الأحد، 20 مايو 2012

"أنتم شر مكانا"


اذا كان لديك صبر قوى فقط فسوف تتمكن من الصبر على من يسبك و هو لا يدرى أنك تسمع ما يقول؛ فالصبر على الإهانة قوة تحمل كبرى خاصة إذا كان الشخص قادرا على رد الإساءة بالإساءة، و لا يمنعه خوف و لا سن من يعتدى عليه باللسان و القول البذئ.
فإذا كان وزيرا عظيما أمينا عاليا فى الأرض مقربا من الملك ، و يقف على خزائن الأرض حيث القحط و الجدب فى كل مكان إلا فى تلك البلد التى يتبوأ فيها أعلى المناصب، ثم سمع من يسبه و يصفه بالسرقة و هو الحفيظ الأمين، و من قال هذا الكلمات هم قوم ليسوا أغرابا عليه و ليسوا من أهل البلدة، إنهم إخوته حيث جاءوا ليطلبوا الطعام من أجل القحط و الجوع الذى حل بهم.
سيدنا يوسف الصديق ماذا فعل عندما وصفه إخوته بأنه سارق؟ أسر ذلك فى نفسه و لم يظهر معرفته بهم أو يبين شخصيته:
"قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ" يوسف الآية 77
و قد سامح يوسف إخوته ووصف الجريمة التى فعلوها به وصفا هينا يخفف من بشاعتها؛ إذ هى فى صميمها جريمة قتل خففت لتصبح شروع فى قتل و إبعاد عن كنف الأب و عطفه، وصف يوسف صنيع إخوته بأنه عمل من نزغ الشيطان
"من بعد أن نزغ الشيطان بينى و بين إخوتى"
و رفع عنهم حرج طلب السماح و الاعتراف بالخطأ قائلا
"لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين"
فلم يكتف بأن يغفر لهم بل طلب من الله أن يغفر لهم ذنبهم القديم
فالشخص الذى يتهم غيره ظلما و زورا، أو يغتاب أخاه المسلم إنما هو أكثر شرا و هو الذى يستحق السوء و السخرية و ليس الموصوف...و الله أعلم بالحقيقة و مدى دقة الوصف و انطباقه أو بعده عن الشخص.
و لا يقدر على الغفران من بعد سماع الكلمة السيئة وجها لوجه سوى إنسان ذي ايمان قوى و عزيمة شديدة ، و لذلك قال تعالى "و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور".
و من يفعل ذلك فقد وكل إلى الله أمر الدفاع عنه و إعادة حقه، و رضى بأن مكانته عند الله هى الأهم من مكانته بين جموع النمامين و المغتابين، و يكفيه أن يغفر الله له جزاء صفحه عمن آذوه..
 "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " النور 22

كانت عيناى تجريان وراء سطور الرسالة التى كتبها أحد الاشخاص لآخر، و تتضمن سبا لى و سخرية منى، و دق قلبى سريعا، ما أسوأ أن يطلع الإنسان على ما ليس له به علم، خاصة إن كان يؤذيه، فلو لم أقرأ تلك الرسالة التى ليست موجهة لى لما حزنت عندما قرأت ذلك الكلام عنى، و لما امتلأ قلبى غيظا و كرها للشخص المرسل  و المرسل اليه ، و مع ذلك كنت مجبرة على عدم مواجهته حتى لا يعلم أنى تلصصت عليه و تتبعت رسائله، لكن ذلك وليد الشك فيه و عدم الاطمئنان لأفعاله و توقع الغدر منه، فكان من باب أخذ الحيطة و الحذر..
و تلك حكمة كبرى أن ينهى الله عن التجسس، و ألا يسعى الانسان لمعرفة ما يضره و لا ينفعه، فعقل المؤمن أكبر من أن ينشغل بتلك التفاهات من لهو الحديث، و عمره أثمن من أن يضيعه القيل و القال و الجدال السارق للوقت و الجهد، و المدمر للأعصاب و الذي لا طائلة منه سوى إنهاك النفس، و تعطيل العلم و التحصيل.

الثلاثاء، 1 مايو 2012

لقطات من أحلام نجيب محفوظ


نجيب محفوظ يتألق بحكمته و فلسفته في نهايات العمر.. و ماذا بعد طول سنين لإنسان متأمل لأحداث الحياة يمتلك فكر فيلسوف و أسلوب أديب و خبرة عجوز؟ خلاصة سنين طويلة من التأمل في سلسلة من الأحلام؛ بل قل لقطات غير مترابطة، لكنها حول عدة محاور منها ما يخص العالم الخارجي و منها ما ينطلق من ذات الكاتب و فكره الداخلي.

أحلام فترة النقاهة أسلوب جديد؛ مجموعة من الأحلام ليست قصص قصيرة و ليست أقصوصة لكنها نبضات فكرية أو مشاهد سريعة من أحداث الحياة؛ ليست خواطر لأنها تصف أشخاصاً أو أمكنة، قد تكون قصيرة لكن يكتمل فيها رسم المكان – كعادة نجيب محفوظ الفنان في رسم الأمكنة – و الزمان و الشخوص و ربما احتوت فى عجالة العقدة أيضا ، لكنها دائما نهايات مفتوحة و غامضة.
نقاهة من ماذا؟ من المرض أم من وطأة الحياة و ثقل المسئوليات؟ إنه إحساس شيخ كبير أدى رسالته نحو أسرته و وطنه و تفرغ للإبداع و حالة من صفاء الذهن و عمق التفكير

إننى حقا اشتاق لمعرفة ماذا كان يقصد الكاتب فعلا من كل حلم ، هل هو ما فكرت فيه أم شيء آخر بعيد المنال؟ انه مثل الأحاجي و الفوازير التي ليس لها حل محدد لكنها فعلا شيقة في كل مرة أقرأ حلما انتقل للآخر بسرعة لأراهن نفسي هل سأفهمها بسهولة و أفك شفرتها أم سيتعبتى البحث و تدور بى الاحتمالات؟ إنها حقا رحلة ممتعة في عقل نجيب محفوظ.
و أراها شديدة التعقيد و الغموض، انه يقصد أشياء و أشياء؛ هل هي أبيات شاعر يحتفظ بالمعاني لنفسه أم أنها أجزاء من سيمفونية الحياة انه الفنان في كل زمان و مكان يعشق التنوع و ينبذ التكرار حتى فى الاسلوب و التعبير فيأتى دائما بالجديد..

هل هي كوابيس أو أحلام مزعجة أم أحلام يقظة أم أمنيات؟
ماذا عن الوحدة الفنية فيها و الجو النفسي الذي يهيمن عليها و يحدد مسارها؟ انها لغة التشاؤم فى نظرى و الاثبات يأتى من عدة ملاحظات..
-          تكرار كلمات مثل متجهما – انقبض صدري – مسدس – مرتجفة – لعنات – تشاؤم - شتائم
-          نهايات مفتوحة و تلميحات عن الفساد
-          تكرار ذكر الشيخوخة و العجز و مقارنة الأيام السابقة بالواقع الأليم
منذ النظرة الأولى يتبين الجو النفسى العام للكاتب ، فهو يميل إلى التشاؤم و تميل أحلامه إلى الكوابيس..
دعوني أسمى الأحلام بدلا من أرقامها التي عنونها الكاتب بها:

حلم 1: الصداقة تتحول لسراب
أسوق دراجتى من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع، باحثا عن مطعم مناسب لذوى الدخل المحدود و دائما أجدها مغلقة الأبواب. و حانت منى التفاتة إلى ساعة الميدان، فرأيت أسفلها صديقى فدعانى بشارة من يده فملت بدراجتى نحوه، و إذا به على علم بحالى فاقترح علىَ أن أترك دراجتى معه ليسهل علىَ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث و جوعى يشتد. و صادفنى فى طريقة مطعم العائلات ، فبدافع من الجوع و اليأس اتجهت نحوه على الرغم من علمى بارتفاع أسعاره ، و رآنى صاحبه و هو يقف فى مدخله أمام ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستار فبدت خرابة ملأى بالنفايات فى وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج ماذا جرى؟ فقال الرجل : أسرع إلى كبابجى الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب ، و لم أضيع وقتا فرجعت إلى ساعة الميدان لكننى لم أجد الدراجة و لا الصديق..
مطعم العائلات خال إلا من النفايات، الأمل الأخير فى كبابجى الشباب عند ساعة الميدان، الصديق يقف تحتها و على علم مسبق بجوعه الشديد، و لما استمع لنصيحة صاحبه لم يجد الدراجة و لا الصديق..
هل لأن العمر مضى أم خيانة أتته من أقرب الناس له.

