السبت، 21 نوفمبر 2015

فلسفة الشحاذة


الشحاذة عمل مهين فهو استجداء للناس إن شاءوا أعطوا للشحاذ و إن شاءوا نهروه و أشاحوا بوجههم عنه ،و مع ذلك نجد من يستهويه السؤال و يستعذب هذا العطاء السهل المتنوع و يجد من المبررات ما يهون عليه هذا الذل ،بل و يجعله شاعرا بالزهو و الانتصار و النجاح فى نهاية يوم ملئ بالهبات و الصدقات – على الرغم من كونها تعافها النفس- لكنه يرى أنه نجح فى مهمته و هو ضبط ميزان الحياة و الاخذ من الغنى للفقير كمن يعيد توزيع الثروات ليحقق العدل المنشود ، فهو مقابل ما يأخذ من الناس يكون سببا فى الثواب لهم و المغفرة لذنوبهم التى تؤرقهم و تدمى ضمائرهم ،فهم سبب فى راحة نفسية عظيمة لمن يشحذون منهم ، و بالتالى يستحقون الشكر و التقدير لدورهم العظيم!

قالت الشحاذة لابنتها  التى تحاول أن تفهم منها لماذا يمتهنون الشحاذة و يتحملون ذل السؤال (مقتبس من قصة أساطير نوبية):

"إنك يا ابنتى تعطين أكثر مما تأخذين؛ فالناس فى حياتهم اليومية يضطرون إلى إيذاء الغير و سرقتهم و العبث بعقولهم ثم تتعذب ضمائرهم و يحتاجون لإراحتها بعمل الخير ،و لن يكون هذا الخير هو رد المسروقات إلى أهلها و لا رد الأذى عن من آذوهم؛ فقد تم الإيذاء و أنفقت المسروقات، و لم يعد إلا أن بعض ما ترضى عنه السماء مثل العطف على الفقراء و مساعدة المحتاجين،  و نحن نذهب إلى الناس فى مزارعهم و بيوتهم فى أوقات مختلفة، و ندعو لهم و نسمعهم ما يجعلهم يقدمون الخير ، فنحن نحول التضحية بالمال إلى أغنية عذبة فى الشفاه، ونقوم بعمل تربوى و تعليمى للناس و نزرع فيهم حب البذل و الخير و المثل الرفيعة .. و هل يصنع المصلحون و الأنبياء أعظم من هذا؟"
"إن المسألة مسألة اقتناع – اقتنعى بعملك و أحبيه يصبح سهلا و عظيما ، ألا تجدين المعلم و شيخ المسجد يعيدان الموعظة و الدرس عشرات المرات و بنفس الحماس لسبب بسيط هو اقتناعهم بعملهم؟"

و لا تشمل هذه الفلسفة كون الشحاذ عاطلا عن الكسب و لا يقدم شيئا ماديا يفيد المجتمع ،و لا يستغل صحته و ساعديه فى الزراعة أو العمل النافع الذى يعود عليه بالمال الوفير و على المجتمع بالخير و النماء. فحفظ ماء الوجه من اسباب سعادة الانسان و احترامه لنفسه و امتلاكه لحريته و القدرة على تحقيق ما يريد و تطوير نفسه.

اليد العليا خير من اليد السفلى اى ان اليد التى تعطى أحب إلى الله من اليد الآخذة

« الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ »(1).

و فى الحديث الشريف نهى عن السؤال و دعوة لأى عمل شريف مهما كان ضئيلا خير من السؤال و ذله: "لأن يحتطب أحدكم خير له أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"

فالإنسان الحر بفطرته يأبى أن يسأل الآخرين فهو ليس أقل منهم و لن تتوقف حياته على قرار الآخرين بمنعه أو إعطاءه كما أنه لا يتحمل نظرة المن و التكبر التى قد تصدر ممن يعطونه شيئا. إلا البائس العاجز الذى تقطعت به سبل الحياة فهو لا يشعر إلا بالجوع و البرد فقط و المشاعر تعتبر رفاهية بجانب احتياجاته الإنسانية الأساسية الأخرى ؛لذلك يلح و يلح فى السؤال و قد يجلس فى صمت و استسلام حتى يعطف عليه المارة. هذه هى الحالة الوحيدة التى يجوز فيها السؤال حتى تزول أسباب العجز و يستطيع الانسان الاعتماد على نفسه مرة أخرى.

و المجتمع مسئول عن انتشار الشحاذة ، فلولا التعطل و البطالة و نهب الأموال و انتشار الظلم لما عجز الناس عن كسب قوت يومهم و انتهى بهم الأمر فى رحلة البحث عن عمل إلى التسول أو الجنون و التسكع فى الشوارع ،لو ان هناك جمعيات خيرية تحدد بدقة العائلات التى لا تجد من يعولها أو فقد عائلها عمله و عجز عن الإنفاق فتوزع عليها من الصدقات و هبات الأغنياء لقلت الفجوة فى المجتمع و كفى ذلك الفقير شر السؤال.

و الأفضل هو إمداد تلك الأسر بما يدر عليها دخلا بسيطا مثل ماكينات الخياطة أو تربية ماشية أو ما شابه ذلك حسب احتياج المجتمعات التى يعيشون فيها .فهذا يضمن لهم نفوسا كريمة و شغلا نافعا لأوقاتهم. و من زاوية التخطيط بعيد المدى فقد تكون هذه المشاريع الصغيرة نواة لمشاريع اكبر تسهم فى تطوير المجتمع و توفير فرص عمل و جودة و منافسة فى المنتجات.

الحلول الاسلامية بسيطة لكن لابد من التكاتف و التعاون على مستوى الأسر و الأقارب الجيران أولا فهم الأقرب ،ثم على مستوى الحكومة و الجمعيات الخيرية حيث لديهم الموارد و إمكانية عمل تخطيط شامل.

الجمعة، 26 سبتمبر 2014

من يستحق الشفقة؟


القلب الطيب نعمة من الله ، و رقة القلوب فضل و رحمة، ألم يذم الله اليهود بقوله "ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة"     بل أن الحجارة أفضل فقد تتشقق و يخرج منها الماء و قد تهبط من خشية الله.

إنما قلب القاسى الجحود قلب لا يلين يعيش بمعزل عن الآخرين و ينأى بنفسه عنهم و يعلو على الجميع استكبار و علوا، و خروج الماء من الصخر المتشقق مثل ما ينطلق فى قلوبنا من الرحمة و تندفع دماء العطف و التأثر حتى لتكاد تطفر الدموع عندما نرحم من هم فى ظروف سيئة أو من يعانى ألما و عجزا و لا نستطيع دفع  الألم عنهم.

بطل قصة "حذار من الشفقة" هو شاب يعمل ضابطا لكنه يحمل الكثير من الشفقة فى قلبه يتعرف على اسرة ارستقراطية نبيلة و تبدأ من هنا معاناته....

لكنه ليس وحده البطل الذى يحملنا على التعاطف معه بل هناك أب مكلوم و فتاة عاجزة و طبيب إنسان

الأب صنع ثروته من كل الطرق المشروعة و غير المشروعة حتى قذفه الحظ فى فرصة ذهبية رفعته بسرعة إلى علية القوم، و لولا أن فى قلبه ضمير مستيقظ و احساس دفين بالآخرين لما فاز بحياة هادئة مستقرة و زوجة رائعة مخلصة مستكينة.لكن السعادة لا تدوم فقد اختطف المرض زوجته و لم تنفعه ملايينه فى ابقائها على الحياة ،فعاشت ابنته محرومة من حنان الام ،فأسبغ عليها من كل وسائل الترفيه و السعادة لكن السعادة لا تكتمل ،فقد وقعت من ظهر الجواد و فقدت القدرة على الحركة لتعيش اسيرة العجز الجسدى و النفسى.

و استعان بطبيب فضله على كل الاطباء الذين عرضها عليهم لما لمسه فيه من انسانية ، و هل هناك دليل على انسانيته أكبر من زواجه من امرأة عمياء فقدت بصرها و قد طمأنها ذات يوم أنها ستشفى لكن الامور ليست تسير وفق ما يشتهى الانسان، و لما فقدت بصرها تزوجها كى يخفف عنها، و يخفف عن نفسه وطأة الاحساس بالذنب إذ جعلها تتعلق بأمل واه.

و كان لهذا الطبيب المعالج للفتاة فلسفته فى قابلية المريض للشفاء، لم يكن يؤمن بالشيء التقليدى أو العلاج الحالى بل كان يسعى نحو الحالات التى لم يجد معها علاج و يجتهد للبحث عن طرق جديدة للشفاء، فالطبيب الذى يكتب أدوية تقليدية و يعالج بطريقة تقليدية مثل الكاتب الذى يكتب الكلام المعاد و لا يبتكر أفكارا خفية أو ساد الاعتقاد بأنها لا يمكن تناولها، فالحقيقة أنه لا يوجد مرض غير قابل للشفاء (سوى الهرم) بل هو مرض لم يُعرف دواؤه بعد.

نعود للشاب الشخصية المحورية و التى تأتى القصة على لسانه عن طريق سرده للأحداث التى عاشها فى القصة ، هذا الشاب يسوقه القدر إلى قبول دعوة صاحب القصر و أبو الفتاة الكسيحة و التعرف عليهم عن قرب ،و تكررت الزيارات ربما بدون سبب ظاهر لكن كل من الضيف و المضيف أحب تلك الزيارة اليومية و ألفها و تعلق بها و استعد لها.

سحر الشفقة

كان ضباب الفجر ما زال يغطى المبانى و الحقول، و فيما نحن نركض بجيادنا بأقصى سرعة و نسيم البكور يحمل إلى أنفاسنا عطر الحقول المزدهرة فنعب منها جرعات تملأ صدورنا انتعاشا و حبورا ، و دماء الشباب الدافقة تتدفق فى أجسامنا النابضة بالحياة لاحت لى من بعيد أسوار القصر و قبابه العالية ، و للفور طعن قلبى إحساس مباغت بالرثاء للفتاة الكسيحة المحرومة من نعمة الصحة و الحرية ، خيل إلى أنه قد يجرح شعورها أن ترانى هكذا منطلقا كالسهم المارق أو الطائر السعيد و شعرت بالخجل من سعادتى الجسمانية كما يخجل المرء من امتياز لا يستحقه، لكن ذهنى تصدى لعاطفتى بالحجة المقنعة و المنطق السليم فلم ألبث أن تبينت سخافة إذلال النفس على هذه الصورة.

أدركت أنه لا جدوى من أن ينكر الإنسان على نفسه متعة ما لا لشيء إلا لأنه محروم منها، و يأبى على نفسه السعادة لأن غيره شقى، ففى الوقت الذى نضحك فيه و نتبادل النكات يوجد أناس آخرون فى أماكن مختلفة من العالم راقدين على فراش الموت و آخرون خلف الف نافذة و نافذة يعانون البؤس، و لن يخفف من شقاء إنسان واحد أن يٌشقى إنسان نفسه بنفسه بغير مبرر.لو حاول شخص أن يفكر فى مآسى الغير و يصور لنفسه صنوف البؤس الذى تنطوى عليه الدنيا لاستعصى عليه النوم و ماتت البسمات على شفتيه للأبد.

كانت البداية اشفاق على الفتاة من الوحدة و تخفيفا عن شعورها بالعجز، إذ أن جهله بمرضها أحرجها يوما فى بداية تعرفه بها لكنه مالبت أن عوضها بالزيارات المتكررة و التسرية عنها، حتى اليوم الذى تلقى فيه سخرية من أصدقائه و تهكما على تكرار زياراته لتلك العائلة الثرية متهمين اياه بالطمع و الرغبة فى عيشة رغدة و الاستفادة من كرمهم و ترحيبهم البالغ.  عندئذ أعاد النظر و التأمل لكن شفقته غالبته و انتصرت فعاد لعادته الجديدة فى الذهاب اليهم كل يوم.

لم يستطع الانقطاع عنهم لم يدعه قلبه يفعل ، فهل إذا قرر الانسان فى قرار انفعالى أن يقطع نهر شفقته بالآخرين يكون ذلك سهلا عليه؟ بالطبع لا فبالرغم من الراحة المؤقتة و التخفف من المسئولية : ان العطف الصادق لا يمكن قطع تياره بالسهولة  التى ينقطع بها التيار الكهربائى، فإن كل من يشغل نفسه بمصير إنسان غيره فلابد أن يفقد إلى حد ما حريته.

لاحظ الجميع مدى سعادة الفتاة بوجود الشاب فازدادوا به ترحيبا و تضاعفت الحفاوة ، و علت مكانته و الثقة به و مضى الشاب فى حياته يوما بعد يوم تتوثق صلته بالفتاة و ابيها و يزداد منهم قربا و ألفة، حتى ذلك اليوم الذى فوجئ الشاب بوالدها يأتى اليه فى مقر عمله راجيا و مستعطفا...

طلب صغير

لم يستنكف أبوها الشيخ العجوز أن يتضرع و يتوسل إلى الشاب أن يعرف من الطبيب بشكل غير مباشر حقيقة مرض ابنته و احتمال فرصتها فى الشفاء، و اعتبرها مهمة عظمى تستحق الشكر و العرفان.           

لكن لسوء الحظ دفعت شدة الشفقة الشاب لأن يقول –بدون أن يقصد تضليلهم – لابى الفتاة أن هناك أمل كبير فى علاج ابنته و أن حالة مشابهة لها قد شفيت.

و هرع الطبيب اليه بعد ما اكتشف ذلك و خطورته من حيث اعطاء أمل كاذب ثم صدمة الفتاة من عدم تحققه، صدمة قد تدفعه للتخلص من حياته فى أسوأ الأمور.

عواقب الشفقة

إن الشفقة سلاح ذو حدين ، و كل من لا يتقن استعماله يجب أن يكف يديه ، و قبل كل شيء قلبه عن لمسه

فى البداية فقط تكون الشفقة كالمورفين مسكن، يخفف آلام المريض و لكن ما لم تعرف بالضبط مقدار الجرعة التى تعطيها إياه منه و متى تكف عن إعطائه فإن المسكن ينقلب سما قاتلا ، و كما يدمن الجهاز العصبى المورفين فيظل يصرخ فى طلب المزيد منها يوما بعد يوم، حتى تطلب أكثر، كذلك تدمن النفس الشفقة فتصرخ فى طلب المزيد. فى النهاية أكثر مما يمكن للإنسان أن يحتمل، و حين تأتى هذه اللحظة ينبغى للمرء أن يتوقع من المريض مقتا و كراهية يفوقان كل ما كان يناله منهما لو لم يمد لمريضه يد المساعدة من البداية.

يجب أن يزن الشخص شفقته بالقسطاس و إلا أحدثت من الضرر أضعاف من كان يحدثه عدم المبالاة فلو أطلق الجميع العنان لشفقتهم لانقلب نظام الكون.

إن العبرة بالنتائج و ليست الدوافع فما جدوى أن تكون الدوافع نبيلة و النتائج سيئة ؟

 

أفكار شريرة: شفقة أم عبودية؟

بينما كان الشاب يتردد بين الاقبال على الفتاة بدافع الاشفاق أو الهروب منها و أسرتها ليعود لسابق عهده من الحرية و الانطلاق استعصى عليه النوم يوما فقرر الاستعانة بقراءة أحد الكتب القديمة التى يشتريها و تتنقل معه من مكان لآخر دون أن يقرأها ، و اختار كتاب الف ليلة و ليلة لسذاجة قصصه و بالتالى لها تأثير منوم أكثر مما سواها، و لأن القارئ بطبيعته ينتقى ما يريد قراءته تبعا لحالته النفسية و اهتماماته و ما يشغل باله فقد وقع اختياره على قصة الشيخ الأعرج ..

قصة الرجل الأعرج:

يحكى أن هناك كان يوجد شيخ أعرج بائس فى عارضة الطريق صادفه شاب قوى فناشده الأعرج أن يحمله على كتفه لأنه كسيح لا يستطيع أن يسير على قدميه ، و أخذت الشفقة ذلك الشاب فحمله على كتفه و مضى، و سرعان ما تبين له أن العاجز المسكين ليس سوى جنى شرير لا يكاد يستقر فوق كتف حامله حتى يعقد ساقيه حول رقبته فيسلبه إرادته و يجعل منه عبدا خاضعا له يحمله إلى كل مكان يقصده، و لا يكون له الحق فى ساعة واحدة من الراحة و هكذا غدى الشاب الأحمق ضحية تعسة لشفقته ، و يكون قدره أن يحمل سيده الماكر الشرير على ظهره للأبد..

كان لهذه القصة أثرا سلبياعلى الشاب إذ ربط بين هذا الجنى الشرير ووالد الفتاة الذى يريد أن يربطه بتلك الفتاة الكسيحة إلى الأبد و خشى على حريته و حياته، فتزعزت رغبته فى الاستمرار فى دوره كمنقذ للفتاة و بطل أمام أسرتها و أمام نفسه، ساهم فى ذلك ما سمعه من تهكم زملائه الطامعين فى ما ينتظره من عز و جاه محاولين اثنائه عن المضى فى طريقه .

لحظة اختبار

قال لها الشاب عندما سألته عن سبب زيارته اليومية لهم، لا تبحثى عن دوافع خفية وراء ذلك فأنا لا أفكر فى دوافعى الخاصة و لا استطيع أن أعطيكى سببا لمجيئى إلى هنا يوما بعد يوم سوى أن ذلك يروقنى ...أحيانا أتساءل متعجبا كيف لا تضايقك زياراتى بل كثيرا ما ينتابنى خوف من أن تكونى مللتى عشرتى، لكن لا ألبث أن أذكر نفسى بأنك وحيدة هذا البيت الكبير الفارغ و أنه يمتعك أن تجدى شخصا يأتى لزيارتك ، و هذا ما يمدنى دائما بالشجاعة حيث أقول لنفسى أنى أحسن صنعا بالمجئ بدلا من تركك تقضين اليوم كله وحدك.. عند هذا الحد عرفت الفتاة باحساسها المرهف أن شعوره نحوها شفقة فقط و كانت نتيجة الاختبار ألم شديد لها.

خطابات متناقضة

ما بين مد و جزر أرسلت الفتاة اليه خطابا يشرح حالتها و مكنون نفسها، كم كان خطابا بليغا ترجوه بمذلة ألا يعرض عنها أو يهجر زيارتهم ، قالت له " أستحلفك ألا تخشانى أو تنفر منى ، أرجو أن تذكر أنى سجينة عليها أن تنتظر فى سجنها حتى تأتى إليها و تتفضل عليها بساعة من وقتك و تسمح لها بأن تنظر إليك و تسمع صوتك و تعلم أن إنك تتنفس الهواء الذى تتنفسه ، هل تستكثر على كائن بشرى أن تمنحه هذه الجرعة التعسة من السعادة التى يمنحها الانسان راضيا لاى كلب ؛ سعادة النظر بين حين و حين فى صمت و مذلة إلى سيده"

"إنك لا تتصور إلى أى مدى أخاف أن أفقدك فمنذ اللحظة التى تغلق فيها الباب خلفك ، و أنا أكون فى فزع مروع من أن تكون تلك آخر مرة أراك فيها"

حمل الشاب الخطاب فى سترته و مضى لحضور دعوة من أحد زملائه لكنه كان فى واد آخر جلس صامتا بين زملائه يتحسس خلسه بين حين و حين شيئا ينبض تحت سترته كقلب ثان لم يستطع إلا أن يفكر فى غير الخطاب الراقد فوق قلبه و الصرخة اليائسة التى أطلقتها كاتبته.

من فرط انفعاله تداخلت الاصوات بين ما يقوله الداعى فى الحفل و بين مقاطع من صوتها فى الرسالة و هكذا انسلخ الشاب من المكان و عاد لبيته، حيث وجد الخطاب على المنضدة كيف هذا و هو فى جيب سترته لم يخلعها بعد هل هو نائم يحلم أم أنه فقد وعيه و لما عثر على الخطاب فى جيبه علم أنه خطاب جديد أرسلته الفتاة بعد الاول بساعتين...كانت تطلب منه تمزيق الخطاب الاول و نسيان كل كلمة فيه

لكنه لم يستطع..كيف لا يفكر فيه و هو لا يستطيع أن يفكر إلا فيه؟

رقة حالمة

عادت الفتاة و اعتذرت كما اعتادت على ان تتحدث بعصبية ثم تعود و تطلب السماح ، و لما عاد الشاب لزيارتهم و عندما هم بالانصراف ربت على ذراعها فى حنو و عطف ، ثم انتبه فإذا بها تجذب يده إلى موضع قلبها ثم تطبق عليها بيدها الأخرى  و تعتصرها بين يديها فى حياء رقيق، ثم غاصت فى مقعدها و أغمضت عينيها كمن يحلم بشيء بينما اشرق وجهها بابتسامة من ينعم بسكينة نفس، و لكن الشاب شيئا فشيئا بدأ جمود يده يثقل عليه! فبدأ يحرك عضلات يده فى حذر كى يستردها من قبضة الفتاة اللينة فى رفق و لباقة ، لكنها سرعان ما أدركت بحساسيتها المرهفة الحادة أنه على وشك سحب يده فأخلت سبيله، و زال عن بشرته دفء الملمس الناعم ، و لما استرد يده المهجورة مرتبكا غام وجه الفتاة و بدا عليها الانفعال المكتوم. و تأكدت المسكينة بسحب يده أنه تنصل منها و أن مشاعره تجاهها هى شفقة حائرة.

اللقاء الأخير

 عندما جاء الشاب لوداعها قبل سفرها للعلاج وجدها ترتدى ثوبا من الحرير الأزرق و تضع على رأسها بعض الأزهار ، وعدته بأن تناضل من أجل الشفاء كى تكون جديرة يه، كانت واثقة من رفق الله بها ، كانت تعتقد أن الانسان حين يريد شيئا باستماته و الحاح فإن الله لا يضن بها عليه.

لكن الأحزان تلاحق الفتاة، فبينما جاءت لحظة الوداع الأخيرة أقبلت فى اتجاه الشاب تترنح على ساقيها دون سند من عكازيها مستعينة  على حفظ توازنها بحركات ذراعيها، و بينما هى على بعد خطوة  أو خطوتين منها فاضت بها لهفتها على احتضانه فمدت ذراعيها نحوه قبل الأوان و اختل توازها و سقطت عند قدمه..

تخاذل و خسران

كان الشاب بلا عزيمة صادقة حتى هذه اللحظة ، حيث أنكر أمام زملائه و قائده ارتباطه بالفتاة خشية أن يتهم بالطمع و أنه يبيع نفسه من أجل المال ، فكذب أسوأ و أقسى كذبة فى حياته إذ أنكر خطبته للفتاة و اختلق الأكاذيب كى يهرب من عيون من حوله و ينجو من المساءلة.. و لأنه متردد غير صادق العزم فقد عاد فى تفكيره لكن بعد فوات الأوان...

نفذت الفتاة تهديدها وتخلصت من حياتها بعد ما علمت أنه خذلها و خيب أملها فلم تتحمل الصدمة.

خسر الشاب بسبب خوفه من الناس و أقاويلهم أصدق حب فى حياته و حمل الشعور بالذنب ما تبقى من عمره، و بالرغم من سعيه نحو الموت مرات من خلال عمله كضابط إلا أن القدر حال دون ذلك ، عاش وحيدا مهزوم النفس، اكتشف أن ليس الانسان السليم الفرح السعيد هو الذى ينبغى أن نحبه فمثله لا يحتاج إلى حبنا ، إنه فى غطرسته و عدم مبالاته يتقبل منا هذا الحب على أنه واجب علينا، نؤديه إليه صاغرين، و حبنا لهم يكون بمثابة الزخرف و الزينة و ليس نعمة الحياة كلها و سر وجودها.

و لا يستحق الحب و ينتفع به غير الذين قست عليهم الحياة فأذلتهم و حرمتهم نعمة الحواس أو الجمال أو الاطمئنان..هم وحدهم الذين يعرفون كيف يحبون و يتلقون الحب فى تواضع و امتنان.

حقا أن هذا الشاب هو الذى يستحق الشفقة بعد ما فقد حبا مخلصا ،كان لا يعلم إلى أين يذهب عندما يعود من المعركة؟ من بقى فى حاجة إليه؟ من الذى  يحبه ؟ لماذا و من أجل من يعيش ...؟

من قصة "حذار من الشفقة - ستيفان زفايج"

الأحد، 27 أكتوبر 2013

نظرية الاستخفاف

يحكى الزمان عن فرعون و قومه الذين استخفهم فاستجابوا  له،الذين صدقوا أنه إله و فرض عليهم اتباع رأيه و التحكم فى رؤيتهم و حكمهم على الاشياء مما أدى بهم فى النهاية للهاوية.

"فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" الزخرف (54)

الاستخفاف ببساطة هو إلغاء العقل و وقف إعماله و تحريك الاتباع كأنهم عرائس متحركة.

إن الاستخفاف بعقول لبشر جريمة المذنب فيها و الضحية كلاهما مدان..

فلولا التخاذل و انعدام الهمة و اتباع الطريق السهل الممهد -و إن كانت نهايته سيئة أو بلا نهاية- لما استطاع المستخِف التحكم و توجيه الأتباع كما يريد ،و إحاطتهم ليل نهار بما يريد تحقيقه بخبث و دهاء كطريقة من طرق الدعاية السوداء بالتكرار و الملاحقة.

"وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا " سبأ (33)

 انظر إلى ثقة فرعون و جرأته:

" قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" غافر (29)

"فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ"  النازعات (24-25)

و من يضمن أن القائد منزه عن الخطأ و أن رأيه هو الصواب ؟ لا أحد فالإنسان بطبيعته يحتاج للمشورة و رأيه الفردى ناقص مفتقر إلى الصواب و الرشد

"إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ " هود (97)

هو قائدهم اليوم و قائدهم غدا، فى الدنيا و الآخرة ، ففى الدنيا يقودهم إلى الذل و العبودية ، و فى الآخرة يقودهم إلى النار و يبتدئهم  فى العذاب

"يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ" هود (98)

ووجود مثل هذا الفرعون فى المجتمع بلاء عظيم ،سلاحه الاستعلاء و حاله الطغيان و الإسراف، و وسيلته التفريق بين الناس ليسودهم ؛فيجعلهم طوائف مختلفة يكيل لكل منها ما يراه من العذاب و الهوان ،و لا يستطيع أحد منهم دفع الأذى لأنهم متفرقين ضعفاء أنهكهم الظلم و الصراعات بينهم.

و يكون التخلص من الفرعون فضل من الله و منة على المستضعفين حيث تتبدل الأحوال فيصبحوا هم الأئمة الوارثين و يرى فرعون و جنده ما كانوا يحذرون منهم.

و فى الحياة أمثلة كثيرة لهذا الاستخفاف :

·        على المستوى الواسع مثل تحكم الدول الغربية و أمريكا فى عقول العرب و جعلهم ينسون تراثهم و عاداتهم و ثقافتهم و الانبهار بثقافة و سلوك الغرب من خلال اساليب الدعاية المغرضة فى كل شيء حولهم من إعلان لخبر لأحكام دولية و تهديدات للأمن و غيرها ،و هذا ما يطلق عليه العولمة و التى تؤدى إلى اغفال الهوية العربية و التأثر بهوية الآخر،و الذى يؤدى إلى مزيد من تهالك الشعوب العربية و تهافتها على اتباع ما يريده لها الغرب و يخططون له حتى لو على حساب تاريخ العربى و موضع فخره و اعتزازه.

·        الاعلانات المتدفقة ليل نهار أو ما يسمى ظاهرة التزاحم الإعلانى , و الذى يهدف ؟إلى ترسيخ ثقافة الاستهلاك لدى الوطن العربى و دفعه للمزيد من الانفاق المتكلف ، فقد يشترى ما لا يحتاج لإرضاء ما يشبع لديه حب المكانة و الشعور بالفخامة و التميز حتى و إن دفع كل ما يملك ، فيؤدى للمزيد من الاستيراد و الارباح للغرب المتحكم صانع اعلانات الشركات العالمية متعددة الفروع أو المركزية.

·        وكالات الانباء العالمية ، المصدر الرئيسى للأخبار الخارجية اللازمة لأى صحيفة أو إذاعة تتعمد فى انتقاء الاخبار تغطية الأحداث بما يخدم أهدافها الاستعمارية – استعمار العقول  و الاستخفاف بالبشر- و ترسخ فى أذهان العالم تخلف دول العالم الثالث و انتشار الارهاب فيه و تعثر التعليم و قلة الموارد و بيروقراطية الادارة و تمكن العنف بين أبناء الوطن الواحد و تغلغل الفساد فى اجهزته و حكومته ،و هذا يصب فى مصلحة الغرب إذ تذهب إليه الاستثمارات و يقبل الشباب الواعد على الذهاب إليه و العمل فيه أو الهجرة إليه و إبراز مواهبه و طاقاته ليفيد دول الغرب قبل أن يفيد نفسه و يزيد فيه العمران و التطور دون وطنه الاصلى.

·        و تتخذ حكومات أمريكا و الدول الكبرى سياسات قهرية و تحكمية من خلال التلويح بسلاح المعونة و التهديد بإيقافها أو سحب ودائعها فى البلاد التى بها خلافات داخلية و سياسية ،و تتخذ تلك الحكومات الغربية دعمها للديمقراطية ستارا وراء التحكم فيهم من أجل مصالحها المادية ،فترى التصريحات و الزيارات و الاجتماعات التى تفيض بالمهاترات و الأحكام الخاطئة ،ثم يتم تطويع سياسات الدول الضعيفة لتتبع سياسات الدول الكبرى المتحكمة.

إنها نفس اللعبة منذ قديم الزمان : التحكم فى الضعيف ما دام لا يٌعمِل عقله و يعميه خوفه عن الوقوف فى وجه المسيطر ليقول له كفى لى رأيى الذى يختلف عن رأيك و مصيرى بيدى فليس لأحد حق التحكم فيه.

·        و الاستخفاف بعقول الاشخاص باسم الدين ليختلقوا شعارات تلهب المشاعر عن فضيلة الجهاد و ما هو إلا افساد للمجتمع و اراقة دماء و نشر للفتنة و الهدم كما يقوم المنظمات بتجنيد الشباب لتعليمهم فنون القتال لاستخدامهم فى عمليات ارهابية قد تكون انتحارية من أجل ما يوهمونهم به من أنه استشهاد فى سبيل الله جزاؤه الجنة بينما هم يحققون أغراضهم السلطوية الدنيوية و يسعون لتفتيت المجتمع ليسهل التحكم فيه و ترويضه لمصالحهم الدنيئة.

·        و على المستوى الاسرى تحكم الأب فى مصير أولاده سواء التعليم أو الزواج فيتعثرون فى دراستهم و يعملون مضطرين فى مجالات لا تروقهم ،أو يتزوجون بما لا تهوى انفسهم فلا يستطيعون الإكمال و الصمود و يظلمون شركاء الحياة و أجيال أخرى. و تظل لعنة الاحساس بأنهم السبب فى تدميرهم بالتحكم الأعمى تطاردهم طول العمر فتفسد علاقة المودة بين الاب و ابنائه.

·        و التحكم الممقوت فى الزوجة لتصبح دائرة فى ساقية المطالب اليومية دون أن تحقق لنفسها أى شيء بينما يكبر الجميع و يزدادون مالا و جاها و مكانة فى المجتمع ، يستقل الجميع و تبقى هى تجتر الذكريات و تحمل آلام الكبر و وهن العمر.

إن استجابتها المطلقة لكل ما يُطلب منها حتى لو على حساب إنسانيتها  و كرامتها لمن الاستخفاف المؤذى ؛لأن رضاها بمكانها الثابت حيث تخدم الجميع و لا يفكر فيها أحد تضحية ضائعة ،فالآخرون فى صراع محموم فى الخارج جريا وراء نجاحهم و رفاهيتهم ناسين الجندى المجهول ،و ما العجب فى ذلك ؟إذا نسى الإنسان نفسه ينساه الآخرون و لا شك ،و إذا لم يعمل على مكانته فلن ينفعه أحد و لن يساعده على الوصول و تحقيق الهدف الذى أرده و الحلم الذى رواده.

فالهمة الهمة أيتها الزوجات المستضعفات الغافلات عن الحياة. فبعد أن يمضى الزمن و تضيع سنوات العمر الزاهية و تذبل ثمرة الجمال المزدهرة سوف تعشن فى انتظار- بل تسول - للبر و التقدير و السؤال عنكن ،و بعد أن تميل فروع الأيام و تظلل أوراقها عليكن الحزن و تغيب شمس الشباب لن ترين سوى العجز و قلة الحيلة و الهوان على الناس.

و لن ينفعكن اليوم دموع الحسرة على السنين البائدة و الأعمال المبتورة فقد مضت فرص العمل و السعى الدءوب و جاءت سنوات القسوة و الجدب.

 إن نظرية الاستخفاف تنص على أنه لا يمكن تعطيل العقل و الإرادة إذا ما تحرر الإنسان من خوفه و قدَر نفسه حق قدرها إذ كرمه خالقه بالعقل و القدرة على الاختيار و تحمل تبعاته.
و متى تحقق الاستخفاف تمت الطاعة المطلقة لكل ما يقوله القائد حتى لو أمر بما يؤذي و حتى لو أدى بالتابع إلى الهلاك فى الدنيا و الآخرة.

 

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

القرار الأخير



عندما تضيق السبل بالطفل الصغير فلا يجد فى والده سوى الجلاد بدلا من ان يجده الشخص الذى يدافع عنه يفقد الطفل صوابه و تذهب جميع المعايير و القيم التى تربى عليها مقابل الهروب من القسوة و السجن المسمى حماية الابناء و مستقبلهم.
السعى وراء الكمال هو عين السراب فللإنسان الحق فى الخطأ ؛الحق فى التجربة و اكتشاف الحقائق بنفسه و ليس بما يمليه عليه الآخرون ؛أما ما يقوم به الآباء شديدو الحرص و التزمت مع أبنائهم من إجبارهم على اتجاه معين و عقابهم بشدة إن حادوا عنه أو لم يتمكنوا من تحقيق ما كانت تصبو إليه نفوسهم فهذا من أنواع الظلم الممقوت.
إنه الظلم الذى يرتدى قناع الشرعية فمن باب تأديب الابناء يعرضهم لعذاب جسدى و نفسى ،إنها نفوس مريضة فالأبناء ليسوا ملكا لآبائهم و هم كأى شخص آخر محمى من الاعتداء و لا يحق لأى احد أن يتطاول عليهم بالضرب بحجة التأديب و إلا فقدوا آدميتهم و حطموا احترامهم لنفسهم و اصبحوا مسخا لكائنات بشرية يحركها الخوف و يدفعها الآخرون لفعل الشيء أو تركه ،فيعانون من اضطرابات و اهتزازات نفسية تعوقهم عن التمتع بالحياة أو الانجاز بها فأقصى ما تتمناه نفوسهم هو النجاة من العقاب حتى لو بالكذب أو الهروب أو سائر الصفات الذميمة ،و هذا ليس الحل لبناء شخصية خلاقة ناجحة.
فى قصة "القرار الأخير" لنجيب محفوظ نجد شخصا فظ غليظ القلب على وجهه ملامح القسوة و فى يده أدوات الضرب يلوح بها لأبنائه ليل نهار و لزوجته المسكينة التى لا يغفر لها هفواتها المنزلية  و لا يقدر وهنها الإنسانى ،فيلهب الجميع بصوته الاجش و ثورته الجامحة لأقل شيء.
و لم تفلح محاولات الجيران لإنقاذ أولاده من دوامة العقاب اليومية على أتفه الأشياء حتى الاشياء التى يتدخل فيها القدر فيتأخر ترتيب الولد عن الاول لأى سبب فيكون مصيره الجلد..حتى البنت لم تسلم من تلك العقوبة غير المناسبة لرقتها و ضعفها كأنثى.           
ماذا يكون مصير هذا الرجل ؟لقد أنفذ غضبه و أمضاه فيمن أراد لهم القدر أن يكونوا تحت سطوته و لم يملكوا المقدرة على الفرار ،لكن الجزاء ينتظره غالبا ما يكون من جنس العمل ،فما جزاء انفجار الغضب اليومى و انطلاق السنته فى وجه من حوله سوى انفجار داخلى أيضا  فى نفسه   المريضة بداء القسوة و السعى المحموم وراء الكمال اللانهائى.. لقد مات بانفجار فى المخ.
لكن ملابسات موته غاضبة فقد شابها تهمة القتل ...
إذا كانت الزوجة قد ترضى بالعيش مع مثل هذا الرجل الفظ القاسى الشديد و تصبر نفسها تارة بأنه قدرها و أنه النصيب و أن البديل هو الأسوأ لها ،و تارة بأنه بذلك يحمى أولادها و بيتها من الانحراف و يحسن السيطرة على أبنائه و تتناسى ما ينالها من لهيب غضبه خشية أن تعيش وحيدة أو ذليلة للآخرين ،فإن الأبناء لديهم رأى آخر ..
الابن الاكبر خرج من البيت و لم يعد ،خرج بلا عتاد من شهادة أو مال خرج هاربا من الجحيم للمجهول ليس أملا فى مستقبل أفضل أو لهدف محدد لكن هروبا من ماض أسود لا يستطيع أن يستمر فيه ،فاستخدم حقه كرجل فى اتخاذ القرار بالاستغناء عن مثل هذا الأب و عن كل ما يحتاجه منه كابن لم يعتمد على نفسه بعد فى العيش و كسب المال مقابل الحصول على حريته و الاحتفاظ بكرامته.
و الابنة قفزت فى بئر المجهول بزواجها بشكل غير متكافئ من رجل كبير فى السن لا يوجد ما يحملها على قبوله سوى الهروب من لعنة الأب القاسى.
أما الولد الأصغر فقد شاهد كل هذا بحس الابن العطوف على أمه الذى يستفيد بتجارب إخوته الأكبر فى كيفية التعامل مع قنبلة البيت الأب الشغوف بالعنف و القسوة ،و لذلك قرر الدفاع عن نفسه و عدم الانتظار ليكون مصيره مثل مصير إخوته المتخاذل السلبى ،لذلك نوى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة أى عدوان جسدى مرتقب من والده ،تعلم الولد فن الملاكمة فى المدرسة و خارجها و ساعده على ذلك صغر سنه و قوة عزيمته.
و فى اليوم الموعود – يوم النتيجة و الرسوب – دق قلب الولد دقا عنيفا لمرأى والده ،ليس خوفا منه مثل كل مرة قبيل الهجوم لكن استعدادا لممارسة الدفاع عن النفس مع والده لأول مرة و بشكل مباغت له.
و من أول لكمة هوى الأب على الأرض و هو يشهق ثم فقد الوعى ،ما السبب ؟قد يكون تفاجأ بموقف الولد أو تكون شدة ضغط اللكمة و تأثيرها على رأسه .. المهم فى النهاية أنه مات بانفجار فى المخ.
و كان من نتائج تلك اللكمة التاريخية:الأم أصابها الكمد و الهم و ماتت محسورة بعد فترة قصيرة ،طلقت الابنة و عادت خاوية الوفاض ،عاد الابن الاكبر دون أن يستقر فى عمله إذ لم يكمل تعليمه.

أُلصِقت تهمة قاتل أبيه  بالابن الاصغر حتى بعد عدم إدانته من جانب الحكومة ،و لكنه لم يهرب و استمر فى طريقه الذى عوده أبوه عليه ،و كانت النتيجة أنه الوحيد الذى أتم تعليمه و توظف و استقربه الحال.. لكنه مع ذلك أتعس الجميع.
ما سر هذه التعاسة ؟ سببها بالتأكيد هو القرار الأخير الذى اتخذه الولد فقد كان قرار مبادلة الهجوم مع والده هو الاول و الأخير بشأن التعامل مع والده ،بعدها تخلص من سطوته للأبد لكن ضميره يوبخه دوما على أنه كان سببا فى وفاة والده الذى و إن كان سببا فى كرهه للحياة و العلم و كل شيء بشدته القاسية لكنه وضع قدمه على الطريق الصحيح الذى كفل له حياة مادية مستقرة و إن لم يكفل له نفسية سوية و لم يحقق له السعادة و الهدوء النفسى. و عكر عليه الاحساس بالذنب صفو حياته فكأن والده كان سببا فى تعاسته قبل و بعد موته و لم يورثهم سوى الهم و الغم.
فهل حقق هذا الأسلوب ما كان يريده الاب من بلوغ الكمال ؟إنه لم يحقق الحد الأدنى من السعادة و الرضا و لم يوفر التميز و لا الانفراد عن باقى الناس فلماذا يشق الإنسان على نفسه و أهله ،و يجرى وراء أوهامه و أطماعه البعيدة ؟إن تحقيق المستحيل لا يتحقق بالقوة و إنما بالحب و التشجيع و الأخذ بالأسباب. حتى العقاب لابد أن يكون محدودا بدون إيذاء و يكون مبنيا على حكمة و محققا لهدف تربوى ،فالعقاب ليس انتقاما ؛هل ينتقم الانسان السوى من أولاده؟ بل وسيلة أخيرة بعد الترغيب و الترهيب و الإنذار بالعقاب ،ثم يأتى العقاب فى أخف صورة بما لا يؤذى الابن لاحقا ،حتى لا يكون سببا فى كره الابناء لأبيهم و للدنيا ،و إصابتهم بالعقد النفسية و انطفاء أملهم فى الحياة.
إن العقاب القاسى المستمر وسيلة لانتقام الاب من أبنائه إذ لم يطيعوا أوامره و لم يعظموا نواهيه -و هذا ينطوى على احساس بالغرور الداخلى و العظمة و ليس من الأبوة فى شيء -و ليس وسيلة تربوية للإصلاح و هذا أفشل ما يكون من الأب الذى لا يعرف عن  الأبوة شيئا سوى انفاق بعض الأموال كأنه فرض عليه و ليس بحب و عطاء. و مثل هذا الأب يكون غافلا عن الحديث الأبوى الرحيم مع أولاده ؛الحديث الهادئ الطويل الذى يسكب فيه الأب خبرة الأيام و حكمة السنين بشكل لطيف و غير مباشر فى نفوس و ذاكرة أبنائه ،هذا الحديث الذى يشيع فى نفوسهم الطمأنينة و يزرع الثقة بالنفس و المجتمع و يبنى شخصية ثابتة ناجحة.
و بالتالى فهو ليس وقتا مهدرا أو تبسطا زائدا مع الأولاد ،و لا يصح أن يتعلل الأب بكسب العيش و السعى وراء المادة للهروب من تربية أبنائه بالحسنى و الصبر،بل عليه أن يحرص على الحوار مع أبنائه و تحمل جدالهم و تخبط أفكارهم بدلا من اللجوء للحلول العنيفة السريعة التى تخرس الألسنة مؤقتا لكن تطلق البغضاء و النفور ثم رد العدوان بمثله لاحقا.

أن مثل هذا الأب لن يجنى سوى الندم ،و الاحترام الذى أراد ان يناله قسرا سوف يصاحبه تحطم لأركان المودة و السعادة و سيجد من الأبناء ضيقا به فى احسن الاحوال و تمنيا لموته فى أسوأها ،و لن يجد ما يتكئ عليه فى شيخوخته من بر الأبناء و حبهم ،لأن رصيده فى بنك العطف و الحب صفر.