الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

القرار الأخير



عندما تضيق السبل بالطفل الصغير فلا يجد فى والده سوى الجلاد بدلا من ان يجده الشخص الذى يدافع عنه يفقد الطفل صوابه و تذهب جميع المعايير و القيم التى تربى عليها مقابل الهروب من القسوة و السجن المسمى حماية الابناء و مستقبلهم.
السعى وراء الكمال هو عين السراب فللإنسان الحق فى الخطأ ؛الحق فى التجربة و اكتشاف الحقائق بنفسه و ليس بما يمليه عليه الآخرون ؛أما ما يقوم به الآباء شديدو الحرص و التزمت مع أبنائهم من إجبارهم على اتجاه معين و عقابهم بشدة إن حادوا عنه أو لم يتمكنوا من تحقيق ما كانت تصبو إليه نفوسهم فهذا من أنواع الظلم الممقوت.
إنه الظلم الذى يرتدى قناع الشرعية فمن باب تأديب الابناء يعرضهم لعذاب جسدى و نفسى ،إنها نفوس مريضة فالأبناء ليسوا ملكا لآبائهم و هم كأى شخص آخر محمى من الاعتداء و لا يحق لأى احد أن يتطاول عليهم بالضرب بحجة التأديب و إلا فقدوا آدميتهم و حطموا احترامهم لنفسهم و اصبحوا مسخا لكائنات بشرية يحركها الخوف و يدفعها الآخرون لفعل الشيء أو تركه ،فيعانون من اضطرابات و اهتزازات نفسية تعوقهم عن التمتع بالحياة أو الانجاز بها فأقصى ما تتمناه نفوسهم هو النجاة من العقاب حتى لو بالكذب أو الهروب أو سائر الصفات الذميمة ،و هذا ليس الحل لبناء شخصية خلاقة ناجحة.
فى قصة "القرار الأخير" لنجيب محفوظ نجد شخصا فظ غليظ القلب على وجهه ملامح القسوة و فى يده أدوات الضرب يلوح بها لأبنائه ليل نهار و لزوجته المسكينة التى لا يغفر لها هفواتها المنزلية  و لا يقدر وهنها الإنسانى ،فيلهب الجميع بصوته الاجش و ثورته الجامحة لأقل شيء.
و لم تفلح محاولات الجيران لإنقاذ أولاده من دوامة العقاب اليومية على أتفه الأشياء حتى الاشياء التى يتدخل فيها القدر فيتأخر ترتيب الولد عن الاول لأى سبب فيكون مصيره الجلد..حتى البنت لم تسلم من تلك العقوبة غير المناسبة لرقتها و ضعفها كأنثى.           
ماذا يكون مصير هذا الرجل ؟لقد أنفذ غضبه و أمضاه فيمن أراد لهم القدر أن يكونوا تحت سطوته و لم يملكوا المقدرة على الفرار ،لكن الجزاء ينتظره غالبا ما يكون من جنس العمل ،فما جزاء انفجار الغضب اليومى و انطلاق السنته فى وجه من حوله سوى انفجار داخلى أيضا  فى نفسه   المريضة بداء القسوة و السعى المحموم وراء الكمال اللانهائى.. لقد مات بانفجار فى المخ.
لكن ملابسات موته غاضبة فقد شابها تهمة القتل ...
إذا كانت الزوجة قد ترضى بالعيش مع مثل هذا الرجل الفظ القاسى الشديد و تصبر نفسها تارة بأنه قدرها و أنه النصيب و أن البديل هو الأسوأ لها ،و تارة بأنه بذلك يحمى أولادها و بيتها من الانحراف و يحسن السيطرة على أبنائه و تتناسى ما ينالها من لهيب غضبه خشية أن تعيش وحيدة أو ذليلة للآخرين ،فإن الأبناء لديهم رأى آخر ..
الابن الاكبر خرج من البيت و لم يعد ،خرج بلا عتاد من شهادة أو مال خرج هاربا من الجحيم للمجهول ليس أملا فى مستقبل أفضل أو لهدف محدد لكن هروبا من ماض أسود لا يستطيع أن يستمر فيه ،فاستخدم حقه كرجل فى اتخاذ القرار بالاستغناء عن مثل هذا الأب و عن كل ما يحتاجه منه كابن لم يعتمد على نفسه بعد فى العيش و كسب المال مقابل الحصول على حريته و الاحتفاظ بكرامته.
و الابنة قفزت فى بئر المجهول بزواجها بشكل غير متكافئ من رجل كبير فى السن لا يوجد ما يحملها على قبوله سوى الهروب من لعنة الأب القاسى.
أما الولد الأصغر فقد شاهد كل هذا بحس الابن العطوف على أمه الذى يستفيد بتجارب إخوته الأكبر فى كيفية التعامل مع قنبلة البيت الأب الشغوف بالعنف و القسوة ،و لذلك قرر الدفاع عن نفسه و عدم الانتظار ليكون مصيره مثل مصير إخوته المتخاذل السلبى ،لذلك نوى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة أى عدوان جسدى مرتقب من والده ،تعلم الولد فن الملاكمة فى المدرسة و خارجها و ساعده على ذلك صغر سنه و قوة عزيمته.
و فى اليوم الموعود – يوم النتيجة و الرسوب – دق قلب الولد دقا عنيفا لمرأى والده ،ليس خوفا منه مثل كل مرة قبيل الهجوم لكن استعدادا لممارسة الدفاع عن النفس مع والده لأول مرة و بشكل مباغت له.
و من أول لكمة هوى الأب على الأرض و هو يشهق ثم فقد الوعى ،ما السبب ؟قد يكون تفاجأ بموقف الولد أو تكون شدة ضغط اللكمة و تأثيرها على رأسه .. المهم فى النهاية أنه مات بانفجار فى المخ.
و كان من نتائج تلك اللكمة التاريخية:الأم أصابها الكمد و الهم و ماتت محسورة بعد فترة قصيرة ،طلقت الابنة و عادت خاوية الوفاض ،عاد الابن الاكبر دون أن يستقر فى عمله إذ لم يكمل تعليمه.

أُلصِقت تهمة قاتل أبيه  بالابن الاصغر حتى بعد عدم إدانته من جانب الحكومة ،و لكنه لم يهرب و استمر فى طريقه الذى عوده أبوه عليه ،و كانت النتيجة أنه الوحيد الذى أتم تعليمه و توظف و استقربه الحال.. لكنه مع ذلك أتعس الجميع.
ما سر هذه التعاسة ؟ سببها بالتأكيد هو القرار الأخير الذى اتخذه الولد فقد كان قرار مبادلة الهجوم مع والده هو الاول و الأخير بشأن التعامل مع والده ،بعدها تخلص من سطوته للأبد لكن ضميره يوبخه دوما على أنه كان سببا فى وفاة والده الذى و إن كان سببا فى كرهه للحياة و العلم و كل شيء بشدته القاسية لكنه وضع قدمه على الطريق الصحيح الذى كفل له حياة مادية مستقرة و إن لم يكفل له نفسية سوية و لم يحقق له السعادة و الهدوء النفسى. و عكر عليه الاحساس بالذنب صفو حياته فكأن والده كان سببا فى تعاسته قبل و بعد موته و لم يورثهم سوى الهم و الغم.
فهل حقق هذا الأسلوب ما كان يريده الاب من بلوغ الكمال ؟إنه لم يحقق الحد الأدنى من السعادة و الرضا و لم يوفر التميز و لا الانفراد عن باقى الناس فلماذا يشق الإنسان على نفسه و أهله ،و يجرى وراء أوهامه و أطماعه البعيدة ؟إن تحقيق المستحيل لا يتحقق بالقوة و إنما بالحب و التشجيع و الأخذ بالأسباب. حتى العقاب لابد أن يكون محدودا بدون إيذاء و يكون مبنيا على حكمة و محققا لهدف تربوى ،فالعقاب ليس انتقاما ؛هل ينتقم الانسان السوى من أولاده؟ بل وسيلة أخيرة بعد الترغيب و الترهيب و الإنذار بالعقاب ،ثم يأتى العقاب فى أخف صورة بما لا يؤذى الابن لاحقا ،حتى لا يكون سببا فى كره الابناء لأبيهم و للدنيا ،و إصابتهم بالعقد النفسية و انطفاء أملهم فى الحياة.
إن العقاب القاسى المستمر وسيلة لانتقام الاب من أبنائه إذ لم يطيعوا أوامره و لم يعظموا نواهيه -و هذا ينطوى على احساس بالغرور الداخلى و العظمة و ليس من الأبوة فى شيء -و ليس وسيلة تربوية للإصلاح و هذا أفشل ما يكون من الأب الذى لا يعرف عن  الأبوة شيئا سوى انفاق بعض الأموال كأنه فرض عليه و ليس بحب و عطاء. و مثل هذا الأب يكون غافلا عن الحديث الأبوى الرحيم مع أولاده ؛الحديث الهادئ الطويل الذى يسكب فيه الأب خبرة الأيام و حكمة السنين بشكل لطيف و غير مباشر فى نفوس و ذاكرة أبنائه ،هذا الحديث الذى يشيع فى نفوسهم الطمأنينة و يزرع الثقة بالنفس و المجتمع و يبنى شخصية ثابتة ناجحة.
و بالتالى فهو ليس وقتا مهدرا أو تبسطا زائدا مع الأولاد ،و لا يصح أن يتعلل الأب بكسب العيش و السعى وراء المادة للهروب من تربية أبنائه بالحسنى و الصبر،بل عليه أن يحرص على الحوار مع أبنائه و تحمل جدالهم و تخبط أفكارهم بدلا من اللجوء للحلول العنيفة السريعة التى تخرس الألسنة مؤقتا لكن تطلق البغضاء و النفور ثم رد العدوان بمثله لاحقا.

أن مثل هذا الأب لن يجنى سوى الندم ،و الاحترام الذى أراد ان يناله قسرا سوف يصاحبه تحطم لأركان المودة و السعادة و سيجد من الأبناء ضيقا به فى احسن الاحوال و تمنيا لموته فى أسوأها ،و لن يجد ما يتكئ عليه فى شيخوخته من بر الأبناء و حبهم ،لأن رصيده فى بنك العطف و الحب صفر.



الأحد، 22 سبتمبر 2013

دع الحزن للحمقى




حكمة رائعة لذوى المآسى و المشكلات الصعبة..."دع الحزن للحمقى" فالحزن لن يجدى شيئا و لن يستفيد منه لا الحزين و لا المحزون عليه ..فقط نفسه التى سوف تذبل و أيامه التى سوف تضيع.
رجل ذاق مرارة موت الأحباب مرارا بداية من زوجته الاولى و أم أبنائه التى فارقته و هو فى الأربعين و نهاية بأقرب الأقربين إليه ،لكن القدر اهدى إليه زوجة لم يكن ليفكر فيها إلا بعقله ­­و من المنظور الاقتصادى البحت ،فقد كانت أخت زوجته أرملة بلا أبناء فى الأربعين أيضا مثله ،و كانت تحب أبنائه بإخلاص ، و بالرغم من قلة جمالها الشكلى لكنها كانت ذات روح مرحة و ذكية و لبقة فحولت حياته نعيما متزايدا...
و على عكس كل الأزواج الذين يجأرون بالشكوى من عيوب زوجاتهم ليل نهار ؛ فقد كان هذا الرجل لا يقول عنها إلا خيرا ،يكاد يحسد نفسه على هذه الزوجة التى أسعدته و لا تزال حتى بعد أن هبت عليهما رياح الخريف و تقدم العمر و تزوج الأبناء ..
لكن الصدمة جاءته يوما بوفاة تلك الزوجة فجأة بأزمة قلبية، فأصبح زاهلا يكاد يكون ميتا و هو حى لا يرى للحياة طعما و لا يجد فى العيش رغبة.
و قد ظن أصدقاؤه أن هذا حال مؤقت شأن سائر الأحزان ؛وهيهات أن يخبو حزنه عليها أو تبهت ذكراها ، لكن جزاء الحزين المزيد من الحزن : جاءه خبر وفاة ابنته و هى تلد ، و ظن من حوله أن مصيبة فقد ابنته ستفوق مصيبة فقد زوجته و أن المرحلة القادمة من حياته ستشهد حديثا مؤلما عن ذكريات الابنة و لوعة فقدانها ،لكن يأبى حب زوجته الراحلة إلا أن يسيطر على نفسه و يهيمن على تفكيره ،فاعترف الرجل أن حزنه عليها يفوق حزنه على ابنته.
و لأنه أدمن الحزن و نسى الرضا فقد جاءته الأيام بمزيد من الأحزان :توفى ابنه فى الحرب..
لكن الحكمة تسربت إلى عقله فعلم أن هذا قدر و ما جاء من الله فهو خير
ففاجأ أصحابه - الذين تصوروا أن الحزن سوف يقضى عليه هذه المرة – قائلا "تضاربت الأحزان فهلكت جميعا"!  ما أعظم تلك الفلسفة، تذكرنا بالدعاء اللهم اقصم الظالمين بالظالمين و أخرجنا من بينهم سالمين..أحزان  تصارعت معا فذهبت جميعا لتحل الطمأنينة و الرضا.
و تعجَب الرجل من السلام الذى حل به و أذهب عنه الحزن و أورثه الحكمة فقال "لا شيء يستحق الحزن ..دع الحزن للحمقى ..أنا الآن مثل طير لا تربطه علاقة بالأرض"
لم تكن حالته هى من حالات الحزن المفرط المؤدى للهستريا بل كانت سعادة حقيقية بحاله الجديد فقد اكتشف فجأة أنهه تحلل من أى مسئولية أو قلق على الآخرين ، و أنه الآن فقط قد أصبح ملكا لنفسه يفعل ما يريد فى أى وقت بدون أن تدفعه المسئولية إلى الغاء أو تأجيل ما يريد فهو يسمع الأغانى كما يحلو له و يأكل ما يشتهيه و يخرج وقتما يحب فهو حر إذن ..حرية لا يعرفها إلا قليل من البشر.
قد يكون الفراغ الكامل من المسئولية مفيدا فى مرحلة زمنية معينة كما حدث لصاحبنا الذى فقد أهل بيته تباعا ، فلا يوجد الابن و الابنه الذين يلجأون اليه عند الشدائد و لا توجد الزوجة التى تحتاج لرعاية و اهتمام ، الجميع واراهم التراب و زالت مسئوليتهم و مشاغلهم التى كان يتحملها.

إن المفقودين نفتقدهم حقا لكننا مطمئنين عليهم، فهم فى معية الله ، و لن يأتى يوم و نفجع بمرضهم أو بسماع خبر سيء عنهم أو نرى ألمهم و حيرتهم فى الحياة، فقد غادروها – و سبقونا – إلى ربهم الرحيم العادل فلا يخشى عليهم من ظلم و لا ألم فهم فى معية الله و كفى.
و يصبح لدى الإنسان مناعة من الحزن بعد تكرار أسبابه و تكاثرها عليه، و هذا من آثار رحمة الله و عنايته بخلقه و علمه بضعف الإنسان و جزعه من المصائب. فجعل الايمان بالقدر و الصبر على الابتلاء سببا من أسباب الرضا و استقرار النفسى.
"و من يؤمن بالله يهدى قلبه"


المرجع : نجيب محفوظ – مجموعة قصصية بعنوان "القرار الأخير"
           قصة "الحزن له أجنحة"

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

عيون الجدة



الجمال ليس فى نعومة الوجه و نضارته ،و لا انطلاقة الشباب و انعكاساتها المضيئة ،بل قد يكون كامنا فى أعماق العيون فى نظرة السكون ,و إحساس الطمأنينة الذى يغمرك عندما تنظر إلى عينى الشخص و تستريح لملامحه  تأنس للقائه و الجلوس معه.

هكذا يكون إحساس الأحفاد و الأبناء و من يعيشون مع الجدود و كبار السن ،لاسيما الجدات اللاتى اعتدن على حكى القصص و إثراء الخيال و إمتاع الأطفال بتلك الرحلات اليومية العقلية التى تنطلق من فم الجدة و تنتشر فى كل اتجاه لتنتهى إلى أماكن و أزمنة مختلفة و شيقة ؛فتقدم للأطفال نوما هادئا و مشاعر سعادة و رضا عن العالم الواسع ،الذى بالرغم من غموضه لكنه غموض لا ينطوى على خوف من المجهول ،و لا يدفع للتراجع و الاختباء فى الجحور ،بل غموض يدفعك لاكتشاف أسراره و خوض أغواره لتصل إلى الهدف المنشود و تنعم بإحساس الانتصار و سعادة الوصول.
و لكن هذه الجدة أليس لها نصيب من ذكريات الحب التى يمتلكها الشباب و يتغنون بها و يرسمون أحلامهم فى مدارها ؟ أليس هناك زهور تداولتها الجدة فترة من الزمن ثم اختزنتها كجوهرة ثمينة رمزا للحب الأبدى و الإخلاص السرمدى ؟بلى لديها الكثير.. بل أن زهور الماضى تتجدد بدموع الاشتياق التى تنساب من عينيها كلما فتحت كتاب الذكريات ، لتتحول رائحة تلك الوردة الجافة إلى عطور فواحة تملأ أرجاء المكان و إن اختلف الزمان و غاب أبطال المشهد وراء التراب. إنه سحر دموع الجدة المباركة الذى يجعل الوردة كأن الحياة تعود إليها.

الجدة ببساطتها و نقاء سريرتها ما زالت نظرات عينيها الوادعة تستقر فى النفوس لتقول لهم أن الدنيا ما زالت بخير ،و أن المخاطر لن تأتى إليهم طالما نفوسهم نقية و نيتهم خالصة و عامرة بالحب ؛و تلك الحكمة التى أورثتها لهم و طبقتها عندما أوصت بدفن كتاب الأناشيد معها ،ربما يكون رمزا للحكم و النصائح أو الترانيم العذبة التى ترتاح لها النفس و إن لم تفهمها ،إن السعادة ليست مستحيلة مهما زاد الشر و الحقد و الأطماع ، و عيون الجدة باعثة للأمل دائما و أبدا ؛فالعيون لا تنسى...هكذا قال كاتب الأطفال أندرسون صاحب الحكايات الشهيرة التى أبدعها منذ قرون عديدة ،لكنا لم تفقد حيويتها و بهجتها ،و بالرغم من كونها حكايات للطفل و خيالية فى بعض الأحيان إلا أنها فلسفية و يتعلم منها الكبير و الصغير.

و هذا نص القصة كاملا:
الجدة عجوز فى وجهها الكثير من التجاعيد و شعرها أبيض تماما ، لكن عينيها تلمعان مثل نجمتين..يا لجمالهما ؛ إنهما حنونتان و النظر إليهما بركة، و علاوة على ذلك فهى تحكى لنا أحلى القصص ،تلبس الجدة ثوبا بزهرات كبيرة جدا ،إنه فستان قماش من الحرير السميك الذى يخشخش ،الجدة تعرف الكثير لأنها عاشت طويلا قبل الأب و الأم و هذه حقيقة لا شك فيها .
لدى الجدة كتاب أناشيد دينية بقفل من فضة تقرأ فيه بين الحين و الحين. و فى منتصفه كانت هناك وردة جورية جافة مضغوطة (الورد البلدى) ليست بجمال الورود الجورية التى تضعها فى المزهرية ،و مع هذا فهى تبتسم لتلك الوردة الجافة بكل لطف و حنان بل ينساب الدمع من عينيها.
لكن لماذا تنظر الجدة هكذا إلى الوردة الذابلة فى الكتاب القديم ؟ هل تعرف السبب ؟
فى كل مرة تسقط دمعة من عين الجدة على الوردة يعود اللون إليها تنتشى و تمتلئ الغرفة بعطرها..و الجدران تختفى مثل غيمة حولها كل اخضرار الغابة الجميلة حيث يخترق شعاع الشمس الأوراق ، أما الجدة فتعود صبية فتاة بخصلات شعر ذهبية و وجنتين مدورتين حمراوتين جميلة رقيقة.
أما العينان فهما الحنونتان المباركتان – و هما لا تزالان كذلك – يجلس بجانبها رجل يافع ضخم الجثة جميل الوجه يناولها الوردة الجورية فتبتسم له. و هى ابتسامة لا تشبه ابتسامة الجدات لكن بلى هى ما زالت تبتسم هكذا ،و ابتعد الشاب و مر العديد من الذكريات و الشاب جميل الطلعة ما يزال بعيدا أما الجدة فتجلس مرة ثانية هنا امرأة عجوز تنظر إلى الوردة الذابلة المستقرة بين طيات الكتاب.
و قد ماتت الجدة الآن.. كانت ذات يوم تجلس متكئة فى كرسيها تسرد القصص الجميلة الطويلة جدا حتى وصلت لآخر القصة و قالت "و عاشوا عيشة سعيدة " و انتهت القصة و أنا قد تعبت تماما الآن ، اتركونى لأنام قليلا. بقيت الجدة ساكنة فى مكانها أنفاسها هادئة و قد نامت – لكن الصمت عم المكان أكثر و أكثر ، ووجه الجدة يعلوه سلام و اطمئنان و كأن شعاع شمس مر عليه ، ثم قالوا أن الجدة ماتت.
و قد وضعت الجدة فى تابوت أسود ملفوف بقماش أبيض كانت جميلة جدا رغم أن عينيها مغمضتان لكن كل التجاعيد اختفت و ارتسمت ابتسامة على شفتيها ، كان شعرها أبيض فضيا يوحى بالوقار ،و رغم أنها كانت ميتة فالنظر إليها لم يكن مخيفا بتاتا. انها هى الجدة الحلوة الطيبة التى نعرفها ،و قد وضع كتاب الأناشيد تحت رأسها كما أمرت هى و الوردة بين طياته ،و قد تم دفن الجدة.
عند قبرها زرعوا شجرة ورد جورى كانت مليئة بالورود ،يغنى العندليب فوقها و يسطع القمر قليلا على القبر، و بإمكان أى طفل أن يذهب إلى المقبرة ليقطف وردة دون خوف ،فالميت يعرف أكثر مما يعرفه الأحياء الميت يعرف الخوف الذى نشعر به إزاء حدث غريب كأن يأتى الأموات إلينا ،الميتون أفضل منا جميعا و لن يأتوا.
هناك تراب حول التابوت و تراب فيه ، و سيصير كتاب الأناشيد بأوراقه ترابا و الوردة و كل الذكريات ستسقط فى التراب ، لكن فوق التراب ستزهر ورود جديدة و سيغنى العندليب ..سنتذكر الجدة العجوز و عينيها الحنونتين اللامعتين إلى الأبد . العيون لا تموت أبدا ، عيوننا ستراها ذات يوم شابة جميلة مثلما كانت عندما قبَلت الورة الحمراء اليانعة لأول مرة و التى صارت ترابا فى قبرها الآن.
كتبت فى 1863 - اندرسون

القصص التى ترويها الجدة طويلة مثل حياتها ، وأهم ما يميزها النهاية الجميلة لكنها قد أرهقتها السنون الطويلة  كما أرهقتها الحكايات الطويلة فاستسلمت للرقاد الأخير ،لقد طلبت من أحفادها أن يتركوها تنام قليلا لكنها كانت نومة طويلة و أبدية.. 

بعد موت الشخص تموت كل الأشياء العزيزة عليه حزنا و كمدا على فراقه ؛بالرغم من أنها جمادات إلا أنها تموت بموت قيمتها عند من يقيمها و يجعل لها وزنا كبيرا عنده ،من أجل هذا أوصت الجدة بدفن كتاب الأناشيد معها فلن يوجد أحد يفهمه و لا يقدره بعدها ،و هى الأولى بصحبته فى حياتها و مماتها ،و ربما لأنه أعز الأشياء لديها و بداخله أعز الذكريات الموصولة بالأحبة التى فارقتهم فى الدنيا و تأمل أن تلتقى بهم فى الآخرة ، و هذا سر السلام و الاطمئنان التى علت وجهها عند وفاتها رضا بوصولها إلى ما كانت تتمناه.
و يبدو أن الجدة كانت تعيش حالة من الصوفيه فريدة و لديها من الروحانيات ما يدفعها لأن تجعل قفلا من فضة حول كتاب الأناشيد هذا فهو أثمن ما تملك و كأنه حلقة الوصل بينها و بين النورانية و الشفافية التى تتمتع بها.

حتى مقبرتها لم تكن مقبرة بمعناها المخيف بل هى واحة بها ورود و مضيئة بنور القمر، فليس لها وحشة القبور و لا ظلامها ،و لهذا يأتى إليها الأطفال بلا خوف لقطف الزهور .
لقد فنت الجدة و تحولت و أشياؤها إلى تراب ، لكنها دورة الحياة ؛فنت لتعطى لنا خيرا جديدا و أجيالا يانعة ترث الحنان و المعانى الجميلة و تردد الأناشيد القديمة لكى تتذكر دائما تلك العيون الحنونة التى لا تنسى أبدا ستظهر فى عيون أبنائها و أحفادها و فى قلب الورود الحمراء التى حولها و من بين التراب.
إن الشخص طيب القلب يموت و هو أكثر جمالا من ذى قبل و قد زالت عنه هموم الدنيا و متاعبها ، لذلك تبدو السعادة على وجهه عند لقاء ربه..
"وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ " سورة فاطر(34، 35)

الأربعاء، 20 فبراير 2013

سورة الشمس و أحوال النفس

الشمس و القمر آيتان بينتان متعاقبتان يوميا لا يخفى على أحد ظهروهما و غيابهما ، كوضوح الشمس و اتفاق الجميع على ظهورها و سطوعها وقت الضحى و لا ينكر أحد النهار الجلى الواضح، و مضى بعض المفسرين إلى أن تتابع الأوقات و الأزمنة بين مشرق و مظلم فى هذا القسم إشارة إلى تتابع الفترات و العصور المظلمة بالضلالة بين البشر و الأوقات المضيئة بالهداية.

و السماء المرفوعة بغير عمد كبناء ضخم مشيد، و الأرض المبسوطة الممهدة.إن خالق كل هذه الآيات خلق النفس بأحوالها ، فهى تعلم طريق الفجور و طريق التقوى، قد أعطاها الله القدرة على التمييز و الاختيار بالإلهام الفطرى من خالقها و هاديها.
و فى قوله "و السماء ما بناها" و "و الارض و ما طحاها" تأتى "ما" بمعنى "من" مثل الآية "و والد و ما ولد" 

جاء الحديث عن آيات الكون بشكل مختصر و متتابع ،لكن عند الحديث عن النفس البشرية جاءت الآيات تفصيلية عن تلك النفس العجيبة و أحوالها بين الهدى و الضلالة و الطاعة و المعصية، و عرض العاقبة فى الحالتين إما الفلاح و إما الخسران. فمن أراد زكى نفسه فعليه أن  يطهرها من الذنوب و يعليها عن الخطايا و يصلحها بالعمل الطيب و إلا فليتبع نفسه هواها لتنطلق بلا روابط و لا مرشد لها سوى الأهواء و الرغبات.

يقول الإمام ابن القيم : أصل التدسية فى "من دسَاها" هو الإخفاء فالعاصى يدس نفسه بالمعصية و يخفى مكانها و يتوارى من الخلق من سوء ما يفعل ،أما تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بآيات الله و التدبر فى النفس و فى الآفاق ،و بالتعقل تزكو النفوس و تسمو و تعلو على مدارج الكمال حتى تكون مع الأبرار .و تدنيس النفس هو الانسلاخ من آيات الله فيلغى سمعه و بصره و عقله و يحرمها من غذائها النافع فيرتد إلى أسفل سافلين فيتبعه الشيطان و يجره إلى كل شر.فالطاعة و البر تكبر النفس و تعليها حتى تصير أشرف شيء و أزكاه فلا تذل إلا إلى الله ،فما صغَر النفس مثل معصية الله ،و ما كبرها و أعلاها مثل طاعة الله.

ثم سرد مثالا قوم ثمود للأمم الخاسرة حيث كذبوا رسولهم ، و عقروا الناقة المباركة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم ، و ظنوا أنهم منتصرين معجزين لكن النتيجة أن دمدم الله عليهم الأرض فاستوت بهم و انطمست معالم قريتهم ، و فى ذلك تخويف شديد إذ لم يتم ذكر مثالا من القرى المؤمنة (مثل قوم يونس) فى هذه السورة ليبقى تأثير الترهيب من سوء العاقبة للنفوس الخبيثة الشاردة عن طاعة الله المعرضة عن الهداية و السالكة طريق الشر.

و المراد الترهيب من اتباع هوى النفس و سلوك طريق الفجور بدعوى أن الانسان مسير و القدر معلوم من قبل الخلق، بل الانسان مسئول عن اختياره مهما قال من أعذار و جادل بغير دليل ظاهر، "بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره" فالحساب لا يكون إلا على إرادة كاملة للفعل و عزم النفس عليه.

و اختيار الكلمات (طغواها – أشقاها – دمدم  - سواها – عقروها – يخاف) تدل على شدة غضب الله عليهم لطغيانهم و قسوة قلوبهم  إذ تجرأوا على آيات الله و عصوا رسولهم و استهانوا بتحذير الرسول لهم و توصيته بعدم المساس بتلك الناقة، اجتمعوا اجتماع شر و اختاروا أشر الناس فيهم – رجلا بلا قلب و لا رحمة -  و رشحوه لتنفيذ أسوأ مهمة ، المهمة التى كانت سببا فى هلاكهم و تدميرهم.

ما أبئس قوم ثمود استبدلوا نعمة الله بالكفر و الجحود ، ماذا فعلت لهم تلك الناقة التى كانت تسقيهم لبنا يكفى القرية كلها ؟
اختلقوا عذرا واهيا أن الناقة تنفرد بشرب فى اليوم التالى للسقيا ، و تشرب الكثير من الماء فقد يتنهى الماء و يهلك أهل القرية عطشا بسبب ما تأخذه منهم تلك الناقة! لكن القرية تهلك فعلا لكن بسبب قتلهم لها و عصيانهم الرسول...

و من جمال التعبير العلاقة اللطيفة بين معنى كلمة "سواها" فى "و نفس و ما سواها" و "فدمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها" فمعناها فى الاولى خلقها فى أحسن صورة بشكل مستو بارع و إعطاءها القدرة على السمع و الابصار و التمييز بين الحق و الباطل، و معناها  فى الثانية سواها أى دمرها و سوى بها الأرض و فيها عقوبة شديدة للنفس التى لم تشكر و تقدر نعمة الخلق و الرزق و كيف كرمها و هداها و ميزها بالعقل و الاختيار عن باقى المخلوقات ، و لما ضلت الطريق عاقبها بالهلاك و التسوية بالأرض فى الدنيا و العذاب المهين المقيم فى الآخرة.

إن الله الذى أحسن الخلق و أبدع فى إنشاء الكون بنظام دقيق معجز  خلق الانسان و هيأ له الطريقين ليختار ما يحاسب عليه ، فليحذر و يخاف العاقبة ، حتى ينال الفلاح بتزكية نفسه و اجتناب طريق الشرور و الفتن.
 

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

بر الوالدين المؤجل



"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " الإسراء (23)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

إن الوالدين هبة من الله و نعمة لا يقدرها إلا من يفقدهم ،من أجل هذا كتب الله على الانسان بعد تحريم الشرك عليه أن يقدم لوالديه الإحسان و البر، خاصة عند كبر سنهما و ضعفهما ، و أمره بعدم التضجر منهم أو من خدمتهم ، بل الصبر عليهم و التواضع لهما قولا و فعلا فالفضل السالف لا ينسى ..
لكن الشيطان كعادته يثبط الهمم و يؤجل الخير إلى حيث ينتهى الأجل أو يوشك أن ينتهى ،فلا يزال الإنسان طفلا مدللا ينهل من عطاء والديه ،و يحكى لهما همومه و ما يثقل كاهله ابتغاء النصح و تخفيف الهموم ،حتى بعد أن يبلغ مبلغ الرجال و يدخل مرحل الكهولة لا فرق فى علاقة الأبوة و الأمومة بين طفل يحبو و رجل فى الدنيا يعلو ،الكل طفل حين يلقى والديه ،ينفض همومه على أعتاب دعواتهم الصادقة و هو يثق أن النجاة من أى مشكلة ستكون على أيديهم ،و أن اليسر منبعه من خبرتهم و تصرفهم ،و أن تصحيح مساره إن اعوَج سيكون بتوجيهاتهم.
إنها الطمأنينة و الأمان مستقر فى نفس الإنسان طالما أن والديه يظللان بحنانهما عليه ،و يسبغان عليه من خير الدعاء و العمل ما يقيه شر متاهات الزمن و قسوة الحياة...لكن الحال لا يستمر و تتقلب الأيام بين فرح و حزن،فيمرض أحد الأبوين أو يعجز عن قضاء مصالحه و رعاية نفسه ،فتكون الفرصة سانحة و ذهبية ليقدم لهما العون و الرعاية التى يستحقانهما ، باذلا كل ما يملكه من أجل أن يسعدهما و يحظى برضاهما..
لكن الأجل قد يعجل بالأب أو الأم فيلقى الله قبل أن يدرك الابن فيسرع لهما و يقدم لهما ما يريد من الحب و الرعاية و الاعتراف بالجميل ،فقد يكون الابن فى سفر ابتغاء طلب الرزق ،و قد يكون غير مدرك لخطورة المرض و صعوبته لاستحياء الاب أو الام أن يجهر بالألم أو طلب المعونة ،فتكون النتيجة أن يدرك الابن متأخرا أنه كان عليه كذا و كذا من أسباب البر ،و أنه كان عليه التعجل و تفريغ النفس من أى اهتمام سوى رعاية والديه فى أواخر أيامهما ،و الأهم من ذلك الاعتراف أمامهم بحبه الشديد لهما و تقديره لفضلهما عليه طوال عمره. إن تأخير المصارحة بالحب مؤلمة عندما يصبح الحبيب فى العالم الآخر و تنقطع سبل التواصل ، و لات حين مندم عندما يبكى الابن على يد أمه أو أبيه المتوفى طالبا الصفح و مجاهرا بالحب و العرفان..
لكن الله رءوف بعباده رحيم بهم ،يقدم لهم دائما وسائل العودة و ييسر لهم الأوبة ، فتجئ تلك الآية الكريمة بردا و سلاما على القلوب الذائبة حزنا و ندما:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
فالله يعلم بما فى قلوبنا تجاههم و عجزنا عن أن نقدم لهم ما نريد بعد أن يرحلوا ،لذلك فتح باب الغفران ،و ترك للميت ثلاثة أبواب لعمل الخير ،و من ضمنها دعاء الولد الصالح و هذا ما يستطيع الابن تقديمه و الانتظام فيه، بالإضافة إلى الاكثار من الصدقة و وصل من كانوا يحبون و استمرار أعمال البر التى كانوا يقومون بها. فربما يرضى هذا نفس الابن الحى و روح الوالد الميت و يعم على الجميع سكينة من الله و كرم منه الوهاب فيجعل لهم حسن مآب.
و الخير موصول بين دعاء الولد لوالديه و بين المكانة العالية التى قد يصلون إليها، فالله قد يدخل الانسان مكانة أعلى حتى يجتمع بأبويه فى الجنة و يهنئوا باللقاء الأٌسري..
"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ " الطور(21)
القرآن شفاء كل داء ، و شفاء لما فى الصدور  من حزن و هم و ندم و ضيق ،و تأتى الآيات متكاملة لتعالج خفايا النفوس و ما تخفى الصدور  ما دق عن الوصف ، فالله أقرب للإنسان من حبل الوريد ،و هو الخبير الذى وسع علمه كل شيء و تسبق ذلك رحمته و حكمته التى تعجز دوما العقول عن فهمها لكنها تصدقها و تسلم بها.
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين"

الاثنين، 4 فبراير 2013

سورة الفجر


تبدأ سورة الفجر بقسم الله بالفجر ؛و هو من آيات الله الدالة على كمال قدرته و أن بيده الأمر كله بحكمته و عظمته ،و صلاة الفجر صلاة معظمة فاضلة تشهدها ملائكة الليل و النهار..

"أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" الإسراء (78)

و فى الحديث الشريف " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر "

الفجر.. يسبقه ليل القانتين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا ،قائمى الليل الفائزين بإجابة الله لهم وقت تنزله سبحانه فى الثلث الأخير من الليل و ينادى من يدعونى فاستجيب له ،من يستغفرنى فاغفر له ،ثم يصمت الكون و يعم خفوت الكائنات و سكوتهم فى لحظات ما قبل الفجر ليأتى آذان الفجر و قرآن الفجر مضيئا لظلمة الكون و مودعا لغياهب الليل.

و مثلما يحيط الغموض تلك الفترة الزمنية فيختفى مصدر الضوء وراء سحب الليل ،تأتى ليال عظيمة متخفية بين عدة ايام لا يعلمها إلا الله ،حتى لا تقتصر عبادة البشر على تلك الليله إن كانت معلومة بل جعلها واقعة فى مدى حتى يعم الخير و يجزل الثواب فذاك من كرم الله و حكمته.

و الليال العشر  التى أقسم الله بها إما أن تكون العشر الأخيرة من رمضان تتخفى فيها ليلة القدر المباركة أخفاها الله ليجتهد العابدون الطالبون مرضاته كل هذه الأيام ،أو تكون الأيام العشر الأولى من ذى الحجة أيام التهليل و التسبيح و التكبير و التى بها يوم عرفة يوم المغفرة حيث يندثر الشيطان و يحزن لما يرى من تنزل الرحمات على عباد الله و حجاجه ،و بها تتم مناسك الحج و العمرة و هذه أشياء معظمة مستحقة لأن يقسم الله بها.

و الليال العشر سواء كانت ليالى رمضان أو ليالى ذى الحجة كلا الحالتين نزلت فيهما سورة منفصلة بفضل الليلة التى تحتويها أو المناسك التى تشملها ، و هما سورة القدر و سورة الحج.

و الشفع و الوتر هما صلاتان نافلتان ،و الليل إذا يسر هو الليل عندما يرخى ظلامه على الدنيا و تنتهى الأعمال الدنيوية و الانشطة ليبدأ الناس مرحلة النوم أو قيام الليل.

 أقسم الله بالفجر و هو وقت و صلاة مفروضة يغفل الناس عن أدائها فى وقتها ، و بالليال العشر و هى  زمن و بها الصيام و مناسك الحج ، و بالشفع و الوتر و هما صلاة نافلة بالليل بعد العشاء ، كما أن الوتر دلاله على وحدانية الله ،و يأتى الليل بسريانه الخفى ليختم المقسوم بهم.

  يصف سيد قطب سورة الفجر فى ظلاله قائلاً:

(إنها ليست ألفاظا وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر ! أم إنه النداء الأليف للقلب ؟ والهمس اللطيف للروح ؟ واللمس الموحي للضمير ؟ إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة)

و فى السؤال التقريرى "هل فى ذلك قسم لذى حجر" تحفيز للسامعين لكى يعملوا عقولهم لإدراك قيمة المقسوم به و معرفة ما يعظمه الله ،و اقتناص الأوقات الثمينة من اليوم أو العام لاختصاصها بالمزيد من العبادة و القرب من الله ،فربما يفوز  الانسان فيها بنفحة من نفحات الله التى لا يشقى بعدها أبدا. إن أصحاب العقول و الفطرة السليمة يعلمون أن هذه الأيام و الأوقات المباركة تكرارية تتجدد دوما ،لكن هل يستمر عمر الإنسان ليلحق بها مجددا ؟ هذا ليس مضمونا فليسرع الإنسان قبل أن ينتهى العمر و تسقط الفرصة فى التوبة و المغفرة.

و مهما علا شأن الإنسان فإنه لا شيء أمام عذاب الله الراصد و الذى يجازيهم بطغيانهم و فسادهم ،مثل عاد و ثمود و فرعون

"ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذى الأوتاد"

فلننظر إلى تلك الأمم الغابرة...