حلم 3: الهوان
هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه، و هو يحرك رأسه بعنف يمنة و يسرة و يهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى هذا العذاب؟ و كان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق و يتبادلون النظر فى ذهول ، و تساءل صوت: من فعل بك ذلك؟ فأجاب الرجل المعذب و رأسه لا تكف عن الحركة: أنا الفاعل – لماذا؟ هو العقاب الذى استحقه – من أى ذنب؟ فصاح بغضب : الجهل، فقلت له : عهدنا بك ذو حلم و خبرة، جهلنا أن الغضب استعداد كل فرد، و ارتفع صوته و هو يقول: و جهلت أن أى إنسان لا يخلو من كرامة مهما هن شأنه. وغلبنا الحزن و الصمت.
رجل مقيد بحبل و الكرامة الجريحة تمثيل بالإنسان إذ يستهين بعقاب الله و هو لا يتحمل ذرة منه. لا يملكون له شيء سوى الحزن و الصمت ..
ثلاثتنا: من هم الثلاثة؟ أسئلة حائرة.
الظاهر: أنه ذو حلم و خبرة.
الحقيقة: أنه مهان نتيجة نتيجة سوء صنيعه و الدليل كلمة "الفاعل" و أن هذا العقاب الذي يستحقه.

حلم 36: المتآمرون
جمعنا بهو ما، ثمة وجوه أراها لأول مرة و وجوه أعرفها جيدا من الزملاء، و كنا ننتظر إعلان نتيجة اليانصيب، و أعلنت النتيجة و كنت الرابح، و كانت الجائزة فيلا حديثه و حصل تعليقات و  توهان، لم تستطع وجوه كثيرة أن تخفى كمدها. و قال لى كثيرون أنه فوز لكنه خازوق من أين لك المال لتأسيسها و توفير الخدم اللازمين لها و استهلاك الماء و الكهرباء و خدمة حمام السباحة و التكييف...الخ
الحق أن الحلم ما زال حيا، و ها أنا أتفقد الفيلا كل يوم تقريبا و أرجع بالخيبة و الحسرات، و استغل أناس قلة خبرتى و أقنعونى ببيعها و اشتروا بثمن فرحت به ساعات حتى تبين لى أنى خدعت و سرقت.
و حدث فى ذلك الوقت أن خلت وظيفة مدير عام ، و كثر التزاحم حولها و المرشحون و بطاقات ذوى النفوذ، و قابلت الوزير و قلت له أننى لا وسيط لى سواه، و لكنه قال لى إنك لم تستطع أن تحافظ على مالك الخاص، فكيف أأتمنك على المال العام؟ و صرت نادرة و مثالا... فطلبت ضم المدة الباقية لى فى الخدمة إلى خدمتى و إحالتى إلى المعاش، و أخيرا وجدت الطمأنينة فى موضع لا يتطلع إليه طماع، و لا ينظر إليه ذوو الطموح. 
ماذا جاء سهلا يذهب سهلا، و هذا شأن أموال اليانصيب التى لا تتطلب سوى لحظة حظ دون أدنى مجهود أو إعداد، و ليت تلك الجائزة التى كسبها من اليانصيب ذهبت و فارقته فحسب، لكنها خلفت له حسرة و شؤما بداية من الحقد و الحسد الذى لاحقه، ثم حسرته على بيعها بثمن بخس، و انتهاء بوصفه لا يصلح لرعاية المال و تحمل المسئولية ثم احالته على المعاش و فقدان عمله هروبا من كلام الناس و نظراتهم. فهل كان فوزه فوزا حقيقيا و نعمة تستحق الفرحة أم خسارة و شر مقنع؟

حلم 65 : ما أجمل اللامعقول!
انقضى العام الدراسى و أعلن عن يوم الامتحان و لم نكن فتحنا كتابا و لا حفظنا جملة توجب التفكير فيما ينبغى عمله، و ثمة قلة كانت ما تزال تحتفظ بشيء من الاحترام لما هو معقول فقررت الامتناع عن حضور الامتحان ، فأما الأخرى فكانت مولعة بالعبث و اللامعقول فانتهزت الفرