السبت، 25 يونيو 2016

تفسير سورة الفتح


سورة الفتح سورة السكينة و النصر و المغفرة و الحكمة البالغة ؛تناولت كيف تتم العهود و أن الله يشهدها و يعلم حكمتها ،و أن التسليم لأمر الله و حسن الظن به هو خير للمؤمن إذ يسكن الرضا قلبه و يتحقق مأربه و إن تأخر.

بشرى للرسول و للمؤمنين و تحذير من اليأس و سوء الظن بالله

  إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)

جاءت بصيغة الماضى لتأكيد المستقبل و ترسيخ اليقين و الطمأنينة لتحقق النصر.

و هنا الفتح هو صلح الحديبية و يشمل كل الفتوحات التى أكرم بها الله المسلمين بعد ذلك،

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

و يترتب على هذا الفتح أن يغفر الله للرسول ذنوبه ،و يتم نعمته بإعزاز الدين و النصر على المشركين، و تمام تلك النعمة بالهداية إلى الصراط المستقيم مما ينال بها السعادة الأبدية و الفلاح السرمدى. و النصر عندما يكون عزيزا يكون تاما قوية ناله المنتصر برفعة و شرف.

فضل السكينة:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)

و من دواعى حدوث النصر و بشارته أن يشعر المؤمنون بالسكينة و يقر فى نفوسهم أن هذا هو الدين الحق فيثبت إيمانهم ، و ليعلموا أن الله قادر على تسخير الكون كله لنصرته و نصرة أوليائه ، و أن لله تعالى جنود فى السموات و الأرض يسيرهم كيف يشاء ووفق  حكمته و إرادته.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)

فى صلح الحديبية عندما سلم المسلمون بهذا الصلح ، و أخروا العمرة إلى العام القادم ، ربما كان ظاهر هذه الشروط حط من قدرهم و غضاضة عليهم، لكنهم صبروا ووطنوا أنفسهم لها ، و علموا أن أمر الله خير لهم و عزة، فازداد إيمانهم و سهلت عليهم الطاعة.

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

و تقتضى حكمة الله المداولة بين الناس ، و ربما تأخير النصر إلى وقت آخر، لكن المنافقين و المشركين سوف تدور عليهم دائرة السوء و تنقلب ظنهم أن الله سيخزى المؤمنين و أن الهزيمة لاحقة بهم، سيرتد إليهم السوء ، و سينالون العقاب الأكبر و هو غضب الله عليهم و لعنته و المصير السيئ.

و حسن الظن بالله خير للمؤمن و أقوم ، و هو خير مزدوج فى الدنيا و الآخرة، ، فسوف تطمئن نفسه و ترضى، و سيكافئه الله بتحقيق ما ظنه من خير و نصر فى الدنيا ، يجازيه حسن الثواب فى الآخرة.

أما سوء الظن بالله فهو ذنب عظيم ، فهو بذلك يسلم فكره للشيطان و يجعل اليأس طريقه و مسلكه، فيقنط من رحمة الله و تملأه الشكوك و المخاوف و تسوء أفعاله ، و اليأس دافع صاحبه إلى المهالك و الذنوب، فتكون النتيجة عيشة ضنكة و سوء العواقب.

الحياة تدور ، و فى دورانها يتقلب الخير و الشر و يتتابعان، فإذا ظن الإنسان خيرا فقد قبض على دائرة الخير ، و التقط السعادة و الرضا، أما إذا لم ير سوى الشر و توقع السوء  و اسودت الدنيا فى عينه ، فسوف يمسك  دائرة السوء و يعيش بؤسها و حزنها.

 وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

أرسل الله الرسول شاهدا على الأمة و شاهد لله بالوحدانية و التفرد بالكمال، و يبشر بالسعادة لمن أطاع و عمل الخير، و نذير للعصاة، لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه، الحديث عن مناصرة الرسول و احترامه و تقديره.

و تسبحوه بكرة و أصيلا، الضمير يعود لله سبحانه و تعالى، فتمجيده و ذكره يقوى النفس و يعينها على الطاعة و هو دليل  الشكر و الحمد.

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

الله شاهد على كل شيء و على العقود و المبايعات، و البيعة المشار إليها هنا هى بيعة الرضوان ، حيث بايع المسلمون الرسول على الثبات و عدم الفرار ، "يد الله فوق أيديهم" لحملهم على الوفاء بالعهد و تعظيم الحدث و الكلمة.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)

إنه لعذر قبيح واه، إذا كان طلبهم من الرسول الاستغفار لهم بناء على توبة و ندم صادق لكان استغفار الرسول لهم نافعا، لكنهم يظهرون خلاف بواطنهم و يقولون ما ليس حقا. ألا يعلمون أن الله يعلم ما فى نفوسهم و قادر على عقابهم بما قدموه حينئذ لن ينفعهم شيء و لن ينجيهم استغفار من فى الأرض جميعا.

 بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

و استحكم فيهم ظن السوء، و سبب ذلك أمران: أنهم قوم بور هلكى لا خير فيهم  ، و الثانى ضعف إيمانهم و زعزعة يقينهم بنصر الله.

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

و صفة الله اللازمة هى أنه سبحانه لا يزال يغفر و يرحم و يتجاوز عن المخطئين و يقبل توبة التائبين، فينزل خيره المدرار آناء الليل و النهار.

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

إن المنافقين همهم الأكبر الدنيا و متاعها، و هى شغلهم و مبلغ علمهم، فقد أرادوا مخالفة أمر الله بعدم مشاركة المتخلفين فى الغنائم ، فهى حق لمن شارك فى الجهاد فقط، و كان رد المخلفين عجيب "بل تحسدوننا" على أى شيء يحسدونهم؟ على الخير الفائت عندما تقاعدوا عن المشاركة فى الجهاد و خسارتهم ثواب ذلك و شرف الخروج مع الرسول و الدفاع عن الدين؟ إن هذا لهو الجهل المبين.

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)

أمر الله الرسول أن يختبر توبتهم المزعومة و نيتهم فى الجهاد لاحقا، و أن يثبت عليهم عدم جديتهم أو ندمهم على ما فاتهم من الخروج فى سبيل الله.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ۗ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

ذكر الله الأسباب و الأعذار التى يعذر بها العبد عن الخروج للجهاد ، و هى الأسباب القاهرة التى تحول دون تحمل مشقة الجهاد بسبب المرض.

إن التولى يوم الزحف عقابه شديد حتى لقد جاء ذكر العذاب الذى ينتظر المتخلفين "العذاب الأليم" مرتين متتاليين فى آيتين متتابعتين 16و 17.

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

رضوان الله هو الغنيمة الكبرى و الجزاء الأعظم للإخلاص و الصدق، و قد أنعم الله بهذه النعمة على المبايعين للرسول فى بيعة الرضوان و كان نتيجة لذلك نزول السكينة و الطمأنينة عليهم و وعدهم بفتح قريب.و قد حدد المكان "تحت الشجرة" كى ترى أعيننا المؤمنين مجتمعين على الطاعة ، ونشعر بالراحة و الظل و الاحتواء و نسمع صوت الطيور ، حيث يشهد الكل – و الله فوقهم -  على البيعة فى جو عامر بالزرع و الخير الوفير.

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)

المغانم هى أولى تلك الوعود للمؤمنين جزاء ثباتهم و صبرهم، و هى المغانم الكثيرة، و هناك نعمة أخرى هى كف الشر و منع الأذى ، إنها نعمة مخفية قد لا يشعر بها الإنسان إذ أنها مرتبطة بعدم حدوث شيء، لكن الله سلم، لذلك من أفضال الدعاء أن يحدث ثلاث أمور أولها أن يجاب و ثانيها أن يصد الله بها شر و الثالث أن تؤجل للآخرة لينال أجرها.و الدعاء يرفع البلاء و يمنع حدوثه بفضل الله و كرمه. لذا فإن نعمة كف الشر و دفع البلاء نعمة لا تقل عن الزيادة و الغنيمة.

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)

ثم ذكرت الآيات حكمة الله فى كف القتال رغم استحقاق الكافرين قتالهم إذ صدوا المسلمين عن أداء العمرة و زيارة البيت  ظلما و عدوانا ، لكن المانع هو وجود رجال و نساء مسلمات بين أظهر المشركين يخفون إيمانهم حتى لا يصل إليهم أذى ، و السبب الآخر أنه ربما يدخل أحدهم فى الإيمان بعد ذلك.

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

السكينة:إنها الهدوء الذى يشبه هدوء ما قبل الفجر، و اشراق الضوء الجميل، جعلها الله فى قلوب المؤمنين مقابل الحمية و العصبية الباطلة فى قلوب الكافرين، و المؤمنون أحق بالتقوى و أهل للطاعة و الهداية.

و السكينة أنواع سكينة وقت الحرب للتثبيت و تحمل وقت العسرة، و سكينة وقت المعاهدة و سكينة عند الغضب و الخلاف لتمنع فورة الغضب من الإنطلاق و الحياد عن الحق.

و قد ذكر الله فضل السكينة فى مواقف كثيرة فى القرآن ، التوبة (40) وقت الهجرة عندما أنزل الله سكينته على رسوله و على أبى بكر كيلا يحزنوا او يخافوا فى الغار، فرفعت السكينة الحزن و ازالت الهم و القلق.

و فى سورة البقرة؛ قصة طالوت عندما أنزل الله التابوت آية ملكه فيه سكينة من الله ليتأكدوا من صدق كلامه و يذهب عنهم الشك و الضلال.

و فى وقت الحرب و الغزوات؛ سورة التوبة (26) انزل الله سكينته على الرسول و المؤمنين و انزل جنودا لم يروها تأييدا لنبيه و مبشرا بالنصر.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

ليس معنى تأخر الرؤيا أنها لن تتحقق ، و لا يشكك فى حدوثها و صدقها تأخر تأويلها، فالرؤيا صادقة لكن الزمان غير محدد، عام حدوثها أم العام الذى يليه، و قد تأخر تأويلها للعام اللاحق.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)           

محمد رسول الله شهادة حق من الله و هو خير الشاهدين ، أما صفات المؤمنين الأوائل و من معه فهى :

أشداء على الكفار رحماء بينهم : فمعاملتهم مع الكفار تتسم بالصلابة و القوة و الدفاع عن الحق، أما مع بعضهم فيعم التسامح و الرحمة و الإيثار، و هذا ذكاء فى التعامل حتى لا يطمع فيهم العدو أو يجد ثغرة ينفذ خلالها إليهم مستغلا سماحتهم و رحمتهم.

تراهم ركعا سجدا: يحافظون على الصلاة و النوافل و ذكر الله فى كل وقت.

يبتغون فضلا من الله و رضوانا : هدفهم رضا الله و ليس الرياء و التفاخر، و يخلصون فى أعمالهم و كسب أرزاقهم كما أمرهم الله.

سيماهم فى وجوههم من أثر السجود: و ليس شرطا أن تكون علامة الصلاة المعروفة فى الجبهة ، لكنه الضياء الذى يشع فى وجه المؤمن إيمانا ، لما استنارت بواطنهم بالصلاة استنارت بالجلال ظواهرهم.

و مثل هؤلاء يوجد فى التوراة و الإنجيل، كالزرع فى نفعهم للخلق و احتياج الناس إليهم، يعجب الزراع من استوائه و حسنه  و اعتداله كذلك الصحابة يغتاظ منهم الكفار حين يرون شدتهم و قوتهم و ثباتهم على الحق، وعد الله المؤمنين المخلصين منهم المغفرة و الأجر العظيم.

بدأت السورة بذكر البشرى و الجزاء و هى الفتح و المغفرة ،و انتهت بمثل جميل هو الزرع القوى المستوى على ساقه المعجب لمن يراه و المثمر خيرا و نماءا ،و وعد من الله بالمغفرة و الأجر العظيم.

إن صلح الحديبية يحمل معانى كبيرة فى علم التفاوض مع الأعداء، لقد سعى المرسال الذى أرسلته قريش إلى الوقوف على أشياء صغيرة ليعطل كتابة وثيقة العهد، لكن الرسول تجاوز عن بعض الأشياء الشكلية مقابل أهداف بعيدة هداه الله إليها، فقد وافق الرسول على كتابة "محمد بن عبد الله" بدلا من "محمد رسول الله" ، كما كتبوا "بسمك الله " بدلا من "بسم الله الرحمن الرحيم" فى بداية الوثيقة ، حتى لا يعطى فرصة لقريش أن تعود عن الاتفاق و تظل الأوضاع مضطربة و احتمالات الحرب قائمة.

كذلك اعترض المسلمون على شرط غير متكافئ أصرت عليه قريش و هو أن من جاء محمدا من قريش بدون موافقه وليه يعيده إليه ، أما من أتى قريشا من المسلمين بغير موافقة وليه فلا يعيدونه إلى محمد، و قد طلبت قريش نفسها تعديل هذا البند بعد فترة بسبب تعرض العالقين من المسلمين الذين أتوا محمدا بدون موافقه أولياء أمورهم بين المدينة و مكة فهم لا يريدون العودة لدار الشرك حيث الظلم و التعذيب، و لا يريدون العودة للكفر, فمكثوا يقطعون الطريق على قوافل قريش حتى ضجت بهذا و طلبت تعديل هذا البند ليسمح بعدم إرجاع من أتى محمدا من قريش بدون موافقه أوليائهم. و بهذا تحققت رغبة المسلمين بعد فترة و بطلب من قريش نفسها.

كانت أهمية هذا الصلح فى الاعتراف بشأن المسلمين و كيانهم ، و عدم التعرض إليهم فى مكانهم و إيقاف الحرب 10 سنوات ، و هى فترة كافية لكى يبنى المسلمون أنفسهم و يعززوا جيشهم، و السماح لهم بزيارة بيت الله الحرام فى العام القادم، و هى شروط تبدو مجحفة لم يرض عنها المسلمون أول الأمر ، لكنهم استجابوا للرسول و تراجعوا عن العمرة فى عامهم هذا، مقابل مكاسب أخرى نالها المسلمون.

أيها الغصبان كفى صراخا

أما رأيت السكينة نعمة الرحماء

و هى العطية من رب السماء

ذر الحمية هى شيمة الجهلاء

ليست دليل القوة إنها شر البلاء

و هى الضلالة و غياب العقل

وسبيل الذل و خسارة الأشياء

 

الأحد، 3 يناير 2016

أنا و ذواتى

فى العصور الماضية كان سماع الأصوات التى تتحدث داخل رأس الشخص يعنى أنه مجنون ،لكن علماء النفس اكتشفوا أن وجود الأصوات الداخلية أمر عادى و صحى ،فكل منا يتحدث مع نفسه فى صورة تعليقات ذهنية على كل ما يحدث فى حياته و ذلك فى أى وقت من اليوم.

بدأت الدراسات النفسية تركز على هذه الأصوات التى تتحدث داخل أذهاننا و طوروا أساليب إجراء حوارات تخلق تناغما داخليا بين الشخص و أصواته الداخلية من خلال تشجيع جزء من العقل فى حل الصراعات التى تنشأ بين الأفكار المختلفة داخل الرأس.

و يعتبر استخدم المرآة أحد الوسائل المؤثرة على فهم أكبر للنفس ،كما أن النظر مباشرة فى المرآة و التحديق فى العينين اعتراف إيجابى بالنفس و وسيلة سريعة لإنشاء صداقة مع النفس و اكتشاف الشخصيات العديدة المختبئة فيها.

استمعى إلى أصوات ذواتك الداخلية:

اجلسى بهدوء و أغلقى عينيك حتى تتمكنى من التركيز و الاستماع لما بداخلك ،ربما تسمعين أصواتا عديدة تصدر تعليقات فى نفس الوقت داخل ذهنك..مثل "اريد الحصول على الوظيفة الجديدة"، "أحتاج للتغيير" أو أصوات سلبية تعكس الخوف و القلق، حاولى الاستماع إليها و الإجابة على كل التعليقات مما يخفف الضيق و التوتر.

حاولى التعرف على جوانب شخصيتك ، بعدها ستبدأ الأصوات الداخلية فى التميز و إظهار سماتك الشخصية فمثلا امرأة ناضجة تقول "أريد انجاز بعض الأعمال" أو طفلة تقول "أريد أن ألعب" و كل هذه الأصوات تعكس صفات متباينة : حالمة – عملية – برجماتية ...، و عندما تتمكنين من التمييز بين كل صوت أطلقى عليه اسما معينا دالا عليه ،و امنحيه فرصة للحديث و استمعى لوجهة نظر كل منهم، إن إدراك ما تقوله أصواتك الداخلية سوف يعطيكِ القدرة على معرفة و فهم مواهبك و أحلامك و أمنياتك و رغباتك.

و كلما تعثرتِ فى اتخاذ قرار أو واجهتى صعوبة فى ترجيح أحد قرارين، ناقشى مع ذواتك جميع نواحى الموقف الإيجابية و السلبية مما يساعدك على التخلص من الحيرة؛ فمثلا سوف تجدين فى ذواتك ما يمثل صوتا للعقل ، و آخر يمثل صوت القلب , و آخر يمثل صوت الطفل ..و هكذا تتحقق الموازنة فى التفكير فمثلا نسمع صوت الذات العملية تقول "هذه وظيفة ممتازة سوف أقبلها"، بينما يقول صوت الطفلة "لا أحب هذا المدير لا يبدو لطيفا"..و من خلال المناقشة يتم الوصول لقرار مناسب.

أهمية كتابة الأفكار:

إذا شعرتِ بالحيرة اكتبى ما يضايقك ، و اذا اختلفت ذواتك الداخلية حول موضوع ما من الصعب أن تتركى كلا منهم فى عزلة عن الآخر، اكتبى وجهات النظر التى تعبر عن ذواتك على ورقة بحيث يمكن تنظيمها و قراءتها بوضوح ، خصصى صفحة لكل ذات أو وجهة نظر و اكتبى رأيها حول المشكلة بإيجاز و بالتالى تتضح جوانب كثيرة لها مما يساعد على حلها.

و فى النهاية حاولى الوصول إلى حل يرضاه جميع الأطراف و تقبله جميع الذوات داخلك، مما يجعلك تنجحين فى تجنب الشعور بالحيرة و الاضطراب أو التشويش النفسى و الفكرى.

ضعى نظاما يوميا للحديث الذاتى:

اجعلى موعدين للحديث مع النفس مرة فى الصباح و أخرى فى المساء...

فى الصباح: اتفقى مع نفسك أن يكون يومك مرحا مبهجا ، و ان تنجزى أشياء محددة و كافئى نفسك لأدائها الطيب و إتقانها ، أو امنحى نفسك راحة و استجمام ثم تمنى لنفسك يوما سعيدا.

فى المساء: استرجعى أحداث يومك شيئا فشيئا ، امدحى نفسك و اشكريها على ما انجزته خلال اليوم و أشعريها بالتقدير، إذا واجهتكِ مشكلة خلال يومك فكرى فيها لبعض الوقت ، و ابحثى مع نفسك كيفية تصحيح الوضع دون توجيه النقد لنفسك ، و عند الانتهاء من استرجاع الأحداث اليومية أغلقى بابا ذهنيا على أحداث هذا اليوم ، و لا تسمحى لنفسك أن تفكرى فيه مرة أخرى طوال الفترة المتبقية من المساء.

إن طريقة التخطيط كل صباح  و استرجاع الأحداث اليومية كل مساء تضمن حسن معالجة للأمور دون اسراف فى تعذيب النفس بالندم و اللوم ،كما تحقق استفادة اكبر من وقت و امكانيات الشخص خلال يومه،  و تساعد على اتخاذ قرارات صائبة فربما كان سبب كثير من المشاكل فى عدم إعطاء النفس الوقت الكافى للتفكير بشكل عميق و دقيق قبل اتخاذ القرار أو التسرع بطلب النصح من الآخرين.

و ينمى هذا النظام الثقة بالنفس و قدرتها على مواجهة الأمور و تحفيزها بالتشجيع و الإطراء ، بعكس التحفيز من خلال القهر و ممارسة الضغط سينتهى بالعجز التام أو التسويف و التأجيل ،و لكى يتم التحفيز الإيجابى طويل المدى للنفس لابد من تحقيق المعادلة :

الاحتفال بالفوز+الشعور بالتقدير = التحفيز

فالاحتفال بالنجاحات السابقة و تقدير النفس على ما انجزته سيشعرها أنها مدفوعة لتحقيق انجازات أكبر، و لن توقفها أى صعوبات أو صراعات عن تحقيق مزيد من النجاح و الشعور ببهجته و روعته. كونى مديرة نفسك، انتِ مسئولة عن نفسك و لديك حرية الاختيار فأى مدير تختارين ؟ المدير السيئ أم المدير الحسن الذى يعامل المرؤسين بلطف و تفهم و كرم و يصحح أخطاءهم بهدوء؟ اذا اخترتى المدير الحسن ستنجزين أعمالك بسعادة و تشعرين بالحماس و يملؤك الفخر و التقدير، فكثير من الناس يعرفون كيف يقدرون الآخرين لكنهم يشعرون بالإحراج من مدح أنفسهم و تقديرها ، و هذا خطأ لان تقدير الذات يخلق الدافع القوى للنجاح و التطوير.

كيفية التعامل مع مدير سيء حقيقى

إذا وجدتِ نفسك تتعاملين مع شخص يملى أوامره طوال الوقت و يحدد لكِ ما ينبغى القيام به،و يُسمعك تعليقات فظة على كل خطأ يصدر منكِ، و يعتبر نفسه مديرا لحياتك و موجها لمسارك ، اطردى هذا الشخص ذهنيا من حياتك، إنها حياتك أنتِ و لك وحدك حق اختيار الطريق، تذكرى ما حققتيه من انجازات و أعمال دون مساعدته و اعتمدى على نفسك، تحملى مسئولية نفسك و استعينى بالكتب و البرامج للحصول على المعلومات المتوفرة فى كل مكان..تمردى على القيود التى تكبلك و تعيق حركتك فى خطتك التى رسمتيها، اشعلى حماسك و استخدمى معلوماتك بحكمة و اختارى ما يناسبك و يساعدك على بلوغ هدفك.

و يتطلب ذلك منكِ قدرا من المهارات الاجتماعية و الذكاء الانفعالى فى التعامل مع الآخرين لكى نكسب مساعدتهم و تأييدهم لنا ، و لكيلا يتسرب إليها خلال حديثنا معهم انفعالات غير مناسبة أو ملل من الحديث، بل لابد أن تسود روح التعاون و الألفة و الشعور بالارتياح من خلال فن التواصل مع الآخرين.

كلما تعرفتِ على نفسك  كلها أكثر كلما أصبحتِ أقدر على اتخاذ قرارات تتوافق مع حياتك و شخصيتك، و إذا تعلمتِ كيف تحفزين نفسك و تحمسيها للعمل و تعيدى شحن طاقتك النفسية سوف تستطيعين الحفاظ على روحك المعنوية عالية و تحقيق أهدافك و الحياة بسعادة و هدوء ،و لن يتسرب الإحباط و الفشل إلى حياتك.

السبت، 21 نوفمبر 2015

فلسفة الشحاذة


الشحاذة عمل مهين فهو استجداء للناس إن شاءوا أعطوا للشحاذ و إن شاءوا نهروه و أشاحوا بوجههم عنه ،و مع ذلك نجد من يستهويه السؤال و يستعذب هذا العطاء السهل المتنوع و يجد من المبررات ما يهون عليه هذا الذل ،بل و يجعله شاعرا بالزهو و الانتصار و النجاح فى نهاية يوم ملئ بالهبات و الصدقات – على الرغم من كونها تعافها النفس- لكنه يرى أنه نجح فى مهمته و هو ضبط ميزان الحياة و الاخذ من الغنى للفقير كمن يعيد توزيع الثروات ليحقق العدل المنشود ، فهو مقابل ما يأخذ من الناس يكون سببا فى الثواب لهم و المغفرة لذنوبهم التى تؤرقهم و تدمى ضمائرهم ،فهم سبب فى راحة نفسية عظيمة لمن يشحذون منهم ، و بالتالى يستحقون الشكر و التقدير لدورهم العظيم!

قالت الشحاذة لابنتها  التى تحاول أن تفهم منها لماذا يمتهنون الشحاذة و يتحملون ذل السؤال (مقتبس من قصة أساطير نوبية):

"إنك يا ابنتى تعطين أكثر مما تأخذين؛ فالناس فى حياتهم اليومية يضطرون إلى إيذاء الغير و سرقتهم و العبث بعقولهم ثم تتعذب ضمائرهم و يحتاجون لإراحتها بعمل الخير ،و لن يكون هذا الخير هو رد المسروقات إلى أهلها و لا رد الأذى عن من آذوهم؛ فقد تم الإيذاء و أنفقت المسروقات، و لم يعد إلا أن بعض ما ترضى عنه السماء مثل العطف على الفقراء و مساعدة المحتاجين،  و نحن نذهب إلى الناس فى مزارعهم و بيوتهم فى أوقات مختلفة، و ندعو لهم و نسمعهم ما يجعلهم يقدمون الخير ، فنحن نحول التضحية بالمال إلى أغنية عذبة فى الشفاه، ونقوم بعمل تربوى و تعليمى للناس و نزرع فيهم حب البذل و الخير و المثل الرفيعة .. و هل يصنع المصلحون و الأنبياء أعظم من هذا؟"
"إن المسألة مسألة اقتناع – اقتنعى بعملك و أحبيه يصبح سهلا و عظيما ، ألا تجدين المعلم و شيخ المسجد يعيدان الموعظة و الدرس عشرات المرات و بنفس الحماس لسبب بسيط هو اقتناعهم بعملهم؟"

و لا تشمل هذه الفلسفة كون الشحاذ عاطلا عن الكسب و لا يقدم شيئا ماديا يفيد المجتمع ،و لا يستغل صحته و ساعديه فى الزراعة أو العمل النافع الذى يعود عليه بالمال الوفير و على المجتمع بالخير و النماء. فحفظ ماء الوجه من اسباب سعادة الانسان و احترامه لنفسه و امتلاكه لحريته و القدرة على تحقيق ما يريد و تطوير نفسه.

اليد العليا خير من اليد السفلى اى ان اليد التى تعطى أحب إلى الله من اليد الآخذة

« الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ »(1).

و فى الحديث الشريف نهى عن السؤال و دعوة لأى عمل شريف مهما كان ضئيلا خير من السؤال و ذله: "لأن يحتطب أحدكم خير له أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"

فالإنسان الحر بفطرته يأبى أن يسأل الآخرين فهو ليس أقل منهم و لن تتوقف حياته على قرار الآخرين بمنعه أو إعطاءه كما أنه لا يتحمل نظرة المن و التكبر التى قد تصدر ممن يعطونه شيئا. إلا البائس العاجز الذى تقطعت به سبل الحياة فهو لا يشعر إلا بالجوع و البرد فقط و المشاعر تعتبر رفاهية بجانب احتياجاته الإنسانية الأساسية الأخرى ؛لذلك يلح و يلح فى السؤال و قد يجلس فى صمت و استسلام حتى يعطف عليه المارة. هذه هى الحالة الوحيدة التى يجوز فيها السؤال حتى تزول أسباب العجز و يستطيع الانسان الاعتماد على نفسه مرة أخرى.

و المجتمع مسئول عن انتشار الشحاذة ، فلولا التعطل و البطالة و نهب الأموال و انتشار الظلم لما عجز الناس عن كسب قوت يومهم و انتهى بهم الأمر فى رحلة البحث عن عمل إلى التسول أو الجنون و التسكع فى الشوارع ،لو ان هناك جمعيات خيرية تحدد بدقة العائلات التى لا تجد من يعولها أو فقد عائلها عمله و عجز عن الإنفاق فتوزع عليها من الصدقات و هبات الأغنياء لقلت الفجوة فى المجتمع و كفى ذلك الفقير شر السؤال.

و الأفضل هو إمداد تلك الأسر بما يدر عليها دخلا بسيطا مثل ماكينات الخياطة أو تربية ماشية أو ما شابه ذلك حسب احتياج المجتمعات التى يعيشون فيها .فهذا يضمن لهم نفوسا كريمة و شغلا نافعا لأوقاتهم. و من زاوية التخطيط بعيد المدى فقد تكون هذه المشاريع الصغيرة نواة لمشاريع اكبر تسهم فى تطوير المجتمع و توفير فرص عمل و جودة و منافسة فى المنتجات.

الحلول الاسلامية بسيطة لكن لابد من التكاتف و التعاون على مستوى الأسر و الأقارب الجيران أولا فهم الأقرب ،ثم على مستوى الحكومة و الجمعيات الخيرية حيث لديهم الموارد و إمكانية عمل تخطيط شامل.

الجمعة، 26 سبتمبر 2014

من يستحق الشفقة؟


القلب الطيب نعمة من الله ، و رقة القلوب فضل و رحمة، ألم يذم الله اليهود بقوله "ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة"     بل أن الحجارة أفضل فقد تتشقق و يخرج منها الماء و قد تهبط من خشية الله.

إنما قلب القاسى الجحود قلب لا يلين يعيش بمعزل عن الآخرين و ينأى بنفسه عنهم و يعلو على الجميع استكبار و علوا، و خروج الماء من الصخر المتشقق مثل ما ينطلق فى قلوبنا من الرحمة و تندفع دماء العطف و التأثر حتى لتكاد تطفر الدموع عندما نرحم من هم فى ظروف سيئة أو من يعانى ألما و عجزا و لا نستطيع دفع  الألم عنهم.

