الأحد، 27 أكتوبر 2013

نظرية الاستخفاف

يحكى الزمان عن فرعون و قومه الذين استخفهم فاستجابوا  له،الذين صدقوا أنه إله و فرض عليهم اتباع رأيه و التحكم فى رؤيتهم و حكمهم على الاشياء مما أدى بهم فى النهاية للهاوية.

"فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" الزخرف (54)

الاستخفاف ببساطة هو إلغاء العقل و وقف إعماله و تحريك الاتباع كأنهم عرائس متحركة.

إن الاستخفاف بعقول لبشر جريمة المذنب فيها و الضحية كلاهما مدان..

فلولا التخاذل و انعدام الهمة و اتباع الطريق السهل الممهد -و إن كانت نهايته سيئة أو بلا نهاية- لما استطاع المستخِف التحكم و توجيه الأتباع كما يريد ،و إحاطتهم ليل نهار بما يريد تحقيقه بخبث و دهاء كطريقة من طرق الدعاية السوداء بالتكرار و الملاحقة.

"وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا " سبأ (33)

 انظر إلى ثقة فرعون و جرأته:

" قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" غافر (29)

"فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ"  النازعات (24-25)

و من يضمن أن القائد منزه عن الخطأ و أن رأيه هو الصواب ؟ لا أحد فالإنسان بطبيعته يحتاج للمشورة و رأيه الفردى ناقص مفتقر إلى الصواب و الرشد

"إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ " هود (97)

هو قائدهم اليوم و قائدهم غدا، فى الدنيا و الآخرة ، ففى الدنيا يقودهم إلى الذل و العبودية ، و فى الآخرة يقودهم إلى النار و يبتدئهم  فى العذاب

"يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ" هود (98)

ووجود مثل هذا الفرعون فى المجتمع بلاء عظيم ،سلاحه الاستعلاء و حاله الطغيان و الإسراف، و وسيلته التفريق بين الناس ليسودهم ؛فيجعلهم طوائف مختلفة يكيل لكل منها ما يراه من العذاب و الهوان ،و لا يستطيع أحد منهم دفع الأذى لأنهم متفرقين ضعفاء أنهكهم الظلم و الصراعات بينهم.

و يكون التخلص من الفرعون فضل من الله و منة على المستضعفين حيث تتبدل الأحوال فيصبحوا هم الأئمة الوارثين و يرى فرعون و جنده ما كانوا يحذرون منهم.

و فى الحياة أمثلة كثيرة لهذا الاستخفاف :

·        على المستوى الواسع مثل تحكم الدول الغربية و أمريكا فى عقول العرب و جعلهم ينسون تراثهم و عاداتهم و ثقافتهم و الانبهار بثقافة و سلوك الغرب من خلال اساليب الدعاية المغرضة فى كل شيء حولهم من إعلان لخبر لأحكام دولية و تهديدات للأمن و غيرها ،و هذا ما يطلق عليه العولمة و التى تؤدى إلى اغفال الهوية العربية و التأثر بهوية الآخر،و الذى يؤدى إلى مزيد من تهالك الشعوب العربية و تهافتها على اتباع ما يريده لها الغرب و يخططون له حتى لو على حساب تاريخ العربى و موضع فخره و اعتزازه.

·        الاعلانات المتدفقة ليل نهار أو ما يسمى ظاهرة التزاحم الإعلانى , و الذى يهدف ؟إلى ترسيخ ثقافة الاستهلاك لدى الوطن العربى و دفعه للمزيد من الانفاق المتكلف ، فقد يشترى ما لا يحتاج لإرضاء ما يشبع لديه حب المكانة و الشعور بالفخامة و التميز حتى و إن دفع كل ما يملك ، فيؤدى للمزيد من الاستيراد و الارباح للغرب المتحكم صانع اعلانات الشركات العالمية متعددة الفروع أو المركزية.

