الأحد، 22 سبتمبر 2013

دع الحزن للحمقى




حكمة رائعة لذوى المآسى و المشكلات الصعبة..."دع الحزن للحمقى" فالحزن لن يجدى شيئا و لن يستفيد منه لا الحزين و لا المحزون عليه ..فقط نفسه التى سوف تذبل و أيامه التى سوف تضيع.
رجل ذاق مرارة موت الأحباب مرارا بداية من زوجته الاولى و أم أبنائه التى فارقته و هو فى الأربعين و نهاية بأقرب الأقربين إليه ،لكن القدر اهدى إليه زوجة لم يكن ليفكر فيها إلا بعقله ­­و من المنظور الاقتصادى البحت ،فقد كانت أخت زوجته أرملة بلا أبناء فى الأربعين أيضا مثله ،و كانت تحب أبنائه بإخلاص ، و بالرغم من قلة جمالها الشكلى لكنها كانت ذات روح مرحة و ذكية و لبقة فحولت حياته نعيما متزايدا...
و على عكس كل الأزواج الذين يجأرون بالشكوى من عيوب زوجاتهم ليل نهار ؛ فقد كان هذا الرجل لا يقول عنها إلا خيرا ،يكاد يحسد نفسه على هذه الزوجة التى أسعدته و لا تزال حتى بعد أن هبت عليهما رياح الخريف و تقدم العمر و تزوج الأبناء ..
لكن الصدمة جاءته يوما بوفاة تلك الزوجة فجأة بأزمة قلبية، فأصبح زاهلا يكاد يكون ميتا و هو حى لا يرى للحياة طعما و لا يجد فى العيش رغبة.
و قد ظن أصدقاؤه أن هذا حال مؤقت شأن سائر الأحزان ؛وهيهات أن يخبو حزنه عليها أو تبهت ذكراها ، لكن جزاء الحزين المزيد من الحزن : جاءه خبر وفاة ابنته و هى تلد ، و ظن من حوله أن مصيبة فقد ابنته ستفوق مصيبة فقد زوجته و أن المرحلة القادمة من حياته ستشهد حديثا مؤلما عن ذكريات الابنة و لوعة فقدانها ،لكن يأبى حب زوجته الراحلة إلا أن يسيطر على نفسه و يهيمن على تفكيره ،فاعترف الرجل أن حزنه عليها يفوق حزنه على ابنته.
و لأنه أدمن الحزن و نسى الرضا فقد جاءته الأيام بمزيد من الأحزان :توفى ابنه فى الحرب..
لكن الحكمة تسربت إلى عقله فعلم أن هذا قدر و ما جاء من الله فهو خير
ففاجأ أصحابه - الذين تصوروا أن الحزن سوف يقضى عليه هذه المرة – قائلا "تضاربت الأحزان فهلكت جميعا"!  ما أعظم تلك الفلسفة، تذكرنا بالدعاء اللهم اقصم الظالمين بالظالمين و أخرجنا من بينهم سالمين..أحزان  تصارعت معا فذهبت جميعا لتحل الطمأنينة و الرضا.
و تعجَب الرجل من السلام الذى حل به و أذهب عنه الحزن و أورثه الحكمة فقال "لا شيء يستحق الحزن ..دع الحزن للحمقى ..أنا الآن مثل طير لا تربطه علاقة بالأرض"
لم تكن حالته هى من حالات الحزن المفرط المؤدى للهستريا بل كانت سعادة حقيقية بحاله الجديد فقد اكتشف فجأة أنهه تحلل من أى مسئولية أو قلق على الآخرين ، و أنه الآن فقط قد أصبح ملكا لنفسه يفعل ما يريد فى أى وقت بدون أن تدفعه المسئولية إلى الغاء أو تأجيل ما يريد فهو يسمع الأغانى كما يحلو له و يأكل ما يشتهيه و يخرج وقتما يحب فهو حر إذن ..حرية لا يعرفها إلا قليل من البشر.
قد يكون الفراغ الكامل من المسئولية مفيدا فى مرحلة زمنية معينة كما حدث لصاحبنا الذى فقد أهل بيته تباعا ، فلا يوجد الابن و الابنه الذين يلجأون اليه عند الشدائد و لا توجد الزوجة التى تحتاج لرعاية و اهتمام ، الجميع واراهم التراب و زالت مسئوليتهم و مشاغلهم التى كان يتحملها.

إن المفقودين نفتقدهم حقا لكننا مطمئنين عليهم، فهم فى معية الله ، و لن يأتى يوم و نفجع بمرضهم أو بسماع خبر سيء عنهم أو نرى ألمهم و حيرتهم فى الحياة، فقد غادروها – و سبقونا – إلى ربهم الرحيم العادل فلا يخشى عليهم من ظلم و لا ألم فهم فى معية الله و كفى.
و يصبح لدى الإنسان مناعة من الحزن بعد تكرار أسبابه و تكاثرها عليه، و هذا من آثار رحمة الله و عنايته بخلقه و علمه بضعف الإنسان و جزعه من المصائب. فجعل الايمان بالقدر و الصبر على الابتلاء سببا من أسباب الرضا و استقرار النفسى.
"و من يؤمن بالله يهدى قلبه"


المرجع : نجيب محفوظ – مجموعة قصصية بعنوان "القرار الأخير"
           قصة "الحزن له أجنحة"

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

عيون الجدة



الجمال ليس فى نعومة الوجه و نضارته ،و لا انطلاقة الشباب و انعكاساتها المضيئة ،بل قد يكون كامنا فى أعماق العيون فى نظرة السكون ,و إحساس الطمأنينة الذى يغمرك عندما تنظر إلى عينى الشخص و تستريح لملامحه  تأنس للقائه و الجلوس معه.

هكذا يكون إحساس الأحفاد و الأبناء و من يعيشون مع الجدود و كبار السن ،لاسيما الجدات اللاتى اعتدن على حكى القصص و إثراء الخيال و إمتاع الأطفال بتلك الرحلات اليومية العقلية التى تنطلق من فم الجدة و تنتشر فى كل اتجاه لتنتهى إلى أماكن و أزمنة مختلفة و شيقة ؛فتقدم للأطفال نوما هادئا و مشاعر سعادة و رضا عن العالم الواسع ،الذى بالرغم من غموضه لكنه غموض لا ينطوى على خوف من المجهول ،و لا يدفع للتراجع و الاختباء فى الجحور ،بل غموض يدفعك لاكتشاف أسراره و خوض أغواره لتصل إلى الهدف المنشود و تنعم بإحساس الانتصار و سعادة الوصول.
و لكن هذه الجدة أليس لها نصيب من ذكريات الحب التى يمتلكها الشباب و يتغنون بها و يرسمون أحلامهم فى مدارها ؟ أليس هناك زهور تداولتها الجدة فترة من الزمن ثم اختزنتها كجوهرة ثمينة رمزا للحب الأبدى و الإخلاص السرمدى ؟بلى لديها الكثير.. بل أن زهور الماضى تتجدد بدموع الاشتياق التى تنساب من عينيها كلما فتحت كتاب الذكريات ، لتتحول رائحة تلك الوردة الجافة إلى عطور فواحة تملأ أرجاء المكان و إن اختلف الزمان و غاب أبطال المشهد وراء التراب. إنه سحر دموع الجدة المباركة الذى يجعل الوردة كأن الحياة تعود إليها.

الجدة ببساطتها و نقاء سريرتها ما زالت نظرات عينيها الوادعة تستقر فى النفوس لتقول لهم أن الدنيا ما زالت بخير ،و أن المخاطر لن تأتى إليهم طالما نفوسهم نقية و نيتهم خالصة و عامرة بالحب ؛و تلك الحكمة التى أورثتها لهم و طبقتها عندما أوصت بدفن كتاب الأناشيد معها ،ربما يكون رمزا للحكم و النصائح أو الترانيم العذبة التى ترتاح لها النفس و إن لم تفهمها ،إن السعادة ليست مستحيلة مهما زاد الشر و الحقد و الأطماع ، و عيون الجدة باعثة للأمل دائما و أبدا ؛فالعيون لا تنسى...هكذا قال كاتب الأطفال أندرسون صاحب الحكايات الشهيرة التى أبدعها منذ قرون عديدة ،لكنا لم تفقد حيويتها و بهجتها ،و بالرغم من كونها حكايات للطفل و خيالية فى بعض الأحيان إلا أنها فلسفية و يتعلم منها الكبير و الصغير.

و هذا نص القصة كاملا:
الجدة عجوز فى وجهها الكثير من التجاعيد و شعرها أبيض تماما ، لكن عينيها تلمعان مثل نجمتين..يا لجمالهما ؛ إنهما حنونتان و النظر إليهما بركة، و علاوة على ذلك فهى تحكى لنا أحلى القصص ،تلبس الجدة ثوبا بزهرات كبيرة جدا ،إنه فستان قماش من الحرير السميك الذى يخشخش ،الجدة تعرف الكثير لأنها عاشت طويلا قبل الأب و الأم و هذه حقيقة لا شك فيها .
لدى الجدة كتاب أناشيد دينية بقفل من فضة تقرأ فيه بين الحين و الحين. و فى منتصفه كانت هناك وردة جورية جافة مضغوطة (الورد البلدى) ليست بجمال الورود الجورية التى تضعها فى المزهرية ،و مع هذا فهى تبتسم لتلك الوردة الجافة بكل لطف و حنان بل ينساب الدمع من عينيها.
لكن لماذا تنظر الجدة هكذا إلى الوردة الذابلة فى الكتاب القديم ؟ هل تعرف السبب ؟
فى كل مرة تسقط دمعة من عين الجدة على الوردة يعود اللون إليها تنتشى و تمتلئ الغرفة بعطرها..و الجدران تختفى مثل غيمة حولها كل اخضرار الغابة الجميلة حيث يخترق شعاع الشمس الأوراق ، أما الجدة فتعود صبية فتاة بخصلات شعر ذهبية و وجنتين مدورتين حمراوتين جميلة رقيقة.
أما العينان فهما الحنونتان المباركتان – و هما لا تزالان كذلك – يجلس بجانبها رجل يافع ضخم الجثة جميل الوجه يناولها الوردة الجورية فتبتسم له. و هى ابتسامة لا تشبه ابتسامة الجدات لكن بلى هى ما زالت تبتسم هكذا ،و ابتعد الشاب و مر العديد من الذكريات و الشاب جميل الطلعة ما يزال بعيدا أما الجدة فتجلس مرة ثانية هنا امرأة عجوز تنظر إلى الوردة الذابلة المستقرة بين طيات الكتاب.
و قد ماتت الجدة الآن.. كانت ذات يوم تجلس متكئة فى كرسيها تسرد القصص الجميلة الطويلة جدا حتى وصلت لآخر القصة و قالت "و عاشوا عيشة سعيدة " و انتهت القصة و أنا قد تعبت تماما الآن ، اتركونى لأنام قليلا. بقيت الجدة ساكنة فى مكانها أنفاسها هادئة و قد نامت – لكن الصمت عم المكان أكثر و أكثر ، ووجه الجدة يعلوه سلام و اطمئنان و كأن شعاع شمس مر عليه ، ثم قالوا أن الجدة ماتت.
و قد وضعت الجدة فى تابوت أسود ملفوف بقماش أبيض كانت جميلة جدا رغم أن عينيها مغمضتان لكن كل التجاعيد اختفت و ارتسمت ابتسامة على شفتيها ، كان شعرها أبيض فضيا يوحى بالوقار ،و رغم أنها كانت ميتة فالنظر إليها لم يكن مخيفا بتاتا. انها هى الجدة الحلوة الطيبة التى نعرفها ،و قد وضع كتاب الأناشيد تحت رأسها كما أمرت هى و الوردة بين طياته ،و قد تم دفن الجدة.
عند قبرها زرعوا شجرة ورد جورى كانت مليئة بالورود ،يغنى العندليب فوقها و يسطع القمر قليلا على القبر، و بإمكان أى طفل أن يذهب إلى المقبرة ليقطف وردة دون خوف ،فالميت يعرف أكثر مما يعرفه الأحياء الميت يعرف الخوف الذى نشعر به إزاء حدث غريب كأن يأتى الأموات إلينا ،الميتون أفضل منا جميعا و لن يأتوا.
هناك تراب حول التابوت و تراب فيه ، و سيصير كتاب الأناشيد بأوراقه ترابا و الوردة و كل الذكريات ستسقط فى التراب ، لكن فوق التراب ستزهر ورود جديدة و سيغنى العندليب ..سنتذكر الجدة العجوز و عينيها الحنونتين اللامعتين إلى الأبد . العيون لا تموت أبدا ، عيوننا ستراها ذات يوم شابة جميلة مثلما كانت عندما قبَلت الورة الحمراء اليانعة لأول مرة و التى صارت ترابا فى قبرها الآن.
كتبت فى 1863 - اندرسون

القصص التى ترويها الجدة طويلة مثل حياتها ، وأهم ما يميزها النهاية الجميلة لكنها قد أرهقتها السنون الطويلة  كما أرهقتها الحكايات الطويلة فاستسلمت للرقاد الأخير ،لقد طلبت من أحفادها أن يتركوها تنام قليلا لكنها كانت نومة طويلة و أبدية.. 

بعد موت الشخص تموت كل الأشياء العزيزة عليه حزنا و كمدا على فراقه ؛بالرغم من أنها جمادات إلا أنها تموت بموت قيمتها عند من يقيمها و يجعل لها وزنا كبيرا عنده ،من أجل هذا أوصت الجدة بدفن كتاب الأناشيد معها فلن يوجد أحد يفهمه و لا يقدره بعدها ،و هى الأولى بصحبته فى حياتها و مماتها ،و ربما لأنه أعز الأشياء لديها و بداخله أعز الذكريات الموصولة بالأحبة التى فارقتهم فى الدنيا و تأمل أن تلتقى بهم فى الآخرة ، و هذا سر السلام و الاطمئنان التى علت وجهها عند وفاتها رضا بوصولها إلى ما كانت تتمناه.
و يبدو أن الجدة كانت تعيش حالة من الصوفيه فريدة و لديها من الروحانيات ما يدفعها لأن تجعل قفلا من فضة حول كتاب الأناشيد هذا فهو أثمن ما تملك و كأنه حلقة الوصل بينها و بين النورانية و الشفافية التى تتمتع بها.

حتى مقبرتها لم تكن مقبرة بمعناها المخيف بل هى واحة بها ورود و مضيئة بنور القمر، فليس لها وحشة القبور و لا ظلامها ،و لهذا يأتى إليها الأطفال بلا خوف لقطف الزهور .
لقد فنت الجدة و تحولت و أشياؤها إلى تراب ، لكنها دورة الحياة ؛فنت لتعطى لنا خيرا جديدا و أجيالا يانعة ترث الحنان و المعانى الجميلة و تردد الأناشيد القديمة لكى تتذكر دائما تلك العيون الحنونة التى لا تنسى أبدا ستظهر فى عيون أبنائها و أحفادها و فى قلب الورود الحمراء التى حولها و من بين التراب.
إن الشخص طيب القلب يموت و هو أكثر جمالا من ذى قبل و قد زالت عنه هموم الدنيا و متاعبها ، لذلك تبدو السعادة على وجهه عند لقاء ربه..
"وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ " سورة فاطر(34، 35)