بطل قصة "حذار من الشفقة" هو شاب يعمل ضابطا لكنه يحمل الكثير من الشفقة فى قلبه يتعرف على اسرة ارستقراطية نبيلة و تبدأ من هنا معاناته....

لكنه ليس وحده البطل الذى يحملنا على التعاطف معه بل هناك أب مكلوم و فتاة عاجزة و طبيب إنسان

الأب صنع ثروته من كل الطرق المشروعة و غير المشروعة حتى قذفه الحظ فى فرصة ذهبية رفعته بسرعة إلى علية القوم، و لولا أن فى قلبه ضمير مستيقظ و احساس دفين بالآخرين لما فاز بحياة هادئة مستقرة و زوجة رائعة مخلصة مستكينة.لكن السعادة لا تدوم فقد اختطف المرض زوجته و لم تنفعه ملايينه فى ابقائها على الحياة ،فعاشت ابنته محرومة من حنان الام ،فأسبغ عليها من كل وسائل الترفيه و السعادة لكن السعادة لا تكتمل ،فقد وقعت من ظهر الجواد و فقدت القدرة على الحركة لتعيش اسيرة العجز الجسدى و النفسى.

و استعان بطبيب فضله على كل الاطباء الذين عرضها عليهم لما لمسه فيه من انسانية ، و هل هناك دليل على انسانيته أكبر من زواجه من امرأة عمياء فقدت بصرها و قد طمأنها ذات يوم أنها ستشفى لكن الامور ليست تسير وفق ما يشتهى الانسان، و لما فقدت بصرها تزوجها كى يخفف عنها، و يخفف عن نفسه وطأة الاحساس بالذنب إذ جعلها تتعلق بأمل واه.

و كان لهذا الطبيب المعالج للفتاة فلسفته فى قابلية المريض للشفاء، لم يكن يؤمن بالشيء التقليدى أو العلاج الحالى بل كان يسعى نحو الحالات التى لم يجد معها علاج و يجتهد للبحث عن طرق جديدة للشفاء، فالطبيب الذى يكتب أدوية تقليدية و يعالج بطريقة تقليدية مثل الكاتب الذى يكتب الكلام المعاد و لا يبتكر أفكارا خفية أو ساد الاعتقاد بأنها لا يمكن تناولها، فالحقيقة أنه لا يوجد مرض غير قابل للشفاء (سوى الهرم) بل هو مرض لم يُعرف دواؤه بعد.

نعود للشاب الشخصية المحورية و التى تأتى القصة على لسانه عن طريق سرده للأحداث التى عاشها فى القصة ، هذا الشاب يسوقه القدر إلى قبول دعوة صاحب القصر و أبو الفتاة الكسيحة و التعرف عليهم عن قرب ،و تكررت الزيارات ربما بدون سبب ظاهر لكن كل من الضيف و المضيف أحب تلك الزيارة اليومية و ألفها و تعلق بها و استعد لها.

سحر الشفقة

كان ضباب الفجر ما زال يغطى المبانى و الحقول، و فيما نحن نركض بجيادنا بأقصى سرعة و نسيم البكور يحمل إلى أنفاسنا عطر الحقول المزدهرة فنعب منها جرعات تملأ صدورنا انتعاشا و حبورا ، و دماء الشباب الدافقة تتدفق فى أجسامنا النابضة بالحياة لاحت لى من بعيد أسوار القصر و قبابه العالية ، و للفور طعن قلبى إحساس مباغت بالرثاء للفتاة الكسيحة المحرومة من نعمة الصحة و الحرية ، خيل إلى أنه قد يجرح شعورها أن ترانى هكذا منطلقا كالسهم المارق أو الطائر السعيد و شعرت بالخجل من سعادتى الجسمانية كما يخجل المرء من امتياز لا يستحقه، لكن ذهنى تصدى لعاطفتى بالحجة المقنعة و المنطق السليم فلم ألبث أن تبينت سخافة إذلال النفس على هذه الصورة.

أدركت أنه لا جدوى من أن ينكر الإنسان على نفسه متعة ما لا لشيء إلا لأنه محروم منها، و يأبى على نفسه السعادة لأن غيره شقى، ففى الوقت الذى نضحك فيه و نتبادل النكات يوجد أناس آخرون فى أماكن مختلفة من العالم راقدين على فراش الموت و آخرون خلف الف نافذة و نافذة يعانون البؤس، و لن يخفف من شقاء إنسان واحد أن يٌشقى إنسان نفسه بنفسه بغير مبرر.لو حاول شخص أن يفكر فى مآسى الغير و يصور لنفسه صنوف البؤس الذى تنطوى عليه الدنيا لاستعصى عليه النوم و ماتت البسمات على شفتيه للأبد.

كانت البداية اشفاق على الفتاة من الوحدة و تخفيفا عن شعورها بالعجز، إذ أن جهله بمرضها أحرجها يوما فى بداية تعرفه بها لكنه مالبت أن عوضها بالزيارات المتكررة و التسرية عنها، حتى اليوم الذى تلقى فيه سخرية من أصدقائه و تهكما على تكرار زياراته لتلك العائلة الثرية متهمين اياه بالطمع و الرغبة فى عيشة رغدة و الاستفادة من كرمهم و ترحيبهم البالغ.  عندئذ أعاد النظر و التأمل لكن شفقته غالبته و انتصرت فعاد لعادته الجديدة فى الذهاب اليهم كل يوم.

لم يستطع الانقطاع عنهم لم يدعه قلبه يفعل ، فهل إذا قرر الانسان فى قرار انفعالى أن يقطع نهر شفقته بالآخرين يكون ذلك سهلا عليه؟ بالطبع لا فبالرغم من الراحة المؤقتة و التخفف من المسئولية : ان العطف الصادق لا يمكن قطع تياره بالسهولة  التى ينقطع بها التيار الكهربائى، فإن كل من يشغل نفسه بمصير إنسان غيره فلابد أن يفقد إلى حد ما حريته.

لاحظ الجميع مدى سعادة الفتاة بوجود الشاب فازدادوا به ترحيبا و تضاعفت الحفاوة ، و علت مكانته و الثقة به و مضى الشاب فى حياته يوما بعد يوم تتوثق صلته بالفتاة و ابيها و يزداد منهم قربا و ألفة، حتى ذلك اليوم الذى فوجئ الشاب بوالدها يأتى اليه فى مقر عمله راجيا و مستعطفا...

طلب صغير

لم يستنكف أبوها الشيخ العجوز أن يتضرع و يتوسل إلى الشاب أن يعرف من الطبيب بشكل غير مباشر حقيقة مرض ابنته و احتمال فرصتها فى الشفاء، و اعتبرها مهمة عظمى تستحق الشكر و العرفان.           

لكن لسوء الحظ دفعت شدة الشفقة الشاب لأن يقول –بدون أن يقصد تضليلهم – لابى الفتاة أن هناك أمل كبير فى علاج ابنته و أن حالة مشابهة لها قد شفيت.

و هرع الطبيب اليه بعد ما اكتشف ذلك و خطورته من حيث اعطاء أمل كاذب ثم صدمة الفتاة من عدم تحققه، صدمة قد تدفعه للتخلص من حياته فى أسوأ الأمور.

عواقب الشفقة

إن الشفقة سلاح ذو حدين ، و كل من لا يتقن استعماله يجب أن يكف يديه ، و قبل كل شيء قلبه عن لمسه

فى البداية فقط تكون الشفقة كالمورفين مسكن، يخفف آلام المريض و لكن ما لم تعرف بالضبط مقدار الجرعة التى تعطيها إياه منه و متى تكف عن إعطائه فإن المسكن ينقلب سما قاتلا ، و كما يدمن الجهاز العصبى المورفين فيظل يصرخ فى طلب المزيد منها يوما بعد يوم، حتى تطلب أكثر، كذلك تدمن النفس الشفقة فتصرخ فى طلب المزيد. فى النهاية أكثر مما يمكن للإنسان أن يحتمل، و حين تأتى هذه اللحظة ينبغى للمرء أن يتوقع من المريض مقتا و كراهية يفوقان كل ما كان يناله منهما لو لم يمد لمريضه يد المساعدة من البداية.

يجب أن يزن الشخص شفقته بالقسطاس و إلا أحدثت من الضرر أضعاف من كان يحدثه عدم المبالاة فلو أطلق الجميع العنان لشفقتهم لانقلب نظام الكون.

إن العبرة بالنتائج و ليست الدوافع فما جدوى أن تكون الدوافع نبيلة و النتائج سيئة ؟

 

أفكار شريرة: شفقة أم عبودية؟

بينما كان الشاب يتردد بين الاقبال على الفتاة بدافع الاشفاق أو الهروب منها و أسرتها ليعود لسابق عهده من الحرية و الانطلاق استعصى عليه النوم يوما فقرر الاستعانة بقراءة أحد الكتب القديمة التى يشتريها و تتنقل معه من مكان لآخر دون أن يقرأها ، و اختار كتاب الف ليلة و ليلة لسذاجة قصصه و بالتالى لها تأثير منوم أكثر مما سواها، و لأن القارئ بطبيعته ينتقى ما يريد قراءته تبعا لحالته النفسية و اهتماماته و ما يشغل باله فقد وقع اختياره على قصة الشيخ الأعرج ..

قصة الرجل الأعرج:

يحكى أن هناك كان يوجد شيخ أعرج بائس فى عارضة الطريق صادفه شاب قوى فناشده الأعرج أن يحمله على كتفه لأنه كسيح لا يستطيع أن يسير على قدميه ، و أخذت الشفقة ذلك الشاب فحمله على كتفه و مضى، و سرعان ما تبين له أن العاجز المسكين ليس سوى جنى شرير لا يكاد يستقر فوق كتف حامله حتى يعقد ساقيه حول رقبته فيسلبه إرادته و يجعل منه عبدا خاضعا له يحمله إلى كل مكان يقصده، و لا يكون له الحق فى ساعة واحدة من الراحة و هكذا غدى الشاب الأحمق ضحية تعسة لشفقته ، و يكون قدره أن يحمل سيده الماكر الشرير على ظهره للأبد..

كان لهذه القصة أثرا سلبياعلى الشاب إذ ربط بين هذا الجنى الشرير ووالد الفتاة الذى يريد أن يربطه بتلك الفتاة الكسيحة إلى الأبد و خشى على حريته و حياته، فتزعزت رغبته فى الاستمرار فى دوره كمنقذ للفتاة و بطل أمام أسرتها و أمام نفسه، ساهم فى ذلك ما سمعه من تهكم زملائه الطامعين فى ما ينتظره من عز و جاه محاولين اثنائه عن المضى فى طريقه .

لحظة اختبار

قال لها الشاب عندما سألته عن سبب زيارته اليومية لهم، لا تبحثى عن دوافع خفية وراء ذلك فأنا لا أفكر فى دوافعى الخاصة و لا استطيع أن أعطيكى سببا لمجيئى إلى هنا يوما بعد يوم سوى أن ذلك يروقنى ...أحيانا أتساءل متعجبا كيف لا تضايقك زياراتى بل كثيرا ما ينتابنى خوف من أن تكونى مللتى عشرتى، لكن لا ألبث أن أذكر نفسى بأنك وحيدة هذا البيت الكبير الفارغ و أنه يمتعك أن تجدى شخصا يأتى لزيارتك ، و هذا ما يمدنى دائما بالشجاعة حيث أقول لنفسى أنى أحسن صنعا بالمجئ بدلا من تركك تقضين اليوم كله وحدك.. عند هذا الحد عرفت الفتاة باحساسها المرهف أن شعوره نحوها شفقة فقط و كانت نتيجة الاختبار ألم شديد لها.

خطابات متناقضة

ما بين مد و جزر أرسلت الفتاة اليه خطابا يشرح حالتها و مكنون نفسها، كم كان خطابا بليغا ترجوه بمذلة ألا يعرض عنها أو يهجر زيارتهم ، قالت له " أستحلفك ألا تخشانى أو تنفر منى ، أرجو أن تذكر أنى سجينة عليها أن تنتظر فى سجنها حتى تأتى إليها و تتفضل عليها بساعة من وقتك و تسمح لها بأن تنظر إليك و تسمع صوتك و تعلم أن إنك تتنفس الهواء الذى تتنفسه ، هل تستكثر على كائن بشرى أن تمنحه هذه الجرعة التعسة من السعادة التى يمنحها الانسان راضيا لاى كلب ؛ سعادة النظر بين حين و حين فى صمت و مذلة إلى سيده"

"إنك لا تتصور إلى أى مدى أخاف أن أفقدك فمنذ اللحظة التى تغلق فيها الباب خلفك ، و أنا أكون فى فزع مروع من أن تكون تلك آخر مرة أراك فيها"

حمل الشاب الخطاب فى سترته و مضى لحضور دعوة من أحد زملائه لكنه كان فى واد آخر جلس صامتا بين زملائه يتحسس خلسه بين حين و حين شيئا ينبض تحت سترته كقلب ثان لم يستطع إلا أن يفكر فى غير الخطاب الراقد فوق قلبه و الصرخة اليائسة التى أطلقتها كاتبته.

من فرط انفعاله تداخلت الاصوات بين ما يقوله الداعى فى الحفل و بين مقاطع من صوتها فى الرسالة و هكذا انسلخ الشاب من المكان و عاد لبيته، حيث وجد الخطاب على المنضدة كيف هذا و هو فى جيب سترته لم يخلعها بعد هل هو نائم يحلم أم أنه فقد وعيه و لما عثر على الخطاب فى جيبه علم أنه خطاب جديد أرسلته الفتاة بعد الاول بساعتين...كانت تطلب منه تمزيق الخطاب الاول و نسيان كل كلمة فيه

لكنه لم يستطع..كيف لا يفكر فيه و هو لا يستطيع أن يفكر إلا فيه؟

رقة حالمة

عادت الفتاة و اعتذرت كما اعتادت على ان تتحدث بعصبية ثم تعود و تطلب السماح ، و لما عاد الشاب لزيارتهم و عندما هم بالانصراف ربت على ذراعها فى حنو و عطف ، ثم انتبه فإذا بها تجذب يده إلى موضع قلبها ثم تطبق عليها بيدها الأخرى  و تعتصرها بين يديها فى حياء رقيق، ثم غاصت فى مقعدها و أغمضت عينيها كمن يحلم بشيء بينما اشرق وجهها بابتسامة من ينعم بسكينة نفس، و لكن الشاب شيئا فشيئا بدأ جمود يده يثقل عليه! فبدأ يحرك عضلات يده فى حذر كى يستردها من قبضة الفتاة اللينة فى رفق و لباقة ، لكنها سرعان ما أدركت بحساسيتها المرهفة الحادة أنه على وشك سحب يده فأخلت سبيله، و زال عن بشرته دفء الملمس الناعم ، و لما استرد يده المهجورة مرتبكا غام وجه الفتاة و بدا عليها الانفعال المكتوم. و تأكدت المسكينة بسحب يده أنه تنصل منها و أن مشاعره تجاهها هى شفقة حائرة.

اللقاء الأخير

 عندما جاء الشاب لوداعها قبل سفرها للعلاج وجدها ترتدى ثوبا من الحرير الأزرق و تضع على رأسها بعض الأزهار ، وعدته بأن تناضل من أجل الشفاء كى تكون جديرة يه، كانت واثقة من رفق الله بها ، كانت تعتقد أن الانسان حين يريد شيئا باستماته و الحاح فإن الله لا يضن بها عليه.

لكن الأحزان تلاحق الفتاة، فبينما جاءت لحظة الوداع الأخيرة أقبلت فى اتجاه الشاب تترنح على ساقيها دون سند من عكازيها مستعينة  على حفظ توازنها بحركات ذراعيها، و بينما هى على بعد خطوة  أو خطوتين منها فاضت بها لهفتها على احتضانه فمدت ذراعيها نحوه قبل الأوان و اختل توازها و سقطت عند قدمه..

تخاذل و خسران

كان الشاب بلا عزيمة صادقة حتى هذه اللحظة ، حيث أنكر أمام زملائه و قائده ارتباطه بالفتاة خشية أن يتهم بالطمع و أنه يبيع نفسه من أجل المال ، فكذب أسوأ و أقسى كذبة فى حياته إذ أنكر خطبته للفتاة و اختلق الأكاذيب كى يهرب من عيون من حوله و ينجو من المساءلة.. و لأنه متردد غير صادق العزم فقد عاد فى تفكيره لكن بعد فوات الأوان...

نفذت الفتاة تهديدها وتخلصت من حياتها بعد ما علمت أنه خذلها و خيب أملها فلم تتحمل الصدمة.

خسر الشاب بسبب خوفه من الناس و أقاويلهم أصدق حب فى حياته و حمل الشعور بالذنب ما تبقى من عمره، و بالرغم من سعيه نحو الموت مرات من خلال عمله كضابط إلا أن القدر حال دون ذلك ، عاش وحيدا مهزوم النفس، اكتشف أن ليس الانسان السليم الفرح السعيد هو الذى ينبغى أن نحبه فمثله لا يحتاج إلى حبنا ، إنه فى غطرسته و عدم مبالاته يتقبل منا هذا الحب على أنه واجب علينا، نؤديه إليه صاغرين، و حبنا لهم يكون بمثابة الزخرف و الزينة و ليس نعمة الحياة كلها و سر وجودها.

و لا يستحق الحب و ينتفع به غير الذين قست عليهم الحياة فأذلتهم و حرمتهم نعمة الحواس أو الجمال أو الاطمئنان..هم وحدهم الذين يعرفون كيف يحبون و يتلقون الحب فى تواضع و امتنان.

حقا أن هذا الشاب هو الذى يستحق الشفقة بعد ما فقد حبا مخلصا ،كان لا يعلم إلى أين يذهب عندما يعود من المعركة؟ من بقى فى حاجة إليه؟ من الذى  يحبه ؟ لماذا و من أجل من يعيش ...؟

من قصة "حذار من الشفقة - ستيفان زفايج"