الأربعاء، 20 فبراير 2013

سورة الشمس و أحوال النفس

الشمس و القمر آيتان بينتان متعاقبتان يوميا لا يخفى على أحد ظهروهما و غيابهما ، كوضوح الشمس و اتفاق الجميع على ظهورها و سطوعها وقت الضحى و لا ينكر أحد النهار الجلى الواضح، و مضى بعض المفسرين إلى أن تتابع الأوقات و الأزمنة بين مشرق و مظلم فى هذا القسم إشارة إلى تتابع الفترات و العصور المظلمة بالضلالة بين البشر و الأوقات المضيئة بالهداية.

و السماء المرفوعة بغير عمد كبناء ضخم مشيد، و الأرض المبسوطة الممهدة.إن خالق كل هذه الآيات خلق النفس بأحوالها ، فهى تعلم طريق الفجور و طريق التقوى، قد أعطاها الله القدرة على التمييز و الاختيار بالإلهام الفطرى من خالقها و هاديها.
و فى قوله "و السماء ما بناها" و "و الارض و ما طحاها" تأتى "ما" بمعنى "من" مثل الآية "و والد و ما ولد" 

جاء الحديث عن آيات الكون بشكل مختصر و متتابع ،لكن عند الحديث عن النفس البشرية جاءت الآيات تفصيلية عن تلك النفس العجيبة و أحوالها بين الهدى و الضلالة و الطاعة و المعصية، و عرض العاقبة فى الحالتين إما الفلاح و إما الخسران. فمن أراد زكى نفسه فعليه أن  يطهرها من الذنوب و يعليها عن الخطايا و يصلحها بالعمل الطيب و إلا فليتبع نفسه هواها لتنطلق بلا روابط و لا مرشد لها سوى الأهواء و الرغبات.

يقول الإمام ابن القيم : أصل التدسية فى "من دسَاها" هو الإخفاء فالعاصى يدس نفسه بالمعصية و يخفى مكانها و يتوارى من الخلق من سوء ما يفعل ،أما تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بآيات الله و التدبر فى النفس و فى الآفاق ،و بالتعقل تزكو النفوس و تسمو و تعلو على مدارج الكمال حتى تكون مع الأبرار .و تدنيس النفس هو الانسلاخ من آيات الله فيلغى سمعه و بصره و عقله و يحرمها من غذائها النافع فيرتد إلى أسفل سافلين فيتبعه الشيطان و يجره إلى كل شر.فالطاعة و البر تكبر النفس و تعليها حتى تصير أشرف شيء و أزكاه فلا تذل إلا إلى الله ،فما صغَر النفس مثل معصية الله ،و ما كبرها و أعلاها مثل طاعة الله.

ثم سرد مثالا قوم ثمود للأمم الخاسرة حيث كذبوا رسولهم ، و عقروا الناقة المباركة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم ، و ظنوا أنهم منتصرين معجزين لكن النتيجة أن دمدم الله عليهم الأرض فاستوت بهم و انطمست معالم قريتهم ، و فى ذلك تخويف شديد إذ لم يتم ذكر مثالا من القرى المؤمنة (مثل قوم يونس) فى هذه السورة ليبقى تأثير الترهيب من سوء العاقبة للنفوس الخبيثة الشاردة عن طاعة الله المعرضة عن الهداية و السالكة طريق الشر.

و المراد الترهيب من اتباع هوى النفس و سلوك طريق الفجور بدعوى أن الانسان مسير و القدر معلوم من قبل الخلق، بل الانسان مسئول عن اختياره مهما قال من أعذار و جادل بغير دليل ظاهر، "بل الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره" فالحساب لا يكون إلا على إرادة كاملة للفعل و عزم النفس عليه.

و اختيار الكلمات (طغواها – أشقاها – دمدم  - سواها – عقروها – يخاف) تدل على شدة غضب الله عليهم لطغيانهم و قسوة قلوبهم  إذ تجرأوا على آيات الله و عصوا رسولهم و استهانوا بتحذير الرسول لهم و توصيته بعدم المساس بتلك الناقة، اجتمعوا اجتماع شر و اختاروا أشر الناس فيهم – رجلا بلا قلب و لا رحمة -  و رشحوه لتنفيذ أسوأ مهمة ، المهمة التى كانت سببا فى هلاكهم و تدميرهم.

ما أبئس قوم ثمود استبدلوا نعمة الله بالكفر و الجحود ، ماذا فعلت لهم تلك الناقة التى كانت تسقيهم لبنا يكفى القرية كلها ؟
اختلقوا عذرا واهيا أن الناقة تنفرد بشرب فى اليوم التالى للسقيا ، و تشرب الكثير من الماء فقد يتنهى الماء و يهلك أهل القرية عطشا بسبب ما تأخذه منهم تلك الناقة! لكن القرية تهلك فعلا لكن بسبب قتلهم لها و عصيانهم الرسول...

و من جمال التعبير العلاقة اللطيفة بين معنى كلمة "سواها" فى "و نفس و ما سواها" و "فدمدم عليهم ربك بذنبهم فسواها" فمعناها فى الاولى خلقها فى أحسن صورة بشكل مستو بارع و إعطاءها القدرة على السمع و الابصار و التمييز بين الحق و الباطل، و معناها  فى الثانية سواها أى دمرها و سوى بها الأرض و فيها عقوبة شديدة للنفس التى لم تشكر و تقدر نعمة الخلق و الرزق و كيف كرمها و هداها و ميزها بالعقل و الاختيار عن باقى المخلوقات ، و لما ضلت الطريق عاقبها بالهلاك و التسوية بالأرض فى الدنيا و العذاب المهين المقيم فى الآخرة.

إن الله الذى أحسن الخلق و أبدع فى إنشاء الكون بنظام دقيق معجز  خلق الانسان و هيأ له الطريقين ليختار ما يحاسب عليه ، فليحذر و يخاف العاقبة ، حتى ينال الفلاح بتزكية نفسه و اجتناب طريق الشرور و الفتن.
 

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

بر الوالدين المؤجل



"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " الإسراء (23)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

إن الوالدين هبة من الله و نعمة لا يقدرها إلا من يفقدهم ،من أجل هذا كتب الله على الانسان بعد تحريم الشرك عليه أن يقدم لوالديه الإحسان و البر، خاصة عند كبر سنهما و ضعفهما ، و أمره بعدم التضجر منهم أو من خدمتهم ، بل الصبر عليهم و التواضع لهما قولا و فعلا فالفضل السالف لا ينسى ..
لكن الشيطان كعادته يثبط الهمم و يؤجل الخير إلى حيث ينتهى الأجل أو يوشك أن ينتهى ،فلا يزال الإنسان طفلا مدللا ينهل من عطاء والديه ،و يحكى لهما همومه و ما يثقل كاهله ابتغاء النصح و تخفيف الهموم ،حتى بعد أن يبلغ مبلغ الرجال و يدخل مرحل الكهولة لا فرق فى علاقة الأبوة و الأمومة بين طفل يحبو و رجل فى الدنيا يعلو ،الكل طفل حين يلقى والديه ،ينفض همومه على أعتاب دعواتهم الصادقة و هو يثق أن النجاة من أى مشكلة ستكون على أيديهم ،و أن اليسر منبعه من خبرتهم و تصرفهم ،و أن تصحيح مساره إن اعوَج سيكون بتوجيهاتهم.
إنها الطمأنينة و الأمان مستقر فى نفس الإنسان طالما أن والديه يظللان بحنانهما عليه ،و يسبغان عليه من خير الدعاء و العمل ما يقيه شر متاهات الزمن و قسوة الحياة...لكن الحال لا يستمر و تتقلب الأيام بين فرح و حزن،فيمرض أحد الأبوين أو يعجز عن قضاء مصالحه و رعاية نفسه ،فتكون الفرصة سانحة و ذهبية ليقدم لهما العون و الرعاية التى يستحقانهما ، باذلا كل ما يملكه من أجل أن يسعدهما و يحظى برضاهما..
لكن الأجل قد يعجل بالأب أو الأم فيلقى الله قبل أن يدرك الابن فيسرع لهما و يقدم لهما ما يريد من الحب و الرعاية و الاعتراف بالجميل ،فقد يكون الابن فى سفر ابتغاء طلب الرزق ،و قد يكون غير مدرك لخطورة المرض و صعوبته لاستحياء الاب أو الام أن يجهر بالألم أو طلب المعونة ،فتكون النتيجة أن يدرك الابن متأخرا أنه كان عليه كذا و كذا من أسباب البر ،و أنه كان عليه التعجل و تفريغ النفس من أى اهتمام سوى رعاية والديه فى أواخر أيامهما ،و الأهم من ذلك الاعتراف أمامهم بحبه الشديد لهما و تقديره لفضلهما عليه طوال عمره. إن تأخير المصارحة بالحب مؤلمة عندما يصبح الحبيب فى العالم الآخر و تنقطع سبل التواصل ، و لات حين مندم عندما يبكى الابن على يد أمه أو أبيه المتوفى طالبا الصفح و مجاهرا بالحب و العرفان..
لكن الله رءوف بعباده رحيم بهم ،يقدم لهم دائما وسائل العودة و ييسر لهم الأوبة ، فتجئ تلك الآية الكريمة بردا و سلاما على القلوب الذائبة حزنا و ندما:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
فالله يعلم بما فى قلوبنا تجاههم و عجزنا عن أن نقدم لهم ما نريد بعد أن يرحلوا ،لذلك فتح باب الغفران ،و ترك للميت ثلاثة أبواب لعمل الخير ،و من ضمنها دعاء الولد الصالح و هذا ما يستطيع الابن تقديمه و الانتظام فيه، بالإضافة إلى الاكثار من الصدقة و وصل من كانوا يحبون و استمرار أعمال البر التى كانوا يقومون بها. فربما يرضى هذا نفس الابن الحى و روح الوالد الميت و يعم على الجميع سكينة من الله و كرم منه الوهاب فيجعل لهم حسن مآب.
و الخير موصول بين دعاء الولد لوالديه و بين المكانة العالية التى قد يصلون إليها، فالله قد يدخل الانسان مكانة أعلى حتى يجتمع بأبويه فى الجنة و يهنئوا باللقاء الأٌسري..
"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ " الطور(21)
القرآن شفاء كل داء ، و شفاء لما فى الصدور  من حزن و هم و ندم و ضيق ،و تأتى الآيات متكاملة لتعالج خفايا النفوس و ما تخفى الصدور  ما دق عن الوصف ، فالله أقرب للإنسان من حبل الوريد ،و هو الخبير الذى وسع علمه كل شيء و تسبق ذلك رحمته و حكمته التى تعجز دوما العقول عن فهمها لكنها تصدقها و تسلم بها.
"سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين"

الاثنين، 4 فبراير 2013

سورة الفجر


تبدأ سورة الفجر بقسم الله بالفجر ؛و هو من آيات الله الدالة على كمال قدرته و أن بيده الأمر كله بحكمته و عظمته ،و صلاة الفجر صلاة معظمة فاضلة تشهدها ملائكة الليل و النهار..

"أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" الإسراء (78)

و فى الحديث الشريف " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر "

الفجر.. يسبقه ليل القانتين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا ،قائمى الليل الفائزين بإجابة الله لهم وقت تنزله سبحانه فى الثلث الأخير من الليل و ينادى من يدعونى فاستجيب له ،من يستغفرنى فاغفر له ،ثم يصمت الكون و يعم خفوت الكائنات و سكوتهم فى لحظات ما قبل الفجر ليأتى آذان الفجر و قرآن الفجر مضيئا لظلمة الكون و مودعا لغياهب الليل.

و مثلما يحيط الغموض تلك الفترة الزمنية فيختفى مصدر الضوء وراء سحب الليل ،تأتى ليال عظيمة متخفية بين عدة ايام لا يعلمها إلا الله ،حتى لا تقتصر عبادة البشر على تلك الليله إن كانت معلومة بل جعلها واقعة فى مدى حتى يعم الخير و يجزل الثواب فذاك من كرم الله و حكمته.

و الليال العشر  التى أقسم الله بها إما أن تكون العشر الأخيرة من رمضان تتخفى فيها ليلة القدر المباركة أخفاها الله ليجتهد العابدون الطالبون مرضاته كل هذه الأيام ،أو تكون الأيام العشر الأولى من ذى الحجة أيام التهليل و التسبيح و التكبير و التى بها يوم عرفة يوم المغفرة حيث يندثر الشيطان و يحزن لما يرى من تنزل الرحمات على عباد الله و حجاجه ،و بها تتم مناسك الحج و العمرة و هذه أشياء معظمة مستحقة لأن يقسم الله بها.

و الليال العشر سواء كانت ليالى رمضان أو ليالى ذى الحجة كلا الحالتين نزلت فيهما سورة منفصلة بفضل الليلة التى تحتويها أو المناسك التى تشملها ، و هما سورة القدر و سورة الحج.

و الشفع و الوتر هما صلاتان نافلتان ،و الليل إذا يسر هو الليل عندما يرخى ظلامه على الدنيا و تنتهى الأعمال الدنيوية و الانشطة ليبدأ الناس مرحلة النوم أو قيام الليل.

 أقسم الله بالفجر و هو وقت و صلاة مفروضة يغفل الناس عن أدائها فى وقتها ، و بالليال العشر و هى  زمن و بها الصيام و مناسك الحج ، و بالشفع و الوتر و هما صلاة نافلة بالليل بعد العشاء ، كما أن الوتر دلاله على وحدانية الله ،و يأتى الليل بسريانه الخفى ليختم المقسوم بهم.

  يصف سيد قطب سورة الفجر فى ظلاله قائلاً:

(إنها ليست ألفاظا وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر ! أم إنه النداء الأليف للقلب ؟ والهمس اللطيف للروح ؟ واللمس الموحي للضمير ؟ إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة)

و فى السؤال التقريرى "هل فى ذلك قسم لذى حجر" تحفيز للسامعين لكى يعملوا عقولهم لإدراك قيمة المقسوم به و معرفة ما يعظمه الله ،و اقتناص الأوقات الثمينة من اليوم أو العام لاختصاصها بالمزيد من العبادة و القرب من الله ،فربما يفوز  الانسان فيها بنفحة من نفحات الله التى لا يشقى بعدها أبدا. إن أصحاب العقول و الفطرة السليمة يعلمون أن هذه الأيام و الأوقات المباركة تكرارية تتجدد دوما ،لكن هل يستمر عمر الإنسان ليلحق بها مجددا ؟ هذا ليس مضمونا فليسرع الإنسان قبل أن ينتهى العمر و تسقط الفرصة فى التوبة و المغفرة.

و مهما علا شأن الإنسان فإنه لا شيء أمام عذاب الله الراصد و الذى يجازيهم بطغيانهم و فسادهم ،مثل عاد و ثمود و فرعون

"ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد * و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد * و فرعون ذى الأوتاد"

فلننظر إلى تلك الأمم الغابرة...

عاد: لم يخلق الله مثلها فى البلاد و أعطاها قوة فى الخلق و البنيان

ثمود: نحتوا الصخور ليجعلوها منازل لهم تحميهم و لا تنهدم

فرعون:اتخذ من جنوده سندا و ثباتا و معينا على الباطل فهم كالأوتاد

و قد بلغوا من الكبر و الظلم ما أوجب هلاكهم ، فصب عليهم ربهم العذاب صبا كالسوط شديد الإيلام. فالله يمهل العاصى قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

لكن هل ابتلاء الإنسان بالمصائب دائما عقوبة له تسلمه لليأس و الحزن و الإحساس بالخزى؟ الإجابة توضحها الآيات التالية:

"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربى أكرمن * و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن"

يخبر الله عن طبيعة الإنسان بأنه جاهل ظالم لا علم له بالعواقب ،يظن أن الحالة تستمر لا تزول و ان النعيم مقيم لا يتبدل ،لكن الأيام دول يداولها الله بين الناس ،لكن الإنسان يرى أن إكرام الله فى الدنيا و إنعامه عليه يدل على كرامته عنده و قربه منه ، أما إذا ضيق عليه رزقه (و الرزق يشمل كل النعم)،  فيظن أن هذا إهانة من الله و غضب عليه و ربما أسلمه ذلك للسخط على قدر الله و استقلال نعمته و تحقير ما فى يده.

و يرد الله على تلك الظنون بقوله "كلا" ليس كل منعم فى الدنيا كريما عند الله ،و ليس كل فقير مقدر عليه رزقه مهانا عنده ،كما فى الحديث الشريف "رب أشعث أغبر لو اقسم على الله لأبره" 

 إنما الضيق و السعة ابتلاء من الله ليرى من يقوم بالشكر و الصبر، إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي، أما من يسخط و ينقلب على وجهه فقد خسر الدنيا و الآخرة، و لن ينال سوى الضيق و العذاب، و لن يغير من قدره شيئا.

"أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" العنكبوت (3)

كذلك من أسباب ضيق الرزق و قلته بخل الإنسان على الفقير و عدم اعطائه حقه المفروض ،فتزول النعم و يذوق الحرمان بعد العطاء.

و من جمال اختيار الكلمات فى القرآن "لا تكرمون اليتيم" فاليتيم انسان حساس ضعيف مهيض الجناح  فاقد للحنان مجروح يحتاج للإكرام النفسى و الكلمة الطيبة قبل العطاء المادى حتى لا يكون مكسور النفس حزين القلب.

و الخطأ الآخر الذى يقترفه بعض الناس  و يستوجب اقتار الرزق هو عدم الحث على إطعام المساكين و اغفال حقهم فى الحياة الكريمة، و كذلك أكل حق اليتيم و المرأة فى الميراث ،

 لاحظ العلاقة بين اكل التراث باليتيم فربما دفع الطمع ذوى النفوس الضعيفة إلى الاستيلاء على مال اليتيم فى الميراث اعتمادا على أنه طفل لن يجد من يرعى حقه أو يدافع عنه ،و منبع هذه الشرور حب المال حبا كثيرا ، وعبد الدينار و الدرهم إنسان تعس ضعيف الإيمان لا يثق فيما عند الله من الرزق و لا يوجه ماله إلى حيث أمره ربه، و لا ينفق من المال الذى جعله الله قيما عليه و حارسا.

كل تلك الأفعال القبيحة سوف يتذكرها الإنسان يوم الحساب حيث لا تنفع الذكرى، و "يا ليت" لا تعيد الزمن و لا تمنح الفرصة مرة أخرى..

و دك الأرض يرتبط بمن اتخذوا من الجبال بيوتا كما سبق ذكره فى قوم عاد الذين عاقبهم الله بصب العذاب عليهم و انهيار حصونهم من دون الله و عدم سكنى مساكنهم بعد ذلك.

إن السامع يكاد يسمع صوت دك الأرض فى "دكا دكا" و وقع اقدام الملائكة فى الصفوف "صفا صفا" فى موقف رهيب ينتهى بإحضار جهنم و لحظات الحساب. ،إن يوم القيامة يوم مهول شديد تدك فيه الأرض و تسير الجبال و يخرج الناس من القبور و يأتى الله و الملائكة الكرام ،كل شيء منظم و خاضع للملك الجبار فى مشهد مهيب مشهود ، فيقضى الله بينهم بالحق.

عندما يؤتى بجنهم يرونها عين اليقين فلا يملكون إنكارها أو الفرار منها ،و تأتى لحظة الحساب و السؤال و المجازاة بالأعمال بالحق و العدل ،و لن يكون من العذاب مفر و لا ينفع الهروب لأن الظالم مربوط موثوق لا يماثله أحد فى أسره و لا يشابهه أحد فى عذابه ،هذا هو الهوان الحق و هذا هو العقاب الأشد الذى لا تنجو منه سوى النفوس المطمئنة التى عادت إلى ربها يحيطها الرضا و السكون فى وصف بالغ الرقة و الشفافية ، و قد أمرها الله بالدخول فى زمرة عباده المخلصين و الدخول للجنة و هذا هو قمة السعادة و الفلاح.

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الفجر"

و خطاب الله للنفس المطمئنة يخاطب بها الروح يوم القيامة و يخاطبها به وقت الموت بنداء القريب "يأيتها" فى عطف و تكريم ،فى وسط الشد و الوثاق ،تترك الروح الأرض و التعب لترجع إلى ربها الذى تحبه و ترجو لقائه لتدخل فى رحمته و أمانه و كنفه فهى مطمئنة لا ترتاع يوم الهول و الفزع "وهم من فزع يومئذ آمنون"  تعرف طريقها إلى الله كما عرفته فى الدنيا. إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية تتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية. و الحمد لله فى الأولى و الآخرة.