·        وكالات الانباء العالمية ، المصدر الرئيسى للأخبار الخارجية اللازمة لأى صحيفة أو إذاعة تتعمد فى انتقاء الاخبار تغطية الأحداث بما يخدم أهدافها الاستعمارية – استعمار العقول  و الاستخفاف بالبشر- و ترسخ فى أذهان العالم تخلف دول العالم الثالث و انتشار الارهاب فيه و تعثر التعليم و قلة الموارد و بيروقراطية الادارة و تمكن العنف بين أبناء الوطن الواحد و تغلغل الفساد فى اجهزته و حكومته ،و هذا يصب فى مصلحة الغرب إذ تذهب إليه الاستثمارات و يقبل الشباب الواعد على الذهاب إليه و العمل فيه أو الهجرة إليه و إبراز مواهبه و طاقاته ليفيد دول الغرب قبل أن يفيد نفسه و يزيد فيه العمران و التطور دون وطنه الاصلى.

·        و تتخذ حكومات أمريكا و الدول الكبرى سياسات قهرية و تحكمية من خلال التلويح بسلاح المعونة و التهديد بإيقافها أو سحب ودائعها فى البلاد التى بها خلافات داخلية و سياسية ،و تتخذ تلك الحكومات الغربية دعمها للديمقراطية ستارا وراء التحكم فيهم من أجل مصالحها المادية ،فترى التصريحات و الزيارات و الاجتماعات التى تفيض بالمهاترات و الأحكام الخاطئة ،ثم يتم تطويع سياسات الدول الضعيفة لتتبع سياسات الدول الكبرى المتحكمة.

إنها نفس اللعبة منذ قديم الزمان : التحكم فى الضعيف ما دام لا يٌعمِل عقله و يعميه خوفه عن الوقوف فى وجه المسيطر ليقول له كفى لى رأيى الذى يختلف عن رأيك و مصيرى بيدى فليس لأحد حق التحكم فيه.

·        و الاستخفاف بعقول الاشخاص باسم الدين ليختلقوا شعارات تلهب المشاعر عن فضيلة الجهاد و ما هو إلا افساد للمجتمع و اراقة دماء و نشر للفتنة و الهدم كما يقوم المنظمات بتجنيد الشباب لتعليمهم فنون القتال لاستخدامهم فى عمليات ارهابية قد تكون انتحارية من أجل ما يوهمونهم به من أنه استشهاد فى سبيل الله جزاؤه الجنة بينما هم يحققون أغراضهم السلطوية الدنيوية و يسعون لتفتيت المجتمع ليسهل التحكم فيه و ترويضه لمصالحهم الدنيئة.

·        و على المستوى الاسرى تحكم الأب فى مصير أولاده سواء التعليم أو الزواج فيتعثرون فى دراستهم و يعملون مضطرين فى مجالات لا تروقهم ،أو يتزوجون بما لا تهوى انفسهم فلا يستطيعون الإكمال و الصمود و يظلمون شركاء الحياة و أجيال أخرى. و تظل لعنة الاحساس بأنهم السبب فى تدميرهم بالتحكم الأعمى تطاردهم طول العمر فتفسد علاقة المودة بين الاب و ابنائه.

·        و التحكم الممقوت فى الزوجة لتصبح دائرة فى ساقية المطالب اليومية دون أن تحقق لنفسها أى شيء بينما يكبر الجميع و يزدادون مالا و جاها و مكانة فى المجتمع ، يستقل الجميع و تبقى هى تجتر الذكريات و تحمل آلام الكبر و وهن العمر.

إن استجابتها المطلقة لكل ما يُطلب منها حتى لو على حساب إنسانيتها  و كرامتها لمن الاستخفاف المؤذى ؛لأن رضاها بمكانها الثابت حيث تخدم الجميع و لا يفكر فيها أحد تضحية ضائعة ،فالآخرون فى صراع محموم فى الخارج جريا وراء نجاحهم و رفاهيتهم ناسين الجندى المجهول ،و ما العجب فى ذلك ؟إذا نسى الإنسان نفسه ينساه الآخرون و لا شك ،و إذا لم يعمل على مكانته فلن ينفعه أحد و لن يساعده على الوصول و تحقيق الهدف الذى أرده و الحلم الذى رواده.

فالهمة الهمة أيتها الزوجات المستضعفات الغافلات عن الحياة. فبعد أن يمضى الزمن و تضيع سنوات العمر الزاهية و تذبل ثمرة الجمال المزدهرة سوف تعشن فى انتظار- بل تسول - للبر و التقدير و السؤال عنكن ،و بعد أن تميل فروع الأيام و تظلل أوراقها عليكن الحزن و تغيب شمس الشباب لن ترين سوى العجز و قلة الحيلة و الهوان على الناس.

و لن ينفعكن اليوم دموع الحسرة على السنين البائدة و الأعمال المبتورة فقد مضت فرص العمل و السعى الدءوب و جاءت سنوات القسوة و الجدب.

 إن نظرية الاستخفاف تنص على أنه لا يمكن تعطيل العقل و الإرادة إذا ما تحرر الإنسان من خوفه و قدَر نفسه حق قدرها إذ كرمه خالقه بالعقل و القدرة على الاختيار و تحمل تبعاته.
و متى تحقق الاستخفاف تمت الطاعة المطلقة لكل ما يقوله القائد حتى لو أمر بما يؤذي و حتى لو أدى بالتابع إلى الهلاك فى الدنيا و الآخرة.

 

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

القرار الأخير



عندما تضيق السبل بالطفل الصغير فلا يجد فى والده سوى الجلاد بدلا من ان يجده الشخص الذى يدافع عنه يفقد الطفل صوابه و تذهب جميع المعايير و القيم التى تربى عليها مقابل الهروب من القسوة و السجن المسمى حماية الابناء و مستقبلهم.
السعى وراء الكمال هو عين السراب فللإنسان الحق فى الخطأ ؛الحق فى التجربة و اكتشاف الحقائق بنفسه و ليس بما يمليه عليه الآخرون ؛أما ما يقوم به الآباء شديدو الحرص و التزمت مع أبنائهم من إجبارهم على اتجاه معين و عقابهم بشدة إن حادوا عنه أو لم يتمكنوا من تحقيق ما كانت تصبو إليه نفوسهم فهذا من أنواع الظلم الممقوت.
إنه الظلم الذى يرتدى قناع الشرعية فمن باب تأديب الابناء يعرضهم لعذاب جسدى و نفسى ،إنها نفوس مريضة فالأبناء ليسوا ملكا لآبائهم و هم كأى شخص آخر محمى من الاعتداء و لا يحق لأى احد أن يتطاول عليهم بالضرب بحجة التأديب و إلا فقدوا آدميتهم و حطموا احترامهم لنفسهم و اصبحوا مسخا لكائنات بشرية يحركها الخوف و يدفعها الآخرون لفعل الشيء أو تركه ،فيعانون من اضطرابات و اهتزازات نفسية تعوقهم عن التمتع بالحياة أو الانجاز بها فأقصى ما تتمناه نفوسهم هو النجاة من العقاب حتى لو بالكذب أو الهروب أو سائر الصفات الذميمة ،و هذا ليس الحل لبناء شخصية خلاقة ناجحة.
فى قصة "القرار الأخير" لنجيب محفوظ نجد شخصا فظ غليظ القلب على وجهه ملامح القسوة و فى يده أدوات الضرب يلوح بها لأبنائه ليل نهار و لزوجته المسكينة التى لا يغفر لها هفواتها المنزلية  و لا يقدر وهنها الإنسانى ،فيلهب الجميع بصوته الاجش و ثورته الجامحة لأقل شيء.
و لم تفلح محاولات الجيران لإنقاذ أولاده من دوامة العقاب اليومية على أتفه الأشياء حتى الاشياء التى يتدخل فيها القدر فيتأخر ترتيب الولد عن الاول لأى سبب فيكون مصيره الجلد..حتى البنت لم تسلم من تلك العقوبة غير المناسبة لرقتها و ضعفها كأنثى.           
ماذا يكون مصير هذا الرجل ؟لقد أنفذ غضبه و أمضاه فيمن أراد لهم القدر أن يكونوا تحت سطوته و لم يملكوا المقدرة على الفرار ،لكن الجزاء ينتظره غالبا ما يكون من جنس العمل ،فما جزاء انفجار الغضب اليومى و انطلاق السنته فى وجه من حوله سوى انفجار داخلى أيضا  فى نفسه   المريضة بداء القسوة و السعى المحموم وراء الكمال اللانهائى.. لقد مات بانفجار فى المخ.
لكن ملابسات موته غاضبة فقد شابها تهمة القتل ...
إذا كانت الزوجة قد ترضى بالعيش مع مثل هذا الرجل الفظ القاسى الشديد و تصبر نفسها تارة بأنه قدرها و أنه النصيب و أن البديل هو الأسوأ لها ،و تارة بأنه بذلك يحمى أولادها و بيتها من الانحراف و يحسن السيطرة على أبنائه و تتناسى ما ينالها من لهيب غضبه خشية أن تعيش وحيدة أو ذليلة للآخرين ،فإن الأبناء لديهم رأى آخر ..
الابن الاكبر خرج من البيت و لم يعد ،خرج بلا عتاد من شهادة أو مال خرج هاربا من الجحيم للمجهول ليس أملا فى مستقبل أفضل أو لهدف محدد لكن هروبا من ماض أسود لا يستطيع أن يستمر فيه ،فاستخدم حقه كرجل فى اتخاذ القرار بالاستغناء عن مثل هذا الأب و عن كل ما يحتاجه منه كابن لم يعتمد على نفسه بعد فى العيش و كسب المال مقابل الحصول على حريته و الاحتفاظ بكرامته.
و الابنة قفزت فى بئر المجهول بزواجها بشكل غير متكافئ من رجل كبير فى السن لا يوجد ما يحملها على قبوله سوى الهروب من لعنة الأب القاسى.
أما الولد الأصغر فقد شاهد كل هذا بحس الابن العطوف على أمه الذى يستفيد بتجارب إخوته الأكبر فى كيفية التعامل مع قنبلة البيت الأب الشغوف بالعنف و القسوة ،و لذلك قرر الدفاع عن نفسه و عدم الانتظار ليكون مصيره مثل مصير إخوته المتخاذل السلبى ،لذلك نوى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة أى عدوان جسدى مرتقب من والده ،تعلم الولد فن الملاكمة فى المدرسة و خارجها و ساعده على ذلك صغر سنه و قوة عزيمته.
و فى اليوم الموعود – يوم النتيجة و الرسوب – دق قلب الولد دقا عنيفا لمرأى والده ،ليس خوفا منه مثل كل مرة قبيل الهجوم لكن استعدادا لممارسة الدفاع عن النفس مع والده لأول مرة و بشكل مباغت له.
و من أول لكمة هوى الأب على الأرض و هو يشهق ثم فقد الوعى ،ما السبب ؟قد يكون تفاجأ بموقف الولد أو تكون شدة ضغط اللكمة و تأثيرها على رأسه .. المهم فى النهاية أنه مات بانفجار فى المخ.
و كان من نتائج تلك اللكمة التاريخية:الأم أصابها الكمد و الهم و ماتت محسورة بعد فترة قصيرة ،طلقت الابنة و عادت خاوية الوفاض ،عاد الابن الاكبر دون أن يستقر فى عمله إذ لم يكمل تعليمه.

