الخميس، 17 يناير 2013

المريض بالسعادة

عندما تصبح السعادة مرضا نفسيا يلجأ فيه الإنسان السعيد إلى الطبيب ،و يخشى على نفسه من أن يكون انضم لفئة اللاعقلاء ،يلوذ بأى ذكرى حزينة ليفيق من وهم السعادة و يكف عن التحليق فى سماء الفرح ليعود إلى سطح  الأرض المؤلم ،فى هذه اللحظة يفكر الإنسان فى أن السعادة المستمرة مرض يريد للشفاء منه و يسعى للتقليل من حدته.

تعرض الكاتب الكبير نجيب محفوظ لتلك المشاعر من خلال قصه "الرجل السعيد" فى مجموعته القصصية "خمارة القط الأسود".

بطل هذه القصة شخص يستيقظ من نومه صباحا ليجد نفسه فى حالة غريبة من السعادة ، تمتنع عنه جميع أسباب الشقاء و يمتنع عليه النوم ليتمتع بالسعادة لآخر مدى ،و تفشل جميع مسببات القلق و النكد و الضيق فى إخراجه من حالة السعادة اللانهائية ،و لا تفلح طريقة "استدعاء الذكريات المؤلمة" فى عودة النفس لطبيعتها المتقلبة بين الحزن و الفرح ،و التى تميل دائما لرثاء النفس و الاستسلام للأحزان.

هل هناك خلل فى الموصلات العصبية و العناصر الكيميائية فى الجسم؟ هل هو مرض؟ و هل هذا المرض معدٍ؟ هذه التساؤلات دارت فى عقل هذا الشخص السعيد بطل القصة ،فنقل تلك التساؤلات إلى الطبيب النفسى الذى ذهب إليه ليعالجه من أعراض السعادة الزائدة ،و لم يجزم الطبيب بوجود علاج فعال لهذه الحالة، فالحالات المماثلة ما تزال تحت الدراسة و الفحص الدورى.

إن العرض الأساسى الذى يصاحب تلك الحالة السعيدة هو الضحك و الرضا النفسى عن الحياة و عن الآخرين ، و تقبل النقد و رأى الآخرين ، و البعد عن العصبية و المشاحنات ،و استبدال مشاعر الغضب بالتسامح و التماس الأعذار...ليت كل الناس مرضى بالسعادة! ما أجمله لو انتشر و أصبح وباءا.

و بأسلوب نجيب محفوظ ذى الدقة الشديدة و الوصف المتقن يقول الكاتب واصفا ذلك الرجل السعيد حيث يذكر تعريف السعادة على لسان البطل:

"إنه يشعر بأعضائه كاملة البناء كاملة الوظيفة و تعمل بانسجام رائع مع بعضها البعض و مع الدنيا من حوله ،و يجد فى باطنه قوة لا تحد ،و طاقة لا تفنى و قدرة على تحقيق أى شيء بثقة و إتقان و فوز مبين ،و قلبه يفيض بالحب للناس و الحيوان و الأشياء ، و بإحساس غامر بالتفاؤل و البشر. وكأن لم يعد يحمل هما حيال الخوف و القلق و المرض و الموت و المنافسة و الرزق.
إنه إحساس متغلغل فى كل خلية من خلايا جسده و روحه ،يعزف لحن البهجة و الرضا و الطمأنينة و السلام ،و يناغم همسات الكون المضنون بها على غير السعداء".

إن هذا الشعور نادرا ما يقابلنا لكن قد يحدث مرات قليلة فى العمر عندما ينسى الإنسان ،فالنسيان وسيلتنا لدفع الأحقاد و ترك أسباب القلق و طمع الدنيا الذى يدفعنا لطلب المزيد ،أو الاستمرار فى دوامة لا نرضاها و تفوق احتمالنا من أجل الحفاظ على ما وصلنا إليه ،لكن إلغاء كل هذا التفكير و التركيز فقط فى ما نملكه و الاستمتاع بما بين أيدينا ،و تذكر نعم الله علينا يعطى الشعور بالرضا و السكينة ،ثم السكون للاستغراق قى تلك النعم و الزهد فى المزيد من الأشياء التى  لا تأتى إلا بالمضى فى طريق الشقاء من أجل البقاء.

إن حالة السعادة تلك تحمل فى طياتها معانى التوكل الصادق على الله ،فلا قلق طالما أخذنا بالأسباب ،فالثقة بالله تحمى الانسان و تصرف عنه جميع أنواع الشرور بفضله و رحمته. و على قدر إيمان العبد تأتى مشاعر الرضا و منابع الهدى و اليقين بقدرة الله و يغشى النفس نور الإيمان.

لكن الكثير من الشيء يؤدى للضد ،فالسعادة السرمدية كالنهار السرمدى لا يستطيع الانسان تحملها ،فتتوق نفسه إلى ليل يسكن فيه ،كذلك السعادة تحتاج قليلا من  هموم الدنيا تعيد توازن النفس ،فمن حكمة الله أنه هو أضحك و أبكى ،و جعل حياة الإنسان مزيجا بين السعادة و الشقاء و جعل الكدح ذلك سنة الحياة و الأحزان سببا فى تكفير الذنوب لمن تحمل الابتلاء و شكر.

و تنتهى قصة الرجل السعيد بمغادرته عيادة الطبيب العضوى و هو شاعر بالوحدة ،الوحدة بين يدى سعادته الطاغية ،و لما ضاقت به السبل طرق أبواب العلاج النفسى ،و هناك علم أن هناك حالات مماثلة له مازالت تحت العلاج و اتفق مع الطبيب على حضور جلسات اسبوعية للعلاج و التحليل و غادر الرجل عيادة الطبيب النفسى و هو يقهقه من شدة الضحك عندما نصحه الطبيب بألا يحزن أو يجزع بسبب معرفته بمرضه السعيد!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق