الاثنين، 16 سبتمبر 2013

عيون الجدة



الجمال ليس فى نعومة الوجه و نضارته ،و لا انطلاقة الشباب و انعكاساتها المضيئة ،بل قد يكون كامنا فى أعماق العيون فى نظرة السكون ,و إحساس الطمأنينة الذى يغمرك عندما تنظر إلى عينى الشخص و تستريح لملامحه  تأنس للقائه و الجلوس معه.

هكذا يكون إحساس الأحفاد و الأبناء و من يعيشون مع الجدود و كبار السن ،لاسيما الجدات اللاتى اعتدن على حكى القصص و إثراء الخيال و إمتاع الأطفال بتلك الرحلات اليومية العقلية التى تنطلق من فم الجدة و تنتشر فى كل اتجاه لتنتهى إلى أماكن و أزمنة مختلفة و شيقة ؛فتقدم للأطفال نوما هادئا و مشاعر سعادة و رضا عن العالم الواسع ،الذى بالرغم من غموضه لكنه غموض لا ينطوى على خوف من المجهول ،و لا يدفع للتراجع و الاختباء فى الجحور ،بل غموض يدفعك لاكتشاف أسراره و خوض أغواره لتصل إلى الهدف المنشود و تنعم بإحساس الانتصار و سعادة الوصول.
و لكن هذه الجدة أليس لها نصيب من ذكريات الحب التى يمتلكها الشباب و يتغنون بها و يرسمون أحلامهم فى مدارها ؟ أليس هناك زهور تداولتها الجدة فترة من الزمن ثم اختزنتها كجوهرة ثمينة رمزا للحب الأبدى و الإخلاص السرمدى ؟بلى لديها الكثير.. بل أن زهور الماضى تتجدد بدموع الاشتياق التى تنساب من عينيها كلما فتحت كتاب الذكريات ، لتتحول رائحة تلك الوردة الجافة إلى عطور فواحة تملأ أرجاء المكان و إن اختلف الزمان و غاب أبطال المشهد وراء التراب. إنه سحر دموع الجدة المباركة الذى يجعل الوردة كأن الحياة تعود إليها.

الجدة ببساطتها و نقاء سريرتها ما زالت نظرات عينيها الوادعة تستقر فى النفوس لتقول لهم أن الدنيا ما زالت بخير ،و أن المخاطر لن تأتى إليهم طالما نفوسهم نقية و نيتهم خالصة و عامرة بالحب ؛و تلك الحكمة التى أورثتها لهم و طبقتها عندما أوصت بدفن كتاب الأناشيد معها ،ربما يكون رمزا للحكم و النصائح أو الترانيم العذبة التى ترتاح لها النفس و إن لم تفهمها ،إن السعادة ليست مستحيلة مهما زاد الشر و الحقد و الأطماع ، و عيون الجدة باعثة للأمل دائما و أبدا ؛فالعيون لا تنسى...هكذا قال كاتب الأطفال أندرسون صاحب الحكايات الشهيرة التى أبدعها منذ قرون عديدة ،لكنا لم تفقد حيويتها و بهجتها ،و بالرغم من كونها حكايات للطفل و خيالية فى بعض الأحيان إلا أنها فلسفية و يتعلم منها الكبير و الصغير.

و هذا نص القصة كاملا:
الجدة عجوز فى وجهها الكثير من التجاعيد و شعرها أبيض تماما ، لكن عينيها تلمعان مثل نجمتين..يا لجمالهما ؛ إنهما حنونتان و النظر إليهما بركة، و علاوة على ذلك فهى تحكى لنا أحلى القصص ،تلبس الجدة ثوبا بزهرات كبيرة جدا ،إنه فستان قماش من الحرير السميك الذى يخشخش ،الجدة تعرف الكثير لأنها عاشت طويلا قبل الأب و الأم و هذه حقيقة لا شك فيها .
لدى الجدة كتاب أناشيد دينية بقفل من فضة تقرأ فيه بين الحين و الحين. و فى منتصفه كانت هناك وردة جورية جافة مضغوطة (الورد البلدى) ليست بجمال الورود الجورية التى تضعها فى المزهرية ،و مع هذا فهى تبتسم لتلك الوردة الجافة بكل لطف و حنان بل ينساب الدمع من عينيها.
لكن لماذا تنظر الجدة هكذا إلى الوردة الذابلة فى الكتاب القديم ؟ هل تعرف السبب ؟
فى كل مرة تسقط دمعة من عين الجدة على الوردة يعود اللون إليها تنتشى و تمتلئ الغرفة بعطرها..و الجدران تختفى مثل غيمة حولها كل اخضرار الغابة الجميلة حيث يخترق شعاع الشمس الأوراق ، أما الجدة فتعود صبية فتاة بخصلات شعر ذهبية و وجنتين مدورتين حمراوتين جميلة رقيقة.
أما العينان فهما الحنونتان المباركتان – و هما لا تزالان كذلك – يجلس بجانبها رجل يافع ضخم الجثة جميل الوجه يناولها الوردة الجورية فتبتسم له. و هى ابتسامة لا تشبه ابتسامة الجدات لكن بلى هى ما زالت تبتسم هكذا ،و ابتعد الشاب و مر العديد من الذكريات و الشاب جميل الطلعة ما يزال بعيدا أما الجدة فتجلس مرة ثانية هنا امرأة عجوز تنظر إلى الوردة الذابلة المستقرة بين طيات الكتاب.
و قد ماتت الجدة الآن.. كانت ذات يوم تجلس متكئة فى كرسيها تسرد القصص الجميلة الطويلة جدا حتى وصلت لآخر القصة و قالت "و عاشوا عيشة سعيدة " و انتهت القصة و أنا قد تعبت تماما الآن ، اتركونى لأنام قليلا. بقيت الجدة ساكنة فى مكانها أنفاسها هادئة و قد نامت – لكن الصمت عم المكان أكثر و أكثر ، ووجه الجدة يعلوه سلام و اطمئنان و كأن شعاع شمس مر عليه ، ثم قالوا أن الجدة ماتت.
و قد وضعت الجدة فى تابوت أسود ملفوف بقماش أبيض كانت جميلة جدا رغم أن عينيها مغمضتان لكن كل التجاعيد اختفت و ارتسمت ابتسامة على شفتيها ، كان شعرها أبيض فضيا يوحى بالوقار ،و رغم أنها كانت ميتة فالنظر إليها لم يكن مخيفا بتاتا. انها هى الجدة الحلوة الطيبة التى نعرفها ،و قد وضع كتاب الأناشيد تحت رأسها كما أمرت هى و الوردة بين طياته ،و قد تم دفن الجدة.
عند قبرها زرعوا شجرة ورد جورى كانت مليئة بالورود ،يغنى العندليب فوقها و يسطع القمر قليلا على القبر، و بإمكان أى طفل أن يذهب إلى المقبرة ليقطف وردة دون خوف ،فالميت يعرف أكثر مما يعرفه الأحياء الميت يعرف الخوف الذى نشعر به إزاء حدث غريب كأن يأتى الأموات إلينا ،الميتون أفضل منا جميعا و لن يأتوا.
هناك تراب حول التابوت و تراب فيه ، و سيصير كتاب الأناشيد بأوراقه ترابا و الوردة و كل الذكريات ستسقط فى التراب ، لكن فوق التراب ستزهر ورود جديدة و سيغنى العندليب ..سنتذكر الجدة العجوز و عينيها الحنونتين اللامعتين إلى الأبد . العيون لا تموت أبدا ، عيوننا ستراها ذات يوم شابة جميلة مثلما كانت عندما قبَلت الورة الحمراء اليانعة لأول مرة و التى صارت ترابا فى قبرها الآن.
كتبت فى 1863 - اندرسون

القصص التى ترويها الجدة طويلة مثل حياتها ، وأهم ما يميزها النهاية الجميلة لكنها قد أرهقتها السنون الطويلة  كما أرهقتها الحكايات الطويلة فاستسلمت للرقاد الأخير ،لقد طلبت من أحفادها أن يتركوها تنام قليلا لكنها كانت نومة طويلة و أبدية.. 

بعد موت الشخص تموت كل الأشياء العزيزة عليه حزنا و كمدا على فراقه ؛بالرغم من أنها جمادات إلا أنها تموت بموت قيمتها عند من يقيمها و يجعل لها وزنا كبيرا عنده ،من أجل هذا أوصت الجدة بدفن كتاب الأناشيد معها فلن يوجد أحد يفهمه و لا يقدره بعدها ،و هى الأولى بصحبته فى حياتها و مماتها ،و ربما لأنه أعز الأشياء لديها و بداخله أعز الذكريات الموصولة بالأحبة التى فارقتهم فى الدنيا و تأمل أن تلتقى بهم فى الآخرة ، و هذا سر السلام و الاطمئنان التى علت وجهها عند وفاتها رضا بوصولها إلى ما كانت تتمناه.
و يبدو أن الجدة كانت تعيش حالة من الصوفيه فريدة و لديها من الروحانيات ما يدفعها لأن تجعل قفلا من فضة حول كتاب الأناشيد هذا فهو أثمن ما تملك و كأنه حلقة الوصل بينها و بين النورانية و الشفافية التى تتمتع بها.

حتى مقبرتها لم تكن مقبرة بمعناها المخيف بل هى واحة بها ورود و مضيئة بنور القمر، فليس لها وحشة القبور و لا ظلامها ،و لهذا يأتى إليها الأطفال بلا خوف لقطف الزهور .
لقد فنت الجدة و تحولت و أشياؤها إلى تراب ، لكنها دورة الحياة ؛فنت لتعطى لنا خيرا جديدا و أجيالا يانعة ترث الحنان و المعانى الجميلة و تردد الأناشيد القديمة لكى تتذكر دائما تلك العيون الحنونة التى لا تنسى أبدا ستظهر فى عيون أبنائها و أحفادها و فى قلب الورود الحمراء التى حولها و من بين التراب.
إن الشخص طيب القلب يموت و هو أكثر جمالا من ذى قبل و قد زالت عنه هموم الدنيا و متاعبها ، لذلك تبدو السعادة على وجهه عند لقاء ربه..
"وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ " سورة فاطر(34، 35)

الأربعاء، 20 فبراير 2013

سورة الشمس و أحوال النفس

الشمس و القمر آيتان بينتان متعاقبتان يوميا لا يخفى على أحد ظهروهما و غيابهما ، كوضوح الشمس و اتفاق الجميع على ظهورها و سطوعها وقت الضحى و لا ينكر أحد النهار الجلى الواضح، و مضى بعض المفسرين إلى أن تتابع الأوقات و الأزمنة بين مشرق و مظلم فى هذا القسم إشارة إلى تتابع الفترات و العصور المظلمة بالضلالة بين البشر و الأوقات المضيئة بالهداية.

و السماء المرفوعة بغير عمد كبناء ضخم مشيد، و الأرض المبسوطة الممهدة.إن خالق كل هذه الآيات خلق النفس بأحوالها ، فهى تعلم طريق الفجور و طريق التقوى، قد أعطاها الله القدرة على التمييز و الاختيار بالإلهام الفطرى من خالقها و هاديها.
و فى قوله "و السماء ما بناها" و "و الارض و ما طحاها" تأتى "ما" بمعنى "من" مثل الآية "و والد و ما ولد" 

جاء الحديث عن آيات الكون بشكل مختصر و متتابع ،لكن عند الحديث عن النفس البشرية جاءت الآيات تفصيلية عن تلك النفس العجيبة و أحوالها بين الهدى و الضلالة و الطاعة و المعصية، و عرض العاقبة فى الحالتين إما الفلاح و إما الخسران. فمن أراد زكى نفسه فعليه أن  يطهرها من الذنوب و يعليها عن الخطايا و يصلحها بالعمل الطيب و إلا فليتبع نفسه هواها لتنطلق بلا روابط و لا مرشد لها سوى الأهواء و الرغبات.

يقول الإمام ابن القيم : أصل التدسية فى "من دسَاها" هو الإخفاء فالعاصى يدس نفسه بالمعصية و يخفى مكانها و يتوارى من الخلق من سوء ما يفعل ،أما تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بآيات الله و التدبر فى النفس و فى الآفاق ،و بالتعقل تزكو النفوس و تسمو و تعلو على مدارج الكمال حتى تكون مع الأبرار .و تدنيس النفس هو الانسلاخ من آيات الله فيلغى سمعه و بصره و عقله و يحرمها من غذائها النافع فيرتد إلى أسفل سافلين فيتبعه الشيطان و يجره إلى كل شر.فالطاعة و البر تكبر النفس و تعليها حتى تصير أشرف شيء و أزكاه فلا تذل إلا إلى الله ،فما صغَر النفس مثل معصية الله ،و ما كبرها و أعلاها مثل طاعة الله.

ثم سرد مثالا قوم ثمود للأمم الخاسرة حيث كذبوا رسولهم ، و عقروا الناقة المباركة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم ، و ظنوا أنهم منتصرين معجزين لكن النتيجة أن دمدم الله عليهم الأرض فاستوت بهم و انطمست معالم قريتهم ، و فى ذلك تخويف شديد إذ لم يتم ذكر مثالا من القرى المؤمنة (مثل قوم يونس) فى هذه السورة ليبقى تأثير الترهيب من سوء العاقبة للنفوس الخبيثة الشاردة عن طاعة الله المعرضة عن الهداية و السالكة طريق الشر.

و المراد الترهيب من اتباع هوى النفس و سلوك طريق الفجور بدعوى أن الانسان مسير و القدر معلوم من قبل الخلق، بل الانسان مسئول عن اختياره مهما قال من أعذار و جادل بغير دليل ظاهر، "بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره" فالحساب لا يكون إلا على إرادة كاملة للفعل و عزم النفس عليه.

و اختيار الكلمات (طغواها – أشقاها – دمدم  - سواها – عقروها – يخاف) تدل على شدة غضب الله عليهم لطغيانهم و قسوة قلوبهم  إذ تجرأوا على آيات الله و عصوا رسولهم و استهانوا بتحذير الرسول لهم و توصيته بعدم المساس بتلك الناقة، اجتمعوا اجتماع شر و اختاروا أشر الناس فيهم – رجلا بلا قلب و لا رحمة -  و رشحوه لتنفيذ أسوأ مهمة ، المهمة التى كانت سببا فى هلاكهم و تدميرهم.

ما أبئس قوم ثمود استبدلوا نعمة الله بالكفر و الجحود ، ماذا فعلت لهم تلك الناقة التى كانت تسقيهم لبنا يكفى القرية كلها ؟
اختلقوا عذرا واهيا أن الناقة تنفرد بشرب فى اليوم التالى للسقيا ، و تشرب الكثير من الماء فقد يتنهى الماء و يهلك أهل القرية عطشا بسبب ما تأخذه منهم تلك الناقة! لكن القرية تهلك فعلا لكن بسبب قتلهم لها و عصيانهم الرسول...

و من جمال التعبير العلاقة اللطيفة بين معنى كلمة "سواها" فى "و نفس و ما سواها" و "فدمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها" فمعناها فى الاولى خلقها فى أحسن صورة بشكل مستو بارع و إعطاءها القدرة على السمع و الابصار و التمييز بين الحق و الباطل، و معناها  فى الثانية سواها أى دمرها و سوى بها الأرض و فيها عقوبة شديدة للنفس التى لم تشكر و تقدر نعمة الخلق و الرزق و كيف كرمها و هداها و ميزها بالعقل و الاختيار عن باقى المخلوقات ، و لما ضلت الطريق عاقبها بالهلاك و التسوية بالأرض فى الدنيا و العذاب المهين المقيم فى الآخرة.

إن الله الذى أحسن الخلق و أبدع فى إنشاء الكون بنظام دقيق معجز  خلق الانسان و هيأ له الطريقين ليختار ما يحاسب عليه ، فليحذر و يخاف العاقبة ، حتى ينال الفلاح بتزكية نفسه و اجتناب طريق الشرور و الفتن.
 

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

بر الوالدين المؤجل



"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " الإسراء (23)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

إن الوالدين هبة من الله و نعمة لا يقدرها إلا من يفقدهم ،من أجل هذا كتب الله على الانسان بعد تحريم الشرك عليه أن يقدم لوالديه الإحسان و البر، خاصة عند كبر سنهما و ضعفهما ، و أمره بعدم التضجر منهم أو من خدمتهم ، بل الصبر عليهم و التواضع لهما قولا و فعلا فالفضل السالف لا ينسى ..
لكن الشيطان كعادته يثبط الهمم و يؤجل الخير إلى حيث ينتهى الأجل أو يوشك أن ينتهى ،فلا يزال الإنسان طفلا مدللا ينهل من عطاء والديه ،و يحكى لهما همومه و ما يثقل كاهله ابتغاء النصح و تخفيف الهموم ،حتى بعد أن يبلغ مبلغ الرجال و يدخل مرحل الكهولة لا فرق فى علاقة الأبوة و الأمومة بين طفل يحبو و رجل فى الدنيا يعلو ،الكل طفل حين يلقى والديه ،ينفض همومه على أعتاب دعواتهم الصادقة و هو يثق أن النجاة من أى مشكلة ستكون على أيديهم ،و أن اليسر منبعه من خبرتهم و تصرفهم ،و أن تصحيح مساره إن اعوَج سيكون بتوجيهاتهم.
إنها الطمأنينة و الأمان مستقر فى نفس الإنسان طالما أن والديه يظللان بحنانهما عليه ،و يسبغان عليه من خير الدعاء و العمل ما يقيه شر متاهات الزمن و قسوة الحياة...لكن الحال لا يستمر و تتقلب الأيام بين فرح و حزن،فيمرض أحد الأبوين أو يعجز عن قضاء مصالحه و رعاية نفسه ،فتكون الفرصة سانحة و ذهبية ليقدم لهما العون و الرعاية التى يستحقانهما ، باذلا كل ما يملكه من أجل أن يسعدهما و يحظى برضاهما..
لكن الأجل قد يعجل بالأب أو الأم فيلقى الله قبل أن يدرك الابن فيسرع لهما و يقدم لهما ما يريد من الحب و الرعاية و الاعتراف بالجميل ،فقد يكون الابن فى سفر ابتغاء طلب الرزق ،و قد يكون غير مدرك لخطورة المرض و صعوبته لاستحياء الاب أو الام أن يجهر بالألم أو طلب المعونة ،فتكون النتيجة أن يدرك الابن متأخرا أنه كان عليه كذا و كذا من أسباب البر ،و أنه كان عليه التعجل و تفريغ النفس من أى اهتمام سوى رعاية والديه فى أواخر أيامهما ،و الأهم من ذلك الاعتراف أمامهم بحبه الشديد لهما و تقديره لفضلهما عليه طوال عمره. إن تأخير المصارحة بالحب مؤلمة عندما يصبح الحبيب فى العالم الآخر و تنقطع سبل التواصل ، و لات حين مندم عندما يبكى الابن على يد أمه أو أبيه المتوفى طالبا الصفح و مجاهرا بالحب و العرفان..
لكن الله رءوف بعباده رحيم بهم ،يقدم لهم دائما وسائل العودة و ييسر لهم الأوبة ، فتجئ تلك الآية الكريمة بردا و سلاما على القلوب الذائبة حزنا و ندما:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
فالله يعلم بما فى قلوبنا تجاههم و عجزنا عن أن نقدم لهم ما نريد بعد أن يرحلوا ،لذلك فتح باب الغفران ،و ترك للميت ثلاثة أبواب لعمل الخير ،و من ضمنها دعاء الولد الصالح و هذا ما يستطيع الابن تقديمه و الانتظام فيه، بالإضافة إلى الاكثار من الصدقة و وصل من كانوا يحبون و استمرار أعمال البر التى كانوا يقومون بها. فربما يرضى هذا نفس الابن الحى و روح الوالد الميت و يعم على الجميع سكينة من الله و كرم منه الوهاب فيجعل لهم حسن مآب.
و الخير موصول بين دعاء الولد لوالديه و بين المكانة العالية التى قد يصلون إليها، فالله قد يدخل الانسان مكانة أعلى حتى يجتمع بأبويه فى الجنة و يهنئوا باللقاء الأٌسري..
"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ " الطور(21)
القرآن شفاء كل داء ، و شفاء لما فى الصدور  من حزن و هم و ندم و ضيق ،و تأتى الآيات متكاملة لتعالج خفايا النفوس و ما تخفى الصدور  ما دق عن الوصف ، فالله أقرب للإنسان من حبل الوريد ،و هو الخبير الذى وسع علمه كل شيء و تسبق ذلك رحمته و حكمته التى تعجز دوما العقول عن فهمها لكنها تصدقها و تسلم بها.
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين"

الاثنين، 4 فبراير 2013

سورة الفجر


تبدأ سورة الفجر بقسم الله بالفجر ؛و هو من آيات الله الدالة على كمال قدرته و أن بيده الأمر كله بحكمته و عظمته ،و صلاة الفجر صلاة معظمة فاضلة تشهدها ملائكة الليل و النهار..

"أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" الإسراء (78)

و فى الحديث الشريف " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر "

الفجر.. يسبقه ليل القانتين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا ،قائمى الليل الفائزين بإجابة الله لهم وقت تنزله سبحانه فى الثلث الأخير من الليل و ينادى من يدعونى فاستجيب له ،من يستغفرنى فاغفر له ،ثم يصمت الكون و يعم خفوت الكائنات و سكوتهم فى لحظات ما قبل الفجر ليأتى آذان الفجر و قرآن الفجر مضيئا لظلمة الكون و مودعا لغياهب الليل.

و مثلما يحيط الغموض تلك الفترة الزمنية فيختفى مصدر الضوء وراء سحب الليل ،تأتى ليال عظيمة متخفية بين عدة ايام لا يعلمها إلا الله ،حتى لا تقتصر عبادة البشر على تلك الليله إن كانت معلومة بل جعلها واقعة فى مدى حتى يعم الخير و يجزل الثواب فذاك من كرم الله و حكمته.

و الليال العشر  التى أقسم الله بها إما أن تكون العشر الأخيرة من رمضان تتخفى فيها ليلة القدر المباركة أخفاها الله ليجتهد العابدون الطالبون مرضاته كل هذه الأيام ،أو تكون الأيام العشر الأولى من ذى الحجة أيام التهليل و التسبيح و التكبير و التى بها يوم عرفة يوم المغفرة حيث يندثر الشيطان و يحزن لما يرى من تنزل الرحمات على عباد الله و حجاجه ،و بها تتم مناسك الحج و العمرة و هذه أشياء معظمة مستحقة لأن يقسم الله بها.

و الليال العشر سواء كانت ليالى رمضان أو ليالى ذى الحجة كلا الحالتين نزلت فيهما سورة منفصلة بفضل الليلة التى تحتويها أو المناسك التى تشملها ، و هما سورة القدر و سورة الحج.

و الشفع و الوتر هما صلاتان نافلتان ،و الليل إذا يسر هو الليل عندما يرخى ظلامه على الدنيا و تنتهى الأعمال الدنيوية و الانشطة ليبدأ الناس مرحلة النوم أو قيام الليل.

