الثلاثاء، 12 فبراير 2013

بر الوالدين المؤجل



"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " الإسراء (23)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

إن الوالدين هبة من الله و نعمة لا يقدرها إلا من يفقدهم ،من أجل هذا كتب الله على الانسان بعد تحريم الشرك عليه أن يقدم لوالديه الإحسان و البر، خاصة عند كبر سنهما و ضعفهما ، و أمره بعدم التضجر منهم أو من خدمتهم ، بل الصبر عليهم و التواضع لهما قولا و فعلا فالفضل السالف لا ينسى ..
لكن الشيطان كعادته يثبط الهمم و يؤجل الخير إلى حيث ينتهى الأجل أو يوشك أن ينتهى ،فلا يزال الإنسان طفلا مدللا ينهل من عطاء والديه ،و يحكى لهما همومه و ما يثقل كاهله ابتغاء النصح و تخفيف الهموم ،حتى بعد أن يبلغ مبلغ الرجال و يدخل مرحل الكهولة لا فرق فى علاقة الأبوة و الأمومة بين طفل يحبو و رجل فى الدنيا يعلو ،الكل طفل حين يلقى والديه ،ينفض همومه على أعتاب دعواتهم الصادقة و هو يثق أن النجاة من أى مشكلة ستكون على أيديهم ،و أن اليسر منبعه من خبرتهم و تصرفهم ،و أن تصحيح مساره إن اعوَج سيكون بتوجيهاتهم.
إنها الطمأنينة و الأمان مستقر فى نفس الإنسان طالما أن والديه يظللان بحنانهما عليه ،و يسبغان عليه من خير الدعاء و العمل ما يقيه شر متاهات الزمن و قسوة الحياة...لكن الحال لا يستمر و تتقلب الأيام بين فرح و حزن،فيمرض أحد الأبوين أو يعجز عن قضاء مصالحه و رعاية نفسه ،فتكون الفرصة سانحة و ذهبية ليقدم لهما العون و الرعاية التى يستحقانهما ، باذلا كل ما يملكه من أجل أن يسعدهما و يحظى برضاهما..
لكن الأجل قد يعجل بالأب أو الأم فيلقى الله قبل أن يدرك الابن فيسرع لهما و يقدم لهما ما يريد من الحب و الرعاية و الاعتراف بالجميل ،فقد يكون الابن فى سفر ابتغاء طلب الرزق ،و قد يكون غير مدرك لخطورة المرض و صعوبته لاستحياء الاب أو الام أن يجهر بالألم أو طلب المعونة ،فتكون النتيجة أن يدرك الابن متأخرا أنه كان عليه كذا و كذا من أسباب البر ،و أنه كان عليه التعجل و تفريغ النفس من أى اهتمام سوى رعاية والديه فى أواخر أيامهما ،و الأهم من ذلك الاعتراف أمامهم بحبه الشديد لهما و تقديره لفضلهما عليه طوال عمره. إن تأخير المصارحة بالحب مؤلمة عندما يصبح الحبيب فى العالم الآخر و تنقطع سبل التواصل ، و لات حين مندم عندما يبكى الابن على يد أمه أو أبيه المتوفى طالبا الصفح و مجاهرا بالحب و العرفان..
لكن الله رءوف بعباده رحيم بهم ،يقدم لهم دائما وسائل العودة و ييسر لهم الأوبة ، فتجئ تلك الآية الكريمة بردا و سلاما على القلوب الذائبة حزنا و ندما:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
فالله يعلم بما فى قلوبنا تجاههم و عجزنا عن أن نقدم لهم ما نريد بعد أن يرحلوا ،لذلك فتح باب الغفران ،و ترك للميت ثلاثة أبواب لعمل الخير ،و من ضمنها دعاء الولد الصالح و هذا ما يستطيع الابن تقديمه و الانتظام فيه، بالإضافة إلى الاكثار من الصدقة و وصل من كانوا يحبون و استمرار أعمال البر التى كانوا يقومون بها. فربما يرضى هذا نفس الابن الحى و روح الوالد الميت و يعم على الجميع سكينة من الله و كرم منه الوهاب فيجعل لهم حسن مآب.
و الخير موصول بين دعاء الولد لوالديه و بين المكانة العالية التى قد يصلون إليها، فالله قد يدخل الانسان مكانة أعلى حتى يجتمع بأبويه فى الجنة و يهنئوا باللقاء الأٌسري..
"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ " الطور(21)
القرآن شفاء كل داء ، و شفاء لما فى الصدور  من حزن و هم و ندم و ضيق ،و تأتى الآيات متكاملة لتعالج خفايا النفوس و ما تخفى الصدور  ما دق عن الوصف ، فالله أقرب للإنسان من حبل الوريد ،و هو الخبير الذى وسع علمه كل شيء و تسبق ذلك رحمته و حكمته التى تعجز دوما العقول عن فهمها لكنها تصدقها و تسلم بها.
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق