السبت، 21 نوفمبر 2015

فلسفة الشحاذة


الشحاذة عمل مهين فهو استجداء للناس إن شاءوا أعطوا للشحاذ و إن شاءوا نهروه و أشاحوا بوجههم عنه ،و مع ذلك نجد من يستهويه السؤال و يستعذب هذا العطاء السهل المتنوع و يجد من المبررات ما يهون عليه هذا الذل ،بل و يجعله شاعرا بالزهو و الانتصار و النجاح فى نهاية يوم ملئ بالهبات و الصدقات – على الرغم من كونها تعافها النفس- لكنه يرى أنه نجح فى مهمته و هو ضبط ميزان الحياة و الاخذ من الغنى للفقير كمن يعيد توزيع الثروات ليحقق العدل المنشود ، فهو مقابل ما يأخذ من الناس يكون سببا فى الثواب لهم و المغفرة لذنوبهم التى تؤرقهم و تدمى ضمائرهم ،فهم سبب فى راحة نفسية عظيمة لمن يشحذون منهم ، و بالتالى يستحقون الشكر و التقدير لدورهم العظيم!

قالت الشحاذة لابنتها  التى تحاول أن تفهم منها لماذا يمتهنون الشحاذة و يتحملون ذل السؤال (مقتبس من قصة أساطير نوبية):

"إنك يا ابنتى تعطين أكثر مما تأخذين؛ فالناس فى حياتهم اليومية يضطرون إلى إيذاء الغير و سرقتهم و العبث بعقولهم ثم تتعذب ضمائرهم و يحتاجون لإراحتها بعمل الخير ،و لن يكون هذا الخير هو رد المسروقات إلى أهلها و لا رد الأذى عن من آذوهم؛ فقد تم الإيذاء و أنفقت المسروقات، و لم يعد إلا أن بعض ما ترضى عنه السماء مثل العطف على الفقراء و مساعدة المحتاجين،  و نحن نذهب إلى الناس فى مزارعهم و بيوتهم فى أوقات مختلفة، و ندعو لهم و نسمعهم ما يجعلهم يقدمون الخير ، فنحن نحول التضحية بالمال إلى أغنية عذبة فى الشفاه، ونقوم بعمل تربوى و تعليمى للناس و نزرع فيهم حب البذل و الخير و المثل الرفيعة .. و هل يصنع المصلحون و الأنبياء أعظم من هذا؟"
"إن المسألة مسألة اقتناع – اقتنعى بعملك و أحبيه يصبح سهلا و عظيما ، ألا تجدين المعلم و شيخ المسجد يعيدان الموعظة و الدرس عشرات المرات و بنفس الحماس لسبب بسيط هو اقتناعهم بعملهم؟"

و لا تشمل هذه الفلسفة كون الشحاذ عاطلا عن الكسب و لا يقدم شيئا ماديا يفيد المجتمع ،و لا يستغل صحته و ساعديه فى الزراعة أو العمل النافع الذى يعود عليه بالمال الوفير و على المجتمع بالخير و النماء. فحفظ ماء الوجه من اسباب سعادة الانسان و احترامه لنفسه و امتلاكه لحريته و القدرة على تحقيق ما يريد و تطوير نفسه.

اليد العليا خير من اليد السفلى اى ان اليد التى تعطى أحب إلى الله من اليد الآخذة

« الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ »(1).

و فى الحديث الشريف نهى عن السؤال و دعوة لأى عمل شريف مهما كان ضئيلا خير من السؤال و ذله: "لأن يحتطب أحدكم خير له أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"

فالإنسان الحر بفطرته يأبى أن يسأل الآخرين فهو ليس أقل منهم و لن تتوقف حياته على قرار الآخرين بمنعه أو إعطاءه كما أنه لا يتحمل نظرة المن و التكبر التى قد تصدر ممن يعطونه شيئا. إلا البائس العاجز الذى تقطعت به سبل الحياة فهو لا يشعر إلا بالجوع و البرد فقط و المشاعر تعتبر رفاهية بجانب احتياجاته الإنسانية الأساسية الأخرى ؛لذلك يلح و يلح فى السؤال و قد يجلس فى صمت و استسلام حتى يعطف عليه المارة. هذه هى الحالة الوحيدة التى يجوز فيها السؤال حتى تزول أسباب العجز و يستطيع الانسان الاعتماد على نفسه مرة أخرى.

و المجتمع مسئول عن انتشار الشحاذة ، فلولا التعطل و البطالة و نهب الأموال و انتشار الظلم لما عجز الناس عن كسب قوت يومهم و انتهى بهم الأمر فى رحلة البحث عن عمل إلى التسول أو الجنون و التسكع فى الشوارع ،لو ان هناك جمعيات خيرية تحدد بدقة العائلات التى لا تجد من يعولها أو فقد عائلها عمله و عجز عن الإنفاق فتوزع عليها من الصدقات و هبات الأغنياء لقلت الفجوة فى المجتمع و كفى ذلك الفقير شر السؤال.

و الأفضل هو إمداد تلك الأسر بما يدر عليها دخلا بسيطا مثل ماكينات الخياطة أو تربية ماشية أو ما شابه ذلك حسب احتياج المجتمعات التى يعيشون فيها .فهذا يضمن لهم نفوسا كريمة و شغلا نافعا لأوقاتهم. و من زاوية التخطيط بعيد المدى فقد تكون هذه المشاريع الصغيرة نواة لمشاريع اكبر تسهم فى تطوير المجتمع و توفير فرص عمل و جودة و منافسة فى المنتجات.

الحلول الاسلامية بسيطة لكن لابد من التكاتف و التعاون على مستوى الأسر و الأقارب الجيران أولا فهم الأقرب ،ثم على مستوى الحكومة و الجمعيات الخيرية حيث لديهم الموارد و إمكانية عمل تخطيط شامل.