نجيب محفوظ يتألق بحكمته و فلسفته في نهايات
العمر.. و ماذا بعد طول سنين لإنسان متأمل لأحداث الحياة يمتلك فكر فيلسوف و أسلوب
أديب و خبرة عجوز؟ خلاصة سنين طويلة من التأمل في سلسلة من الأحلام؛ بل قل لقطات
غير مترابطة، لكنها حول عدة محاور منها ما يخص العالم الخارجي و منها ما ينطلق من
ذات الكاتب و فكره الداخلي.
أحلام فترة النقاهة أسلوب جديد؛ مجموعة من
الأحلام ليست قصص قصيرة و ليست أقصوصة لكنها نبضات فكرية أو مشاهد سريعة من أحداث
الحياة؛ ليست خواطر لأنها تصف أشخاصاً أو أمكنة، قد تكون قصيرة لكن يكتمل فيها رسم
المكان – كعادة نجيب محفوظ الفنان في رسم الأمكنة – و الزمان و الشخوص و ربما
احتوت فى عجالة العقدة أيضا ، لكنها دائما نهايات مفتوحة و غامضة.
نقاهة من ماذا؟ من المرض أم من وطأة الحياة و
ثقل المسئوليات؟ إنه إحساس شيخ كبير أدى رسالته نحو أسرته و وطنه و تفرغ للإبداع و
حالة من صفاء الذهن و عمق التفكير
إننى حقا اشتاق لمعرفة ماذا كان يقصد الكاتب
فعلا من كل حلم ، هل هو ما فكرت فيه أم شيء آخر بعيد المنال؟ انه مثل الأحاجي و
الفوازير التي ليس لها حل محدد لكنها فعلا شيقة في كل مرة أقرأ حلما انتقل للآخر
بسرعة لأراهن نفسي هل سأفهمها بسهولة و أفك شفرتها أم سيتعبتى البحث و تدور بى
الاحتمالات؟ إنها حقا رحلة ممتعة في عقل نجيب محفوظ.
و أراها شديدة التعقيد و الغموض، انه يقصد
أشياء و أشياء؛ هل هي أبيات شاعر يحتفظ بالمعاني لنفسه أم أنها أجزاء من سيمفونية
الحياة انه الفنان في كل زمان و مكان يعشق التنوع و ينبذ التكرار حتى فى الاسلوب و
التعبير فيأتى دائما بالجديد..
هل هي كوابيس أو أحلام مزعجة أم أحلام يقظة
أم أمنيات؟
ماذا عن الوحدة الفنية فيها و الجو النفسي
الذي يهيمن عليها و يحدد مسارها؟ انها لغة التشاؤم فى نظرى و الاثبات يأتى من عدة
ملاحظات..
-
تكرار كلمات مثل متجهما – انقبض صدري – مسدس –
مرتجفة – لعنات – تشاؤم - شتائم
-
نهايات مفتوحة و تلميحات عن الفساد
-
تكرار ذكر الشيخوخة و العجز و مقارنة الأيام
السابقة بالواقع الأليم
منذ النظرة الأولى يتبين الجو النفسى العام للكاتب ، فهو يميل إلى التشاؤم
و تميل أحلامه إلى الكوابيس..
دعوني أسمى الأحلام بدلا من أرقامها التي عنونها الكاتب بها:
حلم 1: الصداقة تتحول لسراب
أسوق دراجتى من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع، باحثا عن مطعم مناسب لذوى
الدخل المحدود و دائما أجدها مغلقة الأبواب. و حانت منى التفاتة إلى ساعة الميدان،
فرأيت أسفلها صديقى فدعانى بشارة من يده فملت بدراجتى نحوه، و إذا به على علم
بحالى فاقترح علىَ أن أترك دراجتى معه ليسهل علىَ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت
البحث و جوعى يشتد. و صادفنى فى طريقة مطعم العائلات ، فبدافع من الجوع و اليأس اتجهت
نحوه على الرغم من علمى بارتفاع أسعاره ، و رآنى صاحبه و هو يقف فى مدخله أمام
ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستار فبدت خرابة ملأى بالنفايات فى وضع
البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج ماذا جرى؟ فقال الرجل : أسرع إلى كبابجى
الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب ، و لم أضيع وقتا فرجعت إلى ساعة الميدان لكننى لم
أجد الدراجة و لا الصديق..
مطعم العائلات خال إلا من النفايات، الأمل الأخير فى كبابجى الشباب عند
ساعة الميدان، الصديق يقف تحتها و على علم مسبق بجوعه الشديد، و لما استمع لنصيحة
صاحبه لم يجد الدراجة و لا الصديق..
هل لأن العمر مضى أم خيانة أتته من أقرب الناس له.
حلم 3: الهوان
هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى
أسفل ساقيه، و هو يحرك رأسه بعنف يمنة و يسرة و يهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى
هذا العذاب؟ و كان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق و يتبادلون النظر فى ذهول ، و تساءل
صوت: من فعل بك ذلك؟ فأجاب الرجل المعذب و رأسه لا تكف عن الحركة: أنا الفاعل – لماذا؟
هو العقاب الذى استحقه – من أى ذنب؟ فصاح بغضب : الجهل، فقلت له : عهدنا بك ذو حلم
و خبرة، جهلنا أن الغضب استعداد كل فرد، و ارتفع صوته و هو يقول: و جهلت أن أى
إنسان لا يخلو من كرامة مهما هن شأنه. وغلبنا الحزن و الصمت.
رجل مقيد بحبل و الكرامة الجريحة تمثيل بالإنسان إذ يستهين بعقاب الله و هو
لا يتحمل ذرة منه. لا يملكون له شيء سوى الحزن و الصمت ..
ثلاثتنا: من هم الثلاثة؟ أسئلة حائرة.
الظاهر: أنه ذو حلم و خبرة.
الحقيقة: أنه مهان نتيجة نتيجة سوء صنيعه و الدليل كلمة "الفاعل"
و أن هذا العقاب الذي يستحقه.
حلم 36: المتآمرون
جمعنا بهو ما، ثمة وجوه أراها لأول مرة و وجوه أعرفها جيدا من الزملاء، و
كنا ننتظر إعلان نتيجة اليانصيب، و أعلنت النتيجة و كنت الرابح، و كانت الجائزة
فيلا حديثه و حصل تعليقات و توهان، لم
تستطع وجوه كثيرة أن تخفى كمدها. و قال لى كثيرون أنه فوز لكنه خازوق من أين لك
المال لتأسيسها و توفير الخدم اللازمين لها و استهلاك الماء و الكهرباء و خدمة
حمام السباحة و التكييف...الخ
الحق أن الحلم ما زال حيا، و ها أنا أتفقد الفيلا كل يوم تقريبا و أرجع
بالخيبة و الحسرات، و استغل أناس قلة خبرتى و أقنعونى ببيعها و اشتروا بثمن فرحت
به ساعات حتى تبين لى أنى خدعت و سرقت.
و حدث فى ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام ، و كثر التزاحم حولها و
المرشحون و بطاقات ذوى النفوذ، و قابلت الوزير و قلت له أننى لا وسيط لى سواه، و
لكنه قال لى إنك لم تستطع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟
و صرت نادرة و مثالا... فطلبت ضم المدة الباقية لى فى الخدمة إلى خدمتى و إحالتى
إلى المعاش، و أخيرا وجدت الطمأنينة فى موضع لا يتطلع إليه طماع، و لا ينظر إليه
ذوو الطموح.
ماذا جاء سهلا يذهب سهلا، و هذا شأن أموال
اليانصيب التى لا تتطلب سوى لحظة حظ دون أدنى مجهود أو إعداد، و ليت تلك الجائزة
التى كسبها من اليانصيب ذهبت و فارقته فحسب، لكنها خلفت له حسرة و شؤما بداية من
الحقد و الحسد الذى لاحقه، ثم حسرته على بيعها بثمن بخس، و انتهاء بوصفه لا يصلح
لرعاية المال و تحمل المسئولية ثم احالته على المعاش و فقدان عمله هروبا من كلام
الناس و نظراتهم. فهل كان فوزه فوزا حقيقيا و نعمة تستحق الفرحة أم خسارة و شر
مقنع؟
حلم 65 : ما أجمل اللامعقول!
انقضى العام الدراسى و أعلن عن يوم الامتحان و لم نكن فتحنا كتابا و لا
حفظنا جملة توجب التفكير فيما ينبغى عمله، و ثمة قلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من
الاحترام لما هو معقول فقررت الامتناع عن حضور الامتحان ، فأما الأخرى فكانت مولعة
بالعبث و اللامعقول فانتهزت الفرصة المتاحة و عزمت على حضور الامتحان و فى الصباح
الموعود انتظمنا الصفوف و لبسنا أقنعة الجدية و الاهتمام و إذا برئيس اللجنة يقوم
و يقول بصوت جهورى إنه سيوزع علينا ورقتين إحداهما تحوى الأسئلة و الأخرى تحوى
الإجابات الصحيحة. و ذهبنا حقا فلم نكن نتصور أن بين أساتذتنا من يفوقنا فى حب
العبث و اللامعقول.
حدث لا يحدث إلا فى الأحلام الجميلة ذات
النهاية السعيدة حتى لو لم تتفق مع المنطق، المراقب يوزع عليهم بكل جرأة ورقة
الإجابات مع الأسئلة فى استهانة صارخة بمبدأ العدل و تكافؤ الفرص، الكل يحب
الخداع؛ فالطلبة ارتدوا أقنعة الجد و الاجتهاد، و الأساتذة قرروا التجديد و
التسهيل عليهم أثناء التصحيح؛ الإجابات ستكون موحدة و النجاح أكيد لكنه فى النهاية
نجاح زائف و تمثيلية عبثية غير معقولة.