 أقسم الله بالفجر و هو وقت و صلاة مفروضة يغفل الناس عن أدائها فى وقتها ، و بالليال العشر و هى  زمن و بها الصيام و مناسك الحج ، و بالشفع و الوتر و هما صلاة نافلة بالليل بعد العشاء ، كما أن الوتر دلاله على وحدانية الله ،و يأتى الليل بسريانه الخفى ليختم المقسوم بهم.

  يصف سيد قطب سورة الفجر فى ظلاله قائلاً:

(إنها ليست ألفاظا وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر ! أم إنه النداء الأليف للقلب ؟ والهمس اللطيف للروح ؟ واللمس الموحي للضمير ؟ إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة)

و فى السؤال التقريرى "هل فى ذلك قسم لذى حجر" تحفيز للسامعين لكى يعملوا عقولهم لإدراك قيمة المقسوم به و معرفة ما يعظمه الله ،و اقتناص الأوقات الثمينة من اليوم أو العام لاختصاصها بالمزيد من العبادة و القرب من الله ،فربما يفوز  الانسان فيها بنفحة من نفحات الله التى لا يشقى بعدها أبدا. إن أصحاب العقول و الفطرة السليمة يعلمون أن هذه الأيام و الأوقات المباركة تكرارية تتجدد دوما ،لكن هل يستمر عمر الإنسان ليلحق بها مجددا ؟ هذا ليس مضمونا فليسرع الإنسان قبل أن ينتهى العمر و تسقط الفرصة فى التوبة و المغفرة.

و مهما علا شأن الإنسان فإنه لا شيء أمام عذاب الله الراصد و الذى يجازيهم بطغيانهم و فسادهم ،مثل عاد و ثمود و فرعون

"ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذى الأوتاد"

فلننظر إلى تلك الأمم الغابرة...

عاد: لم يخلق الله مثلها فى البلاد و أعطاها قوة فى الخلق و البنيان

ثمود: نحتوا الصخور ليجعلوها منازل لهم تحميهم و لا تنهدم

فرعون:اتخذ من جنوده سندا و ثباتا و معينا على الباطل فهم كالأوتاد

و قد بلغوا من الكبر و الظلم ما أوجب هلاكهم ، فصب عليهم ربهم العذاب صبا كالسوط شديد الإيلام. فالله يمهل العاصى قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

لكن هل ابتلاء الإنسان بالمصائب دائما عقوبة له تسلمه لليأس و الحزن و الإحساس بالخزى؟ الإجابة توضحها الآيات التالية:

"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربى أكرمن * و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن"

يخبر الله عن طبيعة الإنسان بأنه جاهل ظالم لا علم له بالعواقب ،يظن أن الحالة تستمر لا تزول و ان النعيم مقيم لا يتبدل ،لكن الأيام دول يداولها الله بين الناس ،لكن الإنسان يرى أن إكرام الله فى الدنيا و إنعامه عليه يدل على كرامته عنده و قربه منه ، أما إذا ضيق عليه رزقه (و الرزق يشمل كل النعم)،  فيظن أن هذا إهانة من الله و غضب عليه و ربما أسلمه ذلك للسخط على قدر الله و استقلال نعمته و تحقير ما فى يده.

و يرد الله على تلك الظنون بقوله "كلا" ليس كل منعم فى الدنيا كريما عند الله ،و ليس كل فقير مقدر عليه رزقه مهانا عنده ،كما فى الحديث الشريف "رب أشعث أغبر لو اقسم على الله لأبره" 

 إنما الضيق و السعة ابتلاء من الله ليرى من يقوم بالشكر و الصبر، إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي، أما من يسخط و ينقلب على وجهه فقد خسر الدنيا و الآخرة، و لن ينال سوى الضيق و العذاب، و لن يغير من قدره شيئا.

"أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" العنكبوت (3)

كذلك من أسباب ضيق الرزق و قلته بخل الإنسان على الفقير و عدم اعطائه حقه المفروض ،فتزول النعم و يذوق الحرمان بعد العطاء.

و من جمال اختيار الكلمات فى القرآن "لا تكرمون اليتيم" فاليتيم انسان حساس ضعيف مهيض الجناح  فاقد للحنان مجروح يحتاج للإكرام النفسى و الكلمة الطيبة قبل العطاء المادى حتى لا يكون مكسور النفس حزين القلب.

و الخطأ الآخر الذى يقترفه بعض الناس  و يستوجب اقتار الرزق هو عدم الحث على إطعام المساكين و اغفال حقهم فى الحياة الكريمة، و كذلك أكل حق اليتيم و المرأة فى الميراث ،

 لاحظ العلاقة بين اكل التراث باليتيم فربما دفع الطمع ذوى النفوس الضعيفة إلى الاستيلاء على مال اليتيم فى الميراث اعتمادا على أنه طفل لن يجد من يرعى حقه أو يدافع عنه ،و منبع هذه الشرور حب المال حبا كثيرا ، وعبد الدينار و الدرهم إنسان تعس ضعيف الإيمان لا يثق فيما عند الله من الرزق و لا يوجه ماله إلى حيث أمره ربه، و لا ينفق من المال الذى جعله الله قيما عليه و حارسا.

كل تلك الأفعال القبيحة سوف يتذكرها الإنسان يوم الحساب حيث لا تنفع الذكرى، و "يا ليت" لا تعيد الزمن و لا تمنح الفرصة مرة أخرى..

و دك الأرض يرتبط بمن اتخذوا من الجبال بيوتا كما سبق ذكره فى قوم عاد الذين عاقبهم الله بصب العذاب عليهم و انهيار حصونهم من دون الله و عدم سكنى مساكنهم بعد ذلك.

إن السامع يكاد يسمع صوت دك الأرض فى "دكا دكا" و وقع اقدام الملائكة فى الصفوف "صفا صفا" فى موقف رهيب ينتهى بإحضار جهنم و لحظات الحساب. ،إن يوم القيامة يوم مهول شديد تدك فيه الأرض و تسير الجبال و يخرج الناس من القبور و يأتى الله و الملائكة الكرام ،كل شيء منظم و خاضع للملك الجبار فى مشهد مهيب مشهود ، فيقضى الله بينهم بالحق.

عندما يؤتى بجنهم يرونها عين اليقين فلا يملكون إنكارها أو الفرار منها ،و تأتى لحظة الحساب و السؤال و المجازاة بالأعمال بالحق و العدل ،و لن يكون من العذاب مفر و لا ينفع الهروب لأن الظالم مربوط موثوق لا يماثله أحد فى أسره و لا يشابهه أحد فى عذابه ،هذا هو الهوان الحق و هذا هو العقاب الأشد الذى لا تنجو منه سوى النفوس المطمئنة التى عادت إلى ربها يحيطها الرضا و السكون فى وصف بالغ الرقة و الشفافية ، و قد أمرها الله بالدخول فى زمرة عباده المخلصين و الدخول للجنة و هذا هو قمة السعادة و الفلاح.

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الفجر"

و خطاب الله للنفس المطمئنة يخاطب بها الروح يوم القيامة و يخاطبها به وقت الموت بنداء القريب "يأيتها" فى عطف و تكريم ،فى وسط الشد و الوثاق ،تترك الروح الأرض و التعب لترجع إلى ربها الذى تحبه و ترجو لقائه لتدخل فى رحمته و أمانه و كنفه فهى مطمئنة لا ترتاع يوم الهول و الفزع "وهم من فزع يومئذ آمنون"  تعرف طريقها إلى الله كما عرفته فى الدنيا. إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية تتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية. و الحمد لله فى الأولى و الآخرة.

الأربعاء، 30 يناير 2013

"ألهاكم التكاثر"


سورة قصيرة لكنها تلخص طمع الانسان و غايته و مصيره ، تلخص حياته المبنية على التكاثر فى كل شيء، فكل يوم يكتسب الجديد و يمتلك  و يزيد، مع تزايد عمره يزيد اهله و ماله و ممتلكاته ، و لا يكفيه شيء بل يسعى ليستكثر كأن الحياة سوف يعمر فيها و يخلد،
 
و كما كان يسعى للمزيد من النعم فى الدنيا تتحدث جهنم فى الآخرة و تقول هل من مزيد من ضحايا طمع أنفسهم و من خسروا آخرتهم و باعوا حياتهم الآخرة:
"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"  سورة ق(30)

كيف يتلهى الإنسان بالنعمة عن المنعم، و بالاستزادة عن اداء شكر الوهاب، ذلك من سوء التقدير و الاستجابة لنوازع النفس المهلكة، فلا يصح أن ينسى الإنسان الغرض من رحلة الحياة و إن بدا له الطريق طويلا و مازال فى العمر الكثير، فيندفع للتناحر و التنافس وراء ما سوف يصعب حسابه ، و ربما كانت تلك الزيادة التى يسعى إليها ابتلاء له فى حسابه على النعم.

"ألهاكم التكاثر" لم يذكر الله المتكاثر به ليشمل كل ما يكثره الناس و يسعون لزيادته سواء الأموال أو الأولاد أو الأطعمة و كل ما ذكر الله أن الصبر على نقصه له ثواب عظيم و رحمة و صلوات من الله

"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " البقرة (155)

و التكاثر من كل ما يدعو إلى التفاخر و المباهاة ،و يستمر ذلك حتى لحظة زيارة المقابر،و التى قد تكون لتوصيل الميت و دفنه ،أو تكون زيارة ،أو مستقرا للإنسان حين وفاته حتى قيام الساعة فهى بمثابة زيارة مؤقتة.

لكن الحقيقة سوف يعلمها هؤلاء اللاهون وقتما يتعذر العودة و الاسترجاع ،و لو علموا ما ينتظرهم و كيف يكون الحساب و شدته و دقته ،لما تناحروا و تدافعوا على التكاثر،و لما غفلوا عن خالقهم و رازقهم و واهبهم ما يتكاثرون به.

و يصف الله ذلك العلم بأنه علم اليقين، فالحقيقة أن الجحيم ينتظرهم ،تأتى عين اليقين لتؤكد كونها رؤية بصرية و إثبات حسى لما تحد عنه الرسول بالغيب و لم يصدقه الكفار،فيرون بأعينهم ما أنكروه باللسان فانصرفت عقولهم عن العمل و السعى  و العبادة.

و عندئذ يكون الحساب و السؤال، و المساءلة ليست على الأفعال فقط التى قام بها الإنسان، بل على النعيم الذى تمتع به و تنعم، فكل نعمه عليها واجب شكر و حمد ، و استغلال فى الخير و عدم استعمالها فى الشر و المعاصى، إعطاء الفقير حقه و المسكين ، فلو أدوا حق النعمة فى الدنيا من الشكر و العطاء فسوف يزيدهم الله بنعيم الآخرة الذى لا يزول و لا يحول، و إن اغتروا بالنعمة و تغافلوا عنها ، و اعتبروها حقا لهم يأتيهم بدون جهد نصيبا مفروضا لهم و لم يشكروا لله فيكون العقاب الأليم مصيرهم.

و من جمال التعبير فى هذه السورة التقابل (ذكر الشيء و عكسه) لتوضيح المعنى ،ما بين التكاثر و المقابر، فالتكاثر رمز للدنيا و زيادة الأشياء و الانطلاق و السعى ،و المقابر رمز للانتهاء و وقف العمل و الظلمة و انقطاع العمل.

و تكرار "تعلمون" ثلاث مرات فى السورة (سوف تعلمون – سوف تعلمون – لو تعلمون) يدل على سوء تقديرهم و جهلهم و فقدانهم الحقيقة.

كذلك تكرار اليقين ،مرة مضاف إليها العلم و مرة مضاف إليها العين لتأكيد انها حقيقة عقلية و حسية بصرية لا مراء فيها و لا جدل.

و ختام السورة هو السؤال عن النعيم ،حيث يتكامل الختام مع بدايتها من حيث تنفير الانسان من التكاثر و الزيادة فهو مسئول عن النعم  التى ينعم بها الله عليه ،و يأتى الحديث الشريف تفسيرا لها و تثبيتا لمعناها

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:

(لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ ، عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ بِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)

فالإنسان مسئول عن عمره و جميع لحظات حياته ؛و فى هذا تحذير لمن يهدر أيامه فى الخصام و الشقاق و لهو الحديث و المجون ،و مسئول عن جسده و صحته هل أعمله فى مرضاة الله و السعى إلى الرزق أم استكان و أراح نفسه و أهدر طاقته ،حتى أصحاب العلم ذوى المكانة العالية عند الله مسئولون عن عملهم و تطبيقهم لهذا العلم ،أما الأموال فعليها سؤالان: المصدر و الإنفاق ، فما أشده من حساب و ما أصعبه من سؤال.

الخميس، 17 يناير 2013

المريض بالسعادة

عندما تصبح السعادة مرضا نفسيا يلجأ فيه الإنسان السعيد إلى الطبيب ،و يخشى على نفسه من أن يكون انضم لفئة اللاعقلاء ،يلوذ بأى ذكرى حزينة ليفيق من وهم السعادة و يكف عن التحليق فى سماء الفرح ليعود إلى سطح  الأرض المؤلم ،فى هذه اللحظة يفكر الإنسان فى أن السعادة المستمرة مرض يريد للشفاء منه و يسعى للتقليل من حدته.

تعرض الكاتب الكبير نجيب محفوظ لتلك المشاعر من خلال قصه "الرجل السعيد" فى مجموعته القصصية "خمارة القط الأسود".

بطل هذه القصة شخص يستيقظ من نومه صباحا ليجد نفسه فى حالة غريبة من السعادة ، تمتنع عنه جميع أسباب الشقاء و يمتنع عليه النوم ليتمتع بالسعادة لآخر مدى ،و تفشل جميع مسببات القلق و النكد و الضيق فى إخراجه من حالة السعادة اللانهائية ،و لا تفلح طريقة "استدعاء الذكريات المؤلمة" فى عودة النفس لطبيعتها المتقلبة بين الحزن و الفرح ،و التى تميل دائما لرثاء النفس و الاستسلام للأحزان.

هل هناك خلل فى الموصلات العصبية و العناصر الكيميائية فى الجسم؟ هل هو مرض؟ و هل هذا المرض معدٍ؟ هذه التساؤلات دارت فى عقل هذا الشخص السعيد بطل القصة ،فنقل تلك التساؤلات إلى الطبيب النفسى الذى ذهب إليه ليعالجه من أعراض السعادة الزائدة ،و لم يجزم الطبيب بوجود علاج فعال لهذه الحالة، فالحالات المماثلة ما تزال تحت الدراسة و الفحص الدورى.

إن العرض الأساسى الذى يصاحب تلك الحالة السعيدة هو الضحك و الرضا النفسى عن الحياة و عن الآخرين ، و تقبل النقد و رأى الآخرين ، و البعد عن العصبية و المشاحنات ،و استبدال مشاعر الغضب بالتسامح و التماس الأعذار...ليت كل الناس مرضى بالسعادة! ما أجمله لو انتشر و أصبح وباءا.

و بأسلوب نجيب محفوظ ذى الدقة الشديدة و الوصف المتقن يقول الكاتب واصفا ذلك الرجل السعيد حيث يذكر تعريف السعادة على لسان البطل:

"إنه يشعر بأعضائه كاملة البناء كاملة الوظيفة و تعمل بانسجام رائع مع بعضها البعض و مع الدنيا من حوله ،و يجد فى باطنه قوة لا تحد ،و طاقة لا تفنى و قدرة على تحقيق أى شيء بثقة و إتقان و فوز مبين ،و قلبه يفيض بالحب للناس و الحيوان و الأشياء ، و بإحساس غامر بالتفاؤل و البشر. وكأن لم يعد يحمل هما حيال الخوف و القلق و المرض و الموت و المنافسة و الرزق.
إنه إحساس متغلغل فى كل خلية من خلايا جسده و روحه ،يعزف لحن البهجة و الرضا و الطمأنينة و السلام ،و يناغم همسات الكون المضنون بها على غير السعداء".

إن هذا الشعور نادرا ما يقابلنا لكن قد يحدث مرات قليلة فى العمر عندما ينسى الإنسان ،فالنسيان وسيلتنا لدفع الأحقاد و ترك أسباب القلق و طمع الدنيا الذى يدفعنا لطلب المزيد ،أو الاستمرار فى دوامة لا نرضاها و تفوق احتمالنا من أجل الحفاظ على ما وصلنا إليه ،لكن إلغاء كل هذا التفكير و التركيز فقط فى ما نملكه و الاستمتاع بما بين أيدينا ،و تذكر نعم الله علينا يعطى الشعور بالرضا و السكينة ،ثم السكون للاستغراق قى تلك النعم و الزهد فى المزيد من الأشياء التى  لا تأتى إلا بالمضى فى طريق الشقاء من أجل البقاء.

إن حالة السعادة تلك تحمل فى طياتها معانى التوكل الصادق على الله ،فلا قلق طالما أخذنا بالأسباب ،فالثقة بالله تحمى الانسان و تصرف عنه جميع أنواع الشرور بفضله و رحمته. و على قدر إيمان العبد تأتى مشاعر الرضا و منابع الهدى و اليقين بقدرة الله و يغشى النفس نور الإيمان.

لكن الكثير من الشيء يؤدى للضد ،فالسعادة السرمدية كالنهار السرمدى لا يستطيع الانسان تحملها ،فتتوق نفسه إلى ليل يسكن فيه ،كذلك السعادة تحتاج قليلا من  هموم الدنيا تعيد توازن النفس ،فمن حكمة الله أنه هو أضحك و أبكى ،و جعل حياة الإنسان مزيجا بين السعادة و الشقاء و جعل الكدح ذلك سنة الحياة و الأحزان سببا فى تكفير الذنوب لمن تحمل الابتلاء و شكر.

و تنتهى قصة الرجل السعيد بمغادرته عيادة الطبيب العضوى و هو شاعر بالوحدة ،الوحدة بين يدى سعادته الطاغية ،و لما ضاقت به السبل طرق أبواب العلاج النفسى ،و هناك علم أن هناك حالات مماثلة له مازالت تحت العلاج و اتفق مع الطبيب على حضور جلسات اسبوعية للعلاج و التحليل و غادر الرجل عيادة الطبيب النفسى و هو يقهقه من شدة الضحك عندما نصحه الطبيب بألا يحزن أو يجزع بسبب معرفته بمرضه السعيد!

الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

المدى الديناميكى العالى و فن الظهور


الألوان لا حصر لها ،فكل لون بخلاف الالوان الاساسية يتكون من مزيج من ألوان أخرى بنسب مختلفة ،و نتيجة هذا الخلط العشوائى ينتج عدد لا نهائى من الألوان الممكنة!
و مهارة وسائل التصوير و تخزين الصورة فى اختزان اكبر قدر من الالوان المختلفة ،و تعتمد جودة و سطوع الصورة على مدى ما تحمله من تباين فى الألوان.
و لأن مناطق التصوير تشمل المناطق ذات الظلال (أو الإظلامdark tone- ) و الإضاءة المتوسطة (half tone ) و الإضاءة العالية فإن بعض أجزاء الصورة سوف تفقد وضوحها بسبب الإضاءة القليلة المعرضة لها.
لهذا ابتكر المصورون طريقة جديدة فى التصوير تكون من نتائجها إظهار كل المناطق متباينة الإضاءة بنفس درجة الوضوح بحيث تبدو الصورة النهائية واضحة فى جميع أجزائها (و قد تبدو كما لو كانت معدنية) مما يعطيها شكلا جديدا متميزا و يعطى للألوان قوة و ثباتا ،و تعطى للأشياء ملمسا كما لو كانت بارزة.
تعتمد تلك التقنية - و التى يسمونها (المدى الديناميكى العالى) HDR- ببساطة على التقاط عدة صور لنفس المشهد بدون أى تغيير سوى فى كمية الضوء الذى تتعرض له الكاميرا (قيمة التعريض) ،و يجب على الأقل التقاط ثلاث صور أحدهما بالتعريض الصحيح ،و واحدة بتعريض أعلى درجة من التعريض الصحيح (Over Exposed) و الثالثة بدرجة أقل من التعريض الصحيح (Under Exposed) ،ثم تم دمج تلك الصور معا فتحصل على صورة جديدة براقة مدهشة واضحة المعالم فيها تجديد كثير عن الصورة الأصلية مع جمال ألوانها و بروز تفاصيلها.
يتم الدمج عن طريق برامج تحرير مساعدة خارجية أو فى الكاميرا نفسها ،و قد تقدم الكاميرا إمكانية التقاط المشاهد ذات التعريضات المختلفة بسرعة اتوماتيكيا. و إذا لم تتوفر فيها تلك الخاصية (Braketing of ABE) فيجب استعمال حامل لضمان عدم اهتزاز الصور و محاذاتها عند دمجها.
أرى الطريق صباحا و أنا فى طريق عملى ،الشارع يتخلله ضوء الصبح الهادئ الجميل ،و أراه عند عودتى ظهرا يئن من شدة الإضاءة و الحر الثقيل ،و أراه وقت الأصيل و أحيانا فى ظلام الليل. و بالرغم من كونه شارعا واحدا إلا أننى أشعر فى نهاية اليوم أنى تجولت فى الكثير من الشوارع و الميادين ،الاختلاف كان فى الإضاءة و ان كان المكان واحدا بلا تغيير.
و قد يكون الغرض من تلك التقنية التجديد فى رؤية الصورة ،و اعمال مبدأ المساواة فى الظهور ،عن طريق إعطاء كل عنصر الفرصة فى الظهور بوضوح حتى و إن كان المتاح له من الضوء كمية بسيطة لا تكفى لوضوح معالمه.
تتضمن عملية الدمج توازن الإضاءة من خلال إعادة توزيع الضوء لتتسرب شدة الضوء من الأشد للأقل فتخلق نوعا من التعادل اللونى الذى يضفى وضوحا و بهاء و رضا و إعجابا بالصورة.
و هذا أشبه بمن يدخر من أمواله فى وقت الرخاء لينفعه وقت الحاجة إليه عندما تنقص الموارد و يقل الدخل، فالزائد عن حاجته اليوم يحميه وقت الشدة غدا ،فتكون النتيجة أن تمر الأيام بسلام دون أن يغرق الإنسان فى الهم و لا يظهر على وجهه سوى ملامح الألم.
إن هذه التقنية البسيطة تعطى نتائج مبهرة لمن يحسن اختيار المشاهد المناسبة ؛فلو لم يكن هناك تباين فى الإضاءة و اختلاف فى نغمات الألوان لعناصر الصورة لما كان هناك داع لتلك الطريقة ،فهى تلائم بعض المشاهد فقط حتى لا يصبح تكلفا لا يفيد الصورة و لا يقدم لها جديدا.
الوضوح و سطوع الصورة غاية و أمل من يبحث عن الحقيقة ، و التصوير يساعد فى البحث عن الحقيقة فى شكل جمالى مؤثر يراه القلب و يشعر به قبل أن تترجمه خلايا العين إلى أشكال و ألوان ،فيبقى الاحساس فى النفس و يدوم.