الجمعة، 20 يناير 2012

الصدى يحب


الإخلاص عملة نادرة و الوعد يصعب لو كان مستمرا، و الحب يخبو مع البعد و الاختفاء، كما أن الأمل تراوغه الاستحالة، و الطبيعة شاهدة على تقلب المشاعر بين الوعود و التنفيذ و حديث النفس الصامت و تأملات العاشق الساكت.

تلاقى قلبان و تعاهدا بين ربوع لبنان الجميلة ألا يمحى النسيان ذكرياتهما معا ، عندما حانت ساعة الرحيل لم يجدا أصدق من الجبال و الفجوات حولها لتكون صدى يتردد و يجيب نفسا ملتاعة للفراق، و مشهد السماء وقتها بألوانها المختلطة المتداخلة وقت الغروب لم يفارق عينيهما طول فترة البعاد. وعد بالصوت و الصورة أن ينادى أحدهما على الآخر و ينطق اسمه المحبب الذي يدق القلب بعنف كلما نطقه وقت الغروب....

و لكن إلى متى يستمر؟ و كيف يضمن أحدهما أن الآخر يوفى و ينفذ العهد و قد تقطعت السبل و اندثرت الأخبار؟ فقد دخلت الجميلة الغنية ابنة صاحب القصر العالي مدرسة داخلية بعيدة و تركت ابن راعى حديقة القصر الإنسان نبيل الخلق المكافح ليس فارسا في أعراف المجتمع لكنه فارس أحلامها و منتهى آمالها، الذي تفوق مكانته عندها مكانة ابن عمها المرشح للزواج بها بمراحل، فقد بدا التنافر بشدة بالرغم من قرابتهما الأسرية فهو مغرور قاسى و كاد يدفع بها لتغرق في البحيرة عندما كانا طفلين يلهوان في القصر لولا أن أنقذها فارسها الذي هو عامل مستخدم في نظر أسرتها.

و تمضى السنوات تتذكره تارة ، و تارة تنشغل بعالمها الصغير في مدرستها البعيدة، لكن طيفه لا يزال يتراءى لها و تتمنى لو تأتيها أي أنباء من طرفه، و بعد انتهاء سنوات الدراسة تعود إلى بيت أبيها لكنها تفاجأ بتغير شديد و تقلب الأحوال، و أصبح ابن عمها – خطيب المستقبل- أكثر شراسة و أشد قسوة مع الآخرين، و أصبحت كثيرة الانفراد بنفسها في حجرتها، و ظلت تساءل نفسها في خفية أين ذهب فارسها القديم ؟حتى فوجئت برؤيته و هو ينحني ليركب على ظهره ابن عمها، و تألمت لمنظره الذليل و تساءلت أين عزة نفسه؟ و ما الذي يدفعه لقبول هذا حتى لو مات جوعا؟ و لماذا يعاملونه بكل هذه المهانة؟

تساؤلات كثيرة مهولة أذهبت النوم عنها, حتى قررت الذهاب إلى المكان الذي جمعهما من سنين لعلها تجده و تجد شفاء لتساؤلاتها الحائرة، و عندما ألحت عليه لمعرفة الحقيقة عرفت أن والده تعرض للمرض الشديد مما اضطره للاستدانة من والدها الذي لم يرحم كبره و مرضه و عامله كأجير و ليس كإنسان، و لكي يجبروا هذا الشاب على البقاء معهم و عدم العمل في مزارع أخرى – لخبرته و مهارته الشديدة – فقد الزموه بسد دين والده بالعمل لمدة سنة بلا أجر؛ فقط يقدمون له الطعام و الشراب الذي يحفظ عليه حياته، و كان بإمكانه الهرب من هذه المعاملة الذليلة لكن أخلاقه لم تسمح له بذلك...

و رفض عرضا من حبيبته ابنه صاحب القصر بالهروب معه ، فهو الأحرص على سمعتها و علاقتها بأهلها। فقير حقا لكنه غنى بأخلاقه و إيثاره للآخرين، و ما زالت تراقبهما العيون حتى ظن ابن عمها بهما شرا فقرر أن يقتله و فعل، و ظلت صورة الحبيب و هو يتهاوى من الجبل- بعد أن قتلته رصاصة ابن العم الغادرة - ترعبها و تصيبها بالحزن المتجدد।

و منذ ذلك اليوم الحزين البائس في حياتها، و هي تذهب للجبل و تسمع صدى الصوت يتردد باسمها و تناديه لتسمع اسمه مرات و مرات من جميع الجهات، لعل هذا يعيد الحياة لما قتله البشر، فكم قال لها: إن كانت كتبت عليهما الفرقة فى الحياة فقد يجتمعا عند الله محبين صابرين على قضائه، شاكين إليه ظلم البشر الجاحدين।


قصة الصدى البعيد – بيار رفائيل

الأربعاء، 11 يناير 2012

"بضع سنين"


عندما يتعرض الإنسان لظلم شديد و يقع عليه فلا يستطيع رده، و تأتى عليه فترة من الزمن تكون أمنيته الوحيدة المسيطرة عليه هو دفع ذلك الظلم و استرداد حقه، و يطرق كل الأبواب و يسلك كل السبل المتاحة، ثم يصطدم بالجبروت و القوة فلا يتغير من حاله شيء، ثم يسلم أمره لله و يقبل الواقع إذ أنه أمر الله و الله لا يضيع حقا مهما طالت أيام الظلم، و فجأة يأتيه من يخرجه من ذلك الظلم؛ فهل يقبل و يطير فرحا و يعود كأن شيئا لم يحدث؛ أم يرفض تنفيذ رفع الظلم حتى تتم المحاكمة و يعاد فتح الملفات لتظهر براءته و لا يكون رفع الظلم فضلا و منة من الظالم؟ لا شك أن الاختيار الثاني هو الأفضل لأنه يحفظ للإنسان كرامته فلا يبدو ملهوفا على شيء؛ بل حريصا على إظهار الحقيقة و دفع التهم التي لحقت به أولا...

و يعلمنا الله ذلك الخلق الرفيع من خلال سورة يوسف و موقفه عندما سجنه الملك ظلما:

"ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم"

حينئذ ظهرت البراءة واضحة عندما أجمع الجميع على قول:

"حاش لله ما علمنا عليه من سوء "

تم سجنه ظلما دون محاكمة، و الشهود شهدوا لصالحه و لكن الحاكم لم يجد سوى أن يسجنه مخرجا له من مأزق وضعته فيه زوجته، و حتى لا يتعرض للشائعات و كلام النسوة.

و في سنين محبس يوسف الصديق يتعرض لبعض أسباب خروجه؛ السبب الأول رؤيا زملائه في السجن، و تلك كانت سببا غير مباشر في معرفة الملك بخبر تأويله الصادق للأحلام و الرؤى،

و السبب الثاني و كان مباشرا و هي رؤيا الملك الشهيرة.

لكن يوسف ظن الأول سببا مباشرا فوصى صاحبه الذي كانت رؤيته مبشرة بالخروج من السجن و العمل لدى الملك بأن يذكره عند الملك لعله يتذكره و يخرجه من السجن الذي يعلم الجميع أنه دخله ظلما، "و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين".

بضع سنين هي الفترة الزمنية بين التخطيط الإنساني و التخطيط الرباني، و حكمة الله في كل المواقف لا تعد..

تأويل يوسف الأول لرؤيا صاحبه في السجن لم تخرجه من السجن بالرغم من طلب يوسف منه التوسط لدى الملك، بينما التأويل الثاني جاء من تدبير خالص لله، فمن رأى الرؤيا هو الملك، و من سعى لتفسيرها و شعر بخطورتها هو الملك، و من سأل الملأ أن يفسروا له تلك الرؤيا و يقدموا الفتوى فيها و أعياه البحث عن تأويل مقنع لها حتى دلوه على يوسف الصديق.

و ذلك كيد الله ليوسف و تدبيره اللطيف له و حكمته البالغة، فهذا الحدث لم يكن فقط إنقاذا لمصر و من حولها من البلاد من مجاعة مهلكة لسنوات، بل سببا لخروج يوسف من السجن و حصوله على مكانة عظيمة لدى الملك و قربه إليه، ثم التقائه بأخيه الصغير المقرب و اجتماعه ظافرا بإخوته الذين ألقوا به في البئر صغيرا و أوحى الله له بهذا الموقف "و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون".

و كانت رؤيا الملك سببا في حضور أبو يوسف و إخوته و إقامتهم في مصر و تحقيقا لرؤيته صغيرا للكواكب و الشمس و القمر ساجدين له في المشهد الختامي في سورة يوسف عندما سرد يوسف أفضال الله عليه منذ صغره حتى تبوأ تلك المكانة..

"و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون"

لابد للإنسان أن يعلم أن مصيره بيد الله، و مهما استعان به من خلق فهم مجرد أداة تحركها مشيئة الله و إرادته، و ما يقدم إنسان لآخر من خدمة و سعى إنما هو من فضل الله.

لذلك يجب على الإنسان عندما يوصى أحدا بخدمة أو طلب أن يستعين بالله في داخله أولا و يقول "حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم" و يسأل الله أن يعين و ييسر الأمور، فإن أداها بنجاح فذلك فضل الله أرسله على يد ذلك الشخص الذي أوصاه و طلب منه، و إن أخفق فمن نسيان الشيطان و عمله، و تقصير الإنسان في التوكل الخالص، أو حكمة من الله تأخير ذلك الأمر لخير يعلمه الله.

و إذا كانت بضع سنين هي عدد من السنوات بين الثلاث و التسع فهل هذا يعنى أن أقل فترة لتغير الأحوال و زوال الابتلاء ثلاث سنوات؟ ليس أكيدا و إنما هي مبشرات بين يدي رحمة الله التى وسعت كل الأشياء، و لن يعجزه شيء فى الأرض و لا فى السماء.

الأحد، 8 يناير 2012

"و حال بينهما الموج فكان من المغرقين"

رحمة الله بنوح كبيرة فلم ير ابنه و هو يصارع الموت و تغلبه الأمواج فيغرق، بل رأى الشيء الدال على غرق ابنه و هو اختفاؤه بعد موجة عالية।

و تلطف الله فى الحديث معه فناداه باسمه ليهون عليه: "يا نوح انه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح"، و نهاه عن الحزن فابنه ليس من أهله لأنه فارق الإيمان فزالت الرابطة بينهما، و نهاه عن الابتئاس بسبب تكذيب قومه المستمر الطويل و سخريته منه عندما صنع السفينة بأمر ربه.

و ما مصير الإيواء بغير حمى الله سوى الخذلان: فقد قال ابن نوح "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء" و رد عليه الله بالحق:"لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم".

ذلك المشهد الختامي السابق مذكور في القرآن في سورة هود أما القصة التي تصف جهاد نوح الطويل مع قومه فتتضمنها سورة نوح...

تبدأ سورة نوح بأمر من الله له بأن ينذر قومه و يرشدهم للإيمان ثم يتبعها تنفيذ نوح مباشرة للأمر ، و الآيات التي تليها تشمل شكوتين الأولى شكوى نوح من رد فعل قومه بعد أن أنذرهم ووصفه لتلك الدعوة المستمرة فهي من حيث الزمن مستمرة ليلا و نهارا و متنوعة من حيث أشكال الاتصال فقد دعاهم جهارا بشكل علني و اتصال جمعي ، كما أنه دعاهم بشكل سرى و مفرد باتصال شخصي لعله يكون أشد تأثيرا لكن لا فائدة و لا نتيجة سوى الإعراض، و كيف تخبت قلوبهم و تعقل أفئدتهم و هم يصدون أنفسهم عن السماع أو النظر بتغطيه وجوههم بأثوابهم و استكبارهم الشديد عن الهداية.

لقد حاول معهم باستخدام أسلوب التبشير و الوعد بالخير الوفير إذ أمرهم بالاستغفار لينالوا بركة الاستغفار من انهمار المطر و زيادة الأولاد و الرزق، ثم استخدم أسلوب الترهيب ببيان سوء صنيعهم محذرا لهم فهم لا يوقرون الله ؛ قال تعالى :"مالكم لا ترجون لله وقارا" ؛ بالرغم من تقلبهم فى نعمه و خلقه لهم أطوارا بين ضعف و قوة ثم ضعف و شيبة، و تسخيره السماء و النجوم و القمر نورا و هداية، و إنباته إياهم من الأرض ؛ فهم كالنبات ينمو و يكبر من خير الأرض ثم يموت و يدفن فيها ليتحلل و يذوب بين ترابها،

فالشكوى الأولى إثبات أنه أدى أمر الله و لم يقصر في دعوتهم، و إنما هم الذين عاندوا و لم يستمعوا ، و الشكوى الثانية بسبب موقفهم العاصي و تفضيلهم إتباع ذوى الأموال و السلطة و ما أسوأهم من متبوع فقد أفسدتهم الأموال و خسروا و مكروا ، و أي مكر أشد من إغرائهم بعبادة آلهة صماء قبيحة عاجزة؛ حتى أسماؤها قبيحة منفرة(ود – سواع – يغوث – يعوق - نسرا) ذكرها الله في القرآن ليبدو التقابل و التناقض بين أسماء الله الحسنى الذي خلق لهم النعم و الجمال، و أسماء الآلهة الخبيثة التي اتبعها آباؤهم الجاهلون.

و من الجمال الفني في القرآن ذكر أسماء الآلهة المنفرة مقابل ذكر لطف الله فى خلق الجمال السماوي سبع سموات طباقا و جعل القمر فيهن نورا (لاحظ الضمير العائد على السموات و رقته) و جعل الشمس سراجا.

و نتيجة لكل هذا دعا عليهم نوح أن يزيد هؤلاء الظالمين ضلالا و كفرا ، فاستجاب الله له و كنتيجة حتمية لتلك الخطيئات التي فعلوها فأغرقتهم و لم ينصرهم أحد و لا هؤلاء الأغنياء الذين دعوهم للكفر و عبادة آلهة الآباء.

"مما خطيئاتهم أغرقوا" – فالخطيئات كأنها بحر من الذنوب؛ أغرقتهم بجزء منها فهى كثيرة، و كذلك يكون الجزاء وفاقا.

و لما اشتد على نوح الغضب دعا عليهم ألا يبقى منهم أحدا لتتطهر الأرض منهم، فلا يبقى من عقبهم أو أولادهم أحد ؛ فهم كالجراثيم أو الفيروسات يجب القضاء عليها تماما لكيلا يعود المرض، فهؤلاء الفجار لا يأتى من نسلهم سوى الفاجر شديد الكفر।