عاد: لم يخلق الله مثلها فى البلاد و أعطاها قوة فى الخلق و البنيان

ثمود: نحتوا الصخور ليجعلوها منازل لهم تحميهم و لا تنهدم

فرعون:اتخذ من جنوده سندا و ثباتا و معينا على الباطل فهم كالأوتاد

و قد بلغوا من الكبر و الظلم ما أوجب هلاكهم ، فصب عليهم ربهم العذاب صبا كالسوط شديد الإيلام. فالله يمهل العاصى قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

لكن هل ابتلاء الإنسان بالمصائب دائما عقوبة له تسلمه لليأس و الحزن و الإحساس بالخزى؟ الإجابة توضحها الآيات التالية:

"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربى أكرمن * و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن"

يخبر الله عن طبيعة الإنسان بأنه جاهل ظالم لا علم له بالعواقب ،يظن أن الحالة تستمر لا تزول و ان النعيم مقيم لا يتبدل ،لكن الأيام دول يداولها الله بين الناس ،لكن الإنسان يرى أن إكرام الله فى الدنيا و إنعامه عليه يدل على كرامته عنده و قربه منه ، أما إذا ضيق عليه رزقه (و الرزق يشمل كل النعم)،  فيظن أن هذا إهانة من الله و غضب عليه و ربما أسلمه ذلك للسخط على قدر الله و استقلال نعمته و تحقير ما فى يده.

و يرد الله على تلك الظنون بقوله "كلا" ليس كل منعم فى الدنيا كريما عند الله ،و ليس كل فقير مقدر عليه رزقه مهانا عنده ،كما فى الحديث الشريف "رب أشعث أغبر لو اقسم على الله لأبره" 

 إنما الضيق و السعة ابتلاء من الله ليرى من يقوم بالشكر و الصبر، إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي، أما من يسخط و ينقلب على وجهه فقد خسر الدنيا و الآخرة، و لن ينال سوى الضيق و العذاب، و لن يغير من قدره شيئا.

"أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" العنكبوت (3)

كذلك من أسباب ضيق الرزق و قلته بخل الإنسان على الفقير و عدم اعطائه حقه المفروض ،فتزول النعم و يذوق الحرمان بعد العطاء.

و من جمال اختيار الكلمات فى القرآن "لا تكرمون اليتيم" فاليتيم انسان حساس ضعيف مهيض الجناح  فاقد للحنان مجروح يحتاج للإكرام النفسى و الكلمة الطيبة قبل العطاء المادى حتى لا يكون مكسور النفس حزين القلب.

و الخطأ الآخر الذى يقترفه بعض الناس  و يستوجب اقتار الرزق هو عدم الحث على إطعام المساكين و اغفال حقهم فى الحياة الكريمة، و كذلك أكل حق اليتيم و المرأة فى الميراث ،

 لاحظ العلاقة بين اكل التراث باليتيم فربما دفع الطمع ذوى النفوس الضعيفة إلى الاستيلاء على مال اليتيم فى الميراث اعتمادا على أنه طفل لن يجد من يرعى حقه أو يدافع عنه ،و منبع هذه الشرور حب المال حبا كثيرا ، وعبد الدينار و الدرهم إنسان تعس ضعيف الإيمان لا يثق فيما عند الله من الرزق و لا يوجه ماله إلى حيث أمره ربه، و لا ينفق من المال الذى جعله الله قيما عليه و حارسا.

كل تلك الأفعال القبيحة سوف يتذكرها الإنسان يوم الحساب حيث لا تنفع الذكرى، و "يا ليت" لا تعيد الزمن و لا تمنح الفرصة مرة أخرى..

و دك الأرض يرتبط بمن اتخذوا من الجبال بيوتا كما سبق ذكره فى قوم عاد الذين عاقبهم الله بصب العذاب عليهم و انهيار حصونهم من دون الله و عدم سكنى مساكنهم بعد ذلك.

إن السامع يكاد يسمع صوت دك الأرض فى "دكا دكا" و وقع اقدام الملائكة فى الصفوف "صفا صفا" فى موقف رهيب ينتهى بإحضار جهنم و لحظات الحساب. ،إن يوم القيامة يوم مهول شديد تدك فيه الأرض و تسير الجبال و يخرج الناس من القبور و يأتى الله و الملائكة الكرام ،كل شيء منظم و خاضع للملك الجبار فى مشهد مهيب مشهود ، فيقضى الله بينهم بالحق.

عندما يؤتى بجنهم يرونها عين اليقين فلا يملكون إنكارها أو الفرار منها ،و تأتى لحظة الحساب و السؤال و المجازاة بالأعمال بالحق و العدل ،و لن يكون من العذاب مفر و لا ينفع الهروب لأن الظالم مربوط موثوق لا يماثله أحد فى أسره و لا يشابهه أحد فى عذابه ،هذا هو الهوان الحق و هذا هو العقاب الأشد الذى لا تنجو منه سوى النفوس المطمئنة التى عادت إلى ربها يحيطها الرضا و السكون فى وصف بالغ الرقة و الشفافية ، و قد أمرها الله بالدخول فى زمرة عباده المخلصين و الدخول للجنة و هذا هو قمة السعادة و الفلاح.

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الفجر"

و خطاب الله للنفس المطمئنة يخاطب بها الروح يوم القيامة و يخاطبها به وقت الموت بنداء القريب "يأيتها" فى عطف و تكريم ،فى وسط الشد و الوثاق ،تترك الروح الأرض و التعب لترجع إلى ربها الذى تحبه و ترجو لقائه لتدخل فى رحمته و أمانه و كنفه فهى مطمئنة لا ترتاع يوم الهول و الفزع "وهم من فزع يومئذ آمنون"  تعرف طريقها إلى الله كما عرفته فى الدنيا. إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية تتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية. و الحمد لله فى الأولى و الآخرة.