العجيبة و أحوالها بين الهدى و الضلالة و الطاعة و المعصية،
و عرض العاقبة فى الحالتين إما الفلاح و إما الخسران. فمن أراد زكى نفسه فعليه
أن يطهرها من الذنوب و يعليها عن الخطايا
و يصلحها بالعمل الطيب و إلا فليتبع نفسه هواها لتنطلق بلا روابط و لا مرشد لها
سوى الأهواء و الرغبات.
يقول الإمام ابن
القيم : أصل التدسية فى "من دسَاها" هو الإخفاء فالعاصى يدس نفسه
بالمعصية و يخفى مكانها و يتوارى من الخلق من سوء ما يفعل ،أما تزكية النفس إنما
تكون بالإيمان بآيات الله و التدبر فى النفس و فى الآفاق ،و بالتعقل تزكو النفوس و
تسمو و تعلو على مدارج الكمال حتى تكون مع الأبرار .و تدنيس النفس هو الانسلاخ من
آيات الله فيلغى سمعه و بصره و عقله و يحرمها من غذائها النافع فيرتد إلى أسفل
سافلين فيتبعه الشيطان و يجره إلى كل شر.فالطاعة و البر تكبر النفس و تعليها حتى
تصير أشرف شيء و أزكاه فلا تذل إلا إلى الله ،فما صغَر النفس مثل معصية الله ،و ما
كبرها و أعلاها مثل طاعة الله.
ثم سرد مثالا قوم
ثمود للأمم الخاسرة حيث كذبوا رسولهم ، و عقروا الناقة المباركة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة
عليهم ، و ظنوا أنهم منتصرين معجزين لكن النتيجة أن
دمدم الله عليهم الأرض فاستوت بهم و انطمست معالم قريتهم ، و فى ذلك تخويف شديد إذ
لم يتم ذكر مثالا من القرى المؤمنة (مثل قوم يونس) فى هذه السورة ليبقى تأثير
الترهيب من سوء العاقبة للنفوس الخبيثة الشاردة عن طاعة الله المعرضة عن الهداية و
السالكة طريق الشر.
و المراد الترهيب
من اتباع هوى النفس و سلوك طريق الفجور بدعوى أن الانسان مسير و القدر معلوم من
قبل الخلق، بل الانسان مسئول عن اختياره مهما قال من أعذار و جادل بغير دليل ظاهر،
"بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره" فالحساب لا يكون إلا على
إرادة كاملة للفعل و عزم النفس عليه.
و اختيار الكلمات
(طغواها – أشقاها – دمدم - سواها – عقروها
– يخاف) تدل على شدة غضب الله عليهم لطغيانهم و قسوة قلوبهم إذ تجرأوا على آيات الله و عصوا رسولهم و
استهانوا بتحذير الرسول لهم و توصيته بعدم المساس بتلك الناقة، اجتمعوا اجتماع شر
و اختاروا أشر الناس فيهم – رجلا بلا قلب و لا رحمة - و رشحوه لتنفيذ أسوأ مهمة ، المهمة التى كانت
سببا فى هلاكهم و تدميرهم.
ما أبئس قوم ثمود
استبدلوا نعمة الله بالكفر و الجحود ، ماذا فعلت لهم تلك الناقة التى كانت تسقيهم
لبنا يكفى القرية كلها ؟
اختلقوا عذرا
واهيا أن الناقة تنفرد بشرب فى اليوم التالى للسقيا ، و تشرب الكثير من الماء فقد
يتنهى الماء و يهلك أهل القرية عطشا بسبب ما تأخذه منهم تلك الناقة! لكن القرية
تهلك فعلا لكن بسبب قتلهم لها و عصيانهم الرسول...
و من جمال التعبير
العلاقة اللطيفة بين معنى كلمة "سواها" فى "و نفس و ما سواها"
و "فدمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها" فمعناها فى الاولى خلقها فى أحسن صورة بشكل مستو بارع و إعطاءها القدرة على السمع و الابصار و التمييز بين الحق و
الباطل، و معناها فى الثانية سواها أى
دمرها و سوى بها الأرض و فيها عقوبة شديدة للنفس التى لم تشكر و تقدر نعمة الخلق و
الرزق و كيف كرمها و هداها و ميزها بالعقل و الاختيار عن باقى المخلوقات ، و لما
ضلت الطريق عاقبها بالهلاك و التسوية بالأرض فى الدنيا و العذاب المهين المقيم فى
الآخرة.
إن الله الذى أحسن
الخلق و أبدع فى إنشاء الكون بنظام دقيق معجز
خلق الانسان و هيأ له الطريقين ليختار ما يحاسب عليه ، فليحذر و يخاف
العاقبة ، حتى ينال الفلاح بتزكية نفسه و اجتناب طريق الشرور و الفتن.