الأربعاء، 30 يناير 2013

"ألهاكم التكاثر"


سورة قصيرة لكنها تلخص طمع الانسان و غايته و مصيره ، تلخص حياته المبنية على التكاثر فى كل شيء، فكل يوم يكتسب الجديد و يمتلك  و يزيد، مع تزايد عمره يزيد اهله و ماله و ممتلكاته ، و لا يكفيه شيء بل يسعى ليستكثر كأن الحياة سوف يعمر فيها و يخلد،
 
و كما كان يسعى للمزيد من النعم فى الدنيا تتحدث جهنم فى الآخرة و تقول هل من مزيد من ضحايا طمع أنفسهم و من خسروا آخرتهم و باعوا حياتهم الآخرة:
"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ"  سورة ق(30)

كيف يتلهى الإنسان بالنعمة عن المنعم، و بالاستزادة عن اداء شكر الوهاب، ذلك من سوء التقدير و الاستجابة لنوازع النفس المهلكة، فلا يصح أن ينسى الإنسان الغرض من رحلة الحياة و إن بدا له الطريق طويلا و مازال فى العمر الكثير، فيندفع للتناحر و التنافس وراء ما سوف يصعب حسابه ، و ربما كانت تلك الزيادة التى يسعى إليها ابتلاء له فى حسابه على النعم.

"ألهاكم التكاثر" لم يذكر الله المتكاثر به ليشمل كل ما يكثره الناس و يسعون لزيادته سواء الأموال أو الأولاد أو الأطعمة و كل ما ذكر الله أن الصبر على نقصه له ثواب عظيم و رحمة و صلوات من الله

"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " البقرة (155)

و التكاثر من كل ما يدعو إلى التفاخر و المباهاة ،و يستمر ذلك حتى لحظة زيارة المقابر،و التى قد تكون لتوصيل الميت و دفنه ،أو تكون زيارة ،أو مستقرا للإنسان حين وفاته حتى قيام الساعة فهى بمثابة زيارة مؤقتة.

لكن الحقيقة سوف يعلمها هؤلاء اللاهون وقتما يتعذر العودة و الاسترجاع ،و لو علموا ما ينتظرهم و كيف يكون الحساب و شدته و دقته ،لما تناحروا و تدافعوا على التكاثر،و لما غفلوا عن خالقهم و رازقهم و واهبهم ما يتكاثرون به.

و يصف الله ذلك العلم بأنه علم اليقين، فالحقيقة أن الجحيم ينتظرهم ،تأتى عين اليقين لتؤكد كونها رؤية بصرية و إثبات حسى لما تحد عنه الرسول بالغيب و لم يصدقه الكفار،فيرون بأعينهم ما أنكروه باللسان فانصرفت عقولهم عن العمل و السعى  و العبادة.

و عندئذ يكون الحساب و السؤال، و المساءلة ليست على الأفعال فقط التى قام بها الإنسان، بل على النعيم الذى تمتع به و تنعم، فكل نعمه عليها واجب شكر و حمد ، و استغلال فى الخير و عدم استعمالها فى الشر و المعاصى، إعطاء الفقير حقه و المسكين ، فلو أدوا حق النعمة فى الدنيا من الشكر و العطاء فسوف يزيدهم الله بنعيم الآخرة الذى لا يزول و لا يحول، و إن اغتروا بالنعمة و تغافلوا عنها ، و اعتبروها حقا لهم يأتيهم بدون جهد نصيبا مفروضا لهم و لم يشكروا لله فيكون العقاب الأليم مصيرهم.

و من جمال التعبير فى هذه السورة التقابل (ذكر الشيء و عكسه) لتوضيح المعنى ،ما بين التكاثر و المقابر، فالتكاثر رمز للدنيا و زيادة الأشياء و الانطلاق و السعى ،و المقابر رمز للانتهاء و وقف العمل و الظلمة و انقطاع العمل.

و تكرار "تعلمون" ثلاث مرات فى السورة (سوف تعلمون – سوف تعلمون – لو تعلمون) يدل على سوء تقديرهم و جهلهم و فقدانهم الحقيقة.

كذلك تكرار اليقين ،مرة مضاف إليها العلم و مرة مضاف إليها العين لتأكيد انها حقيقة عقلية و حسية بصرية لا مراء فيها و لا جدل.

و ختام السورة هو السؤال عن النعيم ،حيث يتكامل الختام مع بدايتها من حيث تنفير الانسان من التكاثر و الزيادة فهو مسئول عن النعم  التى ينعم بها الله عليه ،و يأتى الحديث الشريف تفسيرا لها و تثبيتا لمعناها

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:

(لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ ، عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ بِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ)

فالإنسان مسئول عن عمره و جميع لحظات حياته ؛و فى هذا تحذير لمن يهدر أيامه فى الخصام و الشقاق و لهو الحديث و المجون ،و مسئول عن جسده و صحته هل أعمله فى مرضاة الله و السعى إلى الرزق أم استكان و أراح نفسه و أهدر طاقته ،حتى أصحاب العلم ذوى المكانة العالية عند الله مسئولون عن عملهم و تطبيقهم لهذا العلم ،أما الأموال فعليها سؤالان: المصدر و الإنفاق ، فما أشده من حساب و ما أصعبه من سؤال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق