سورة قصيرة لكنها تلخص طمع الانسان و غايته و
مصيره ، تلخص حياته المبنية على التكاثر فى كل شيء، فكل يوم يكتسب الجديد و
يمتلك و يزيد، مع تزايد عمره يزيد اهله و
ماله و ممتلكاته ، و لا يكفيه شيء بل يسعى ليستكثر كأن الحياة سوف يعمر فيها و
يخلد،
و كما كان يسعى للمزيد من النعم فى الدنيا
تتحدث جهنم فى الآخرة و تقول هل من مزيد من ضحايا طمع أنفسهم و من خسروا آخرتهم و
باعوا حياتهم الآخرة:
"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" سورة ق(30)
"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" سورة ق(30)
كيف يتلهى الإنسان بالنعمة عن المنعم، و
بالاستزادة عن اداء شكر الوهاب، ذلك من سوء التقدير و الاستجابة لنوازع النفس
المهلكة، فلا يصح أن ينسى الإنسان الغرض من رحلة الحياة و إن بدا له الطريق طويلا
و مازال فى العمر الكثير، فيندفع للتناحر و التنافس وراء ما سوف يصعب حسابه ، و
ربما كانت تلك الزيادة التى يسعى إليها ابتلاء له فى حسابه على النعم.
"ألهاكم التكاثر" لم يذكر الله
المتكاثر به ليشمل كل ما يكثره الناس و يسعون لزيادته سواء الأموال أو الأولاد أو
الأطعمة و كل ما ذكر الله أن الصبر على نقصه له ثواب عظيم و رحمة و صلوات من الله
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " البقرة (155)
و التكاثر من
كل ما يدعو إلى التفاخر و المباهاة ،و يستمر ذلك حتى لحظة زيارة المقابر،و التى قد
تكون لتوصيل الميت و دفنه ،أو تكون زيارة ،أو مستقرا للإنسان حين وفاته حتى قيام
الساعة فهى بمثابة زيارة مؤقتة.
لكن الحقيقة
سوف يعلمها هؤلاء اللاهون وقتما يتعذر العودة و الاسترجاع ،و لو علموا ما
ينتظرهم و كيف يكون الحساب و شدته و دقته ،لما تناحروا و تدافعوا على التكاثر،و
لما غفلوا عن خالقهم و رازقهم و واهبهم ما يتكاثرون به.
و يصف الله
ذلك العلم بأنه علم اليقين، فالحقيقة أن الجحيم ينتظرهم ،تأتى عين اليقين لتؤكد
كونها رؤية بصرية و إثبات حسى لما تحد عنه الرسول بالغيب و لم يصدقه الكفار،فيرون
بأعينهم ما أنكروه باللسان فانصرفت عقولهم عن العمل و السعى و العبادة.
و عندئذ يكون الحساب
و السؤال، و المساءلة ليست على الأفعال فقط التى قام بها الإنسان، بل على النعيم
الذى تمتع به و تنعم، فكل نعمه عليها واجب شكر و حمد ، و استغلال فى الخير و عدم
استعمالها فى الشر و المعاصى، إعطاء الفقير حقه و المسكين ، فلو أدوا حق النعمة فى
الدنيا من الشكر و العطاء فسوف يزيدهم الله بنعيم الآخرة الذى لا يزول و لا يحول،
و إن اغتروا بالنعمة و تغافلوا عنها ، و اعتبروها حقا لهم يأتيهم بدون جهد نصيبا
مفروضا لهم و لم يشكروا لله فيكون العقاب الأليم مصيرهم.
و من جمال
التعبير فى هذه السورة التقابل (ذكر الشيء و عكسه) لتوضيح المعنى ،ما بين التكاثر
و المقابر، فالتكاثر رمز للدنيا و زيادة الأشياء و الانطلاق و السعى ،و المقابر
رمز للانتهاء و وقف العمل و الظلمة و انقطاع العمل.
و تكرار
"تعلمون" ثلاث مرات فى السورة (سوف تعلمون – سوف تعلمون – لو تعلمون)
يدل على سوء تقديرهم و جهلهم و فقدانهم الحقيقة.
كذلك تكرار
اليقين ،مرة مضاف إليها العلم و مرة مضاف إليها العين لتأكيد انها حقيقة عقلية و
حسية بصرية لا مراء فيها و لا جدل.
و ختام السورة
هو السؤال عن النعيم ،حيث يتكامل الختام مع بدايتها من حيث تنفير الانسان من
التكاثر و الزيادة فهو مسئول عن النعم التى ينعم بها الله عليه ،و يأتى الحديث الشريف
تفسيرا لها و تثبيتا لمعناها
قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم:
(لاَ تَزُولُ
قَدَمَا عَبْدٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ
أَرْبَعٍ ، عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ ،
وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ بِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ،
وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)
فالإنسان
مسئول عن عمره و جميع لحظات حياته ؛و فى هذا تحذير لمن يهدر أيامه فى الخصام و
الشقاق و لهو الحديث و المجون ،و مسئول عن جسده و صحته هل أعمله فى مرضاة الله و
السعى إلى الرزق أم استكان و أراح نفسه و أهدر طاقته ،حتى أصحاب العلم ذوى المكانة
العالية عند الله مسئولون عن عملهم و تطبيقهم لهذا العلم ،أما الأموال فعليها
سؤالان: المصدر و الإنفاق ، فما أشده من حساب و ما أصعبه من سؤال.