أُلصِقت تهمة قاتل أبيه  بالابن الاصغر حتى بعد عدم إدانته من جانب الحكومة ،و لكنه لم يهرب و استمر فى طريقه الذى عوده أبوه عليه ،و كانت النتيجة أنه الوحيد الذى أتم تعليمه و توظف و استقربه الحال.. لكنه مع ذلك أتعس الجميع.
ما سر هذه التعاسة ؟ سببها بالتأكيد هو القرار الأخير الذى اتخذه الولد فقد كان قرار مبادلة الهجوم مع والده هو الاول و الأخير بشأن التعامل مع والده ،بعدها تخلص من سطوته للأبد لكن ضميره يوبخه دوما على أنه كان سببا فى وفاة والده الذى و إن كان سببا فى كرهه للحياة و العلم و كل شيء بشدته القاسية لكنه وضع قدمه على الطريق الصحيح الذى كفل له حياة مادية مستقرة و إن لم يكفل له نفسية سوية و لم يحقق له السعادة و الهدوء النفسى. و عكر عليه الاحساس بالذنب صفو حياته فكأن والده كان سببا فى تعاسته قبل و بعد موته و لم يورثهم سوى الهم و الغم.
فهل حقق هذا الأسلوب ما كان يريده الاب من بلوغ الكمال ؟إنه لم يحقق الحد الأدنى من السعادة و الرضا و لم يوفر التميز و لا الانفراد عن باقى الناس فلماذا يشق الإنسان على نفسه و أهله ،و يجرى وراء أوهامه و أطماعه البعيدة ؟إن تحقيق المستحيل لا يتحقق بالقوة و إنما بالحب و التشجيع و الأخذ بالأسباب. حتى العقاب لابد أن يكون محدودا بدون إيذاء و يكون مبنيا على حكمة و محققا لهدف تربوى ،فالعقاب ليس انتقاما ؛هل ينتقم الانسان السوى من أولاده؟ بل وسيلة أخيرة بعد الترغيب و الترهيب و الإنذار بالعقاب ،ثم يأتى العقاب فى أخف صورة بما لا يؤذى الابن لاحقا ،حتى لا يكون سببا فى كره الابناء لأبيهم و للدنيا ،و إصابتهم بالعقد النفسية و انطفاء أملهم فى الحياة.
إن العقاب القاسى المستمر وسيلة لانتقام الاب من أبنائه إذ لم يطيعوا أوامره و لم يعظموا نواهيه -و هذا ينطوى على احساس بالغرور الداخلى و العظمة و ليس من الأبوة فى شيء -و ليس وسيلة تربوية للإصلاح و هذا أفشل ما يكون من الأب الذى لا يعرف عن  الأبوة شيئا سوى انفاق بعض الأموال كأنه فرض عليه و ليس بحب و عطاء. و مثل هذا الأب يكون غافلا عن الحديث الأبوى الرحيم مع أولاده ؛الحديث الهادئ الطويل الذى يسكب فيه الأب خبرة الأيام و حكمة السنين بشكل لطيف و غير مباشر فى نفوس و ذاكرة أبنائه ،هذا الحديث الذى يشيع فى نفوسهم الطمأنينة و يزرع الثقة بالنفس و المجتمع و يبنى شخصية ثابتة ناجحة.
و بالتالى فهو ليس وقتا مهدرا أو تبسطا زائدا مع الأولاد ،و لا يصح أن يتعلل الأب بكسب العيش و السعى وراء المادة للهروب من تربية أبنائه بالحسنى و الصبر،بل عليه أن يحرص على الحوار مع أبنائه و تحمل جدالهم و تخبط أفكارهم بدلا من اللجوء للحلول العنيفة السريعة التى تخرس الألسنة مؤقتا لكن تطلق البغضاء و النفور ثم رد العدوان بمثله لاحقا.

أن مثل هذا الأب لن يجنى سوى الندم ،و الاحترام الذى أراد ان يناله قسرا سوف يصاحبه تحطم لأركان المودة و السعادة و سيجد من الأبناء ضيقا به فى احسن الاحوال و تمنيا لموته فى أسوأها ،و لن يجد ما يتكئ عليه فى شيخوخته من بر الأبناء و حبهم ،لأن رصيده فى بنك العطف و الحب صفر.