السبت، 25 يونيو 2016

تفسير سورة الفتح


سورة الفتح سورة السكينة و النصر و المغفرة و الحكمة البالغة ؛تناولت كيف تتم العهود و أن الله يشهدها و يعلم حكمتها ،و أن التسليم لأمر الله و حسن الظن به هو خير للمؤمن إذ يسكن الرضا قلبه و يتحقق مأربه و إن تأخر.

بشرى للرسول و للمؤمنين و تحذير من اليأس و سوء الظن بالله

  إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)

جاءت بصيغة الماضى لتأكيد المستقبل و ترسيخ اليقين و الطمأنينة لتحقق النصر.

و هنا الفتح هو صلح الحديبية و يشمل كل الفتوحات التى أكرم بها الله المسلمين بعد ذلك،

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

و يترتب على هذا الفتح أن يغفر الله للرسول ذنوبه ،و يتم نعمته بإعزاز الدين و النصر على المشركين، و تمام تلك النعمة بالهداية إلى الصراط المستقيم مما ينال بها السعادة الأبدية و الفلاح السرمدى. و النصر عندما يكون عزيزا يكون تاما قوية ناله المنتصر برفعة و شرف.

فضل السكينة:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)

و من دواعى حدوث النصر و بشارته أن يشعر المؤمنون بالسكينة و يقر فى نفوسهم أن هذا هو الدين الحق فيثبت إيمانهم ، و ليعلموا أن الله قادر على تسخير الكون كله لنصرته و نصرة أوليائه ، و أن لله تعالى جنود فى السموات و الأرض يسيرهم كيف يشاء ووفق  حكمته و إرادته.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)

فى صلح الحديبية عندما سلم المسلمون بهذا الصلح ، و أخروا العمرة إلى العام القادم ، ربما كان ظاهر هذه الشروط حط من قدرهم و غضاضة عليهم، لكنهم صبروا ووطنوا أنفسهم لها ، و علموا أن أمر الله خير لهم و عزة، فازداد إيمانهم و سهلت عليهم الطاعة.

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

و تقتضى حكمة الله المداولة بين الناس ، و ربما تأخير النصر إلى وقت آخر، لكن المنافقين و المشركين سوف تدور عليهم دائرة السوء و تنقلب ظنهم أن الله سيخزى المؤمنين و أن الهزيمة لاحقة بهم، سيرتد إليهم السوء ، و سينالون العقاب الأكبر و هو غضب الله عليهم و لعنته و المصير السيئ.

و حسن الظن بالله خير للمؤمن و أقوم ، و هو خير مزدوج فى الدنيا و الآخرة، ، فسوف تطمئن نفسه و ترضى، و سيكافئه الله بتحقيق ما ظنه من خير و نصر فى الدنيا ، يجازيه حسن الثواب فى الآخرة.

أما سوء الظن بالله فهو ذنب عظيم ، فهو بذلك يسلم فكره للشيطان و يجعل اليأس طريقه و مسلكه، فيقنط من رحمة الله و تملأه الشكوك و المخاوف و تسوء أفعاله ، و اليأس دافع صاحبه إلى المهالك و الذنوب، فتكون النتيجة عيشة ضنكة و سوء العواقب.

الحياة تدور ، و فى دورانها يتقلب الخير و الشر و يتتابعان، فإذا ظن الإنسان خيرا فقد قبض على دائرة الخير ، و التقط السعادة و الرضا، أما إذا لم ير سوى الشر و توقع السوء  و اسودت الدنيا فى عينه ، فسوف يمسك  دائرة السوء و يعيش بؤسها و حزنها.

 وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

أرسل الله الرسول شاهدا على الأمة و شاهد لله بالوحدانية و التفرد بالكمال، و يبشر بالسعادة لمن أطاع و عمل الخير، و نذير للعصاة، لتؤمنوا بالله و رسوله و تعزروه و توقروه، الحديث عن مناصرة الرسول و احترامه و تقديره.

و تسبحوه بكرة و أصيلا، الضمير يعود لله سبحانه و تعالى، فتمجيده و ذكره يقوى النفس و يعينها على الطاعة و هو دليل  الشكر و الحمد.

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

الله شاهد على كل شيء و على العقود و المبايعات، و البيعة المشار إليها هنا هى بيعة الرضوان ، حيث بايع المسلمون الرسول على الثبات و عدم الفرار ، "يد الله فوق أيديهم" لحملهم على الوفاء بالعهد و تعظيم الحدث و الكلمة.

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)

إنه لعذر قبيح واه، إذا كان طلبهم من الرسول الاستغفار لهم بناء على توبة و ندم صادق لكان استغفار الرسول لهم نافعا، لكنهم يظهرون خلاف بواطنهم و يقولون ما ليس حقا. ألا يعلمون أن الله يعلم ما فى نفوسهم و قادر على عقابهم بما قدموه حينئذ لن ينفعهم شيء و لن ينجيهم استغفار من فى الأرض جميعا.

 بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

و استحكم فيهم ظن السوء، و سبب ذلك أمران: أنهم قوم بور هلكى لا خير فيهم  ، و الثانى ضعف إيمانهم و زعزعة يقينهم بنصر الله.

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

و صفة الله اللازمة هى أنه سبحانه لا يزال يغفر و يرحم و يتجاوز عن المخطئين و يقبل توبة التائبين، فينزل خيره المدرار آناء الليل و النهار.

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ۚ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

إن المنافقين همهم الأكبر الدنيا و متاعها، و هى شغلهم و مبلغ علمهم، فقد أرادوا مخالفة أمر الله بعدم مشاركة المتخلفين فى الغنائم ، فهى حق لمن شارك فى الجهاد فقط، و كان رد المخلفين عجيب "بل تحسدوننا" على أى شيء يحسدونهم؟ على الخير الفائت عندما تقاعدوا عن المشاركة فى الجهاد و خسارتهم ثواب ذلك و شرف الخروج مع الرسول و الدفاع عن الدين؟ إن هذا لهو الجهل المبين.

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)

أمر الله الرسول أن يختبر توبتهم المزعومة و نيتهم فى الجهاد لاحقا، و أن يثبت عليهم عدم جديتهم أو ندمهم على ما فاتهم من الخروج فى سبيل الله.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ۗ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

ذكر الله الأسباب و الأعذار التى يعذر بها العبد عن الخروج للجهاد ، و هى الأسباب القاهرة التى تحول دون تحمل مشقة الجهاد بسبب المرض.

إن التولى يوم الزحف عقابه شديد حتى لقد جاء ذكر العذاب الذى ينتظر المتخلفين "العذاب الأليم" مرتين متتاليين فى آيتين متتابعتين 16و 17.

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

رضوان الله هو الغنيمة الكبرى و الجزاء الأعظم للإخلاص و الصدق، و قد أنعم الله بهذه النعمة على المبايعين للرسول فى بيعة الرضوان و كان نتيجة لذلك نزول السكينة و الطمأنينة عليهم و وعدهم بفتح قريب.و قد حدد المكان "تحت الشجرة" كى ترى أعيننا المؤمنين مجتمعين على الطاعة ، ونشعر بالراحة و الظل و الاحتواء و نسمع صوت الطيور ، حيث يشهد الكل – و الله فوقهم -  على البيعة فى جو عامر بالزرع و الخير الوفير.

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)

المغانم هى أولى تلك الوعود للمؤمنين جزاء ثباتهم و صبرهم، و هى المغانم الكثيرة، و هناك نعمة أخرى هى كف الشر و منع الأذى ، إنها نعمة مخفية قد لا يشعر بها الإنسان إذ أنها مرتبطة بعدم حدوث شيء، لكن الله سلم، لذلك من أفضال الدعاء أن يحدث ثلاث أمور أولها أن يجاب و ثانيها أن يصد الله بها شر و الثالث أن تؤجل للآخرة لينال أجرها.و الدعاء يرفع البلاء و يمنع حدوثه بفضل الله و كرمه. لذا فإن نعمة كف الشر و دفع البلاء نعمة لا تقل عن الزيادة و الغنيمة.

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)

ثم ذكرت الآيات حكمة الله فى كف القتال رغم استحقاق الكافرين قتالهم إذ صدوا المسلمين عن أداء العمرة و زيارة البيت  ظلما و عدوانا ، لكن المانع هو وجود رجال و نساء مسلمات بين أظهر المشركين يخفون إيمانهم حتى لا يصل إليهم أذى ، و السبب الآخر أنه ربما يدخل أحدهم فى الإيمان بعد ذلك.

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

السكينة:إنها الهدوء الذى يشبه هدوء ما قبل الفجر، و اشراق الضوء الجميل، جعلها الله فى قلوب المؤمنين مقابل الحمية و العصبية الباطلة فى قلوب الكافرين، و المؤمنون أحق بالتقوى و أهل للطاعة و الهداية.

و السكينة أنواع سكينة وقت الحرب للتثبيت و تحمل وقت العسرة، و سكينة وقت المعاهدة و سكينة عند الغضب و الخلاف لتمنع فورة الغضب من الإنطلاق و الحياد عن الحق.

و قد ذكر الله فضل السكينة فى مواقف كثيرة فى القرآن ، التوبة (40) وقت الهجرة عندما أنزل الله سكينته على رسوله و على أبى بكر كيلا يحزنوا او يخافوا فى الغار، فرفعت السكينة الحزن و ازالت الهم و القلق.

و فى سورة البقرة؛ قصة طالوت عندما أنزل الله التابوت آية ملكه فيه سكينة من الله ليتأكدوا من صدق كلامه و يذهب عنهم الشك و الضلال.

و فى وقت الحرب و الغزوات؛ سورة التوبة (26) انزل الله سكينته على الرسول و المؤمنين و انزل جنودا لم يروها تأييدا لنبيه و مبشرا بالنصر.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

ليس معنى تأخر الرؤيا أنها لن تتحقق ، و لا يشكك فى حدوثها و صدقها تأخر تأويلها، فالرؤيا صادقة لكن الزمان غير محدد، عام حدوثها أم العام الذى يليه، و قد تأخر تأويلها للعام اللاحق.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)           

محمد رسول الله شهادة حق من الله و هو خير الشاهدين ، أما صفات المؤمنين الأوائل و من معه فهى :

أشداء على الكفار رحماء بينهم : فمعاملتهم مع الكفار تتسم بالصلابة و القوة و الدفاع عن الحق، أما مع بعضهم فيعم التسامح و الرحمة و الإيثار، و هذا ذكاء فى التعامل حتى لا يطمع فيهم العدو أو يجد ثغرة ينفذ خلالها إليهم مستغلا سماحتهم و رحمتهم.

تراهم ركعا سجدا: يحافظون على الصلاة و النوافل و ذكر الله فى كل وقت.

يبتغون فضلا من الله و رضوانا : هدفهم رضا الله و ليس الرياء و التفاخر، و يخلصون فى أعمالهم و كسب أرزاقهم كما أمرهم الله.

سيماهم فى وجوههم من أثر السجود: و ليس شرطا أن تكون علامة الصلاة المعروفة فى الجبهة ، لكنه الضياء الذى يشع فى وجه المؤمن إيمانا ، لما استنارت بواطنهم بالصلاة استنارت بالجلال ظواهرهم.

و مثل هؤلاء يوجد فى التوراة و الإنجيل، كالزرع فى نفعهم للخلق و احتياج الناس إليهم، يعجب الزراع من استوائه و حسنه  و اعتداله كذلك الصحابة يغتاظ منهم الكفار حين يرون شدتهم و قوتهم و ثباتهم على الحق، وعد الله المؤمنين المخلصين منهم المغفرة و الأجر العظيم.

بدأت السورة بذكر البشرى و الجزاء و هى الفتح و المغفرة ،و انتهت بمثل جميل هو الزرع القوى المستوى على ساقه المعجب لمن يراه و المثمر خيرا و نماءا ،و وعد من الله بالمغفرة و الأجر العظيم.

إن صلح الحديبية يحمل معانى كبيرة فى علم التفاوض مع الأعداء، لقد سعى المرسال الذى أرسلته قريش إلى الوقوف على أشياء صغيرة ليعطل كتابة وثيقة العهد، لكن الرسول تجاوز عن بعض الأشياء الشكلية مقابل أهداف بعيدة هداه الله إليها، فقد وافق الرسول على كتابة "محمد بن عبد الله" بدلا من "محمد رسول الله" ، كما كتبوا "بسمك الله " بدلا من "بسم الله الرحمن الرحيم" فى بداية الوثيقة ، حتى لا يعطى فرصة لقريش أن تعود عن الاتفاق و تظل الأوضاع مضطربة و احتمالات الحرب قائمة.

كذلك اعترض المسلمون على شرط غير متكافئ أصرت عليه قريش و هو أن من جاء محمدا من قريش بدون موافقه وليه يعيده إليه ، أما من أتى قريشا من المسلمين بغير موافقة وليه فلا يعيدونه إلى محمد، و قد طلبت قريش نفسها تعديل هذا البند بعد فترة بسبب تعرض العالقين من المسلمين الذين أتوا محمدا بدون موافقه أولياء أمورهم بين المدينة و مكة فهم لا يريدون العودة لدار الشرك حيث الظلم و التعذيب، و لا يريدون العودة للكفر, فمكثوا يقطعون الطريق على قوافل قريش حتى ضجت بهذا و طلبت تعديل هذا البند ليسمح بعدم إرجاع من أتى محمدا من قريش بدون موافقه أوليائهم. و بهذا تحققت رغبة المسلمين بعد فترة و بطلب من قريش نفسها.

كانت أهمية هذا الصلح فى الاعتراف بشأن المسلمين و كيانهم ، و عدم التعرض إليهم فى مكانهم و إيقاف الحرب 10 سنوات ، و هى فترة كافية لكى يبنى المسلمون أنفسهم و يعززوا جيشهم، و السماح لهم بزيارة بيت الله الحرام فى العام القادم، و هى شروط تبدو مجحفة لم يرض عنها المسلمون أول الأمر ، لكنهم استجابوا للرسول و تراجعوا عن العمرة فى عامهم هذا، مقابل مكاسب أخرى نالها المسلمون.

أيها الغصبان كفى صراخا

أما رأيت السكينة نعمة الرحماء

و هى العطية من رب السماء

ذر الحمية هى شيمة الجهلاء

ليست دليل القوة إنها شر البلاء

و هى الضلالة و غياب العقل

وسبيل الذل و خسارة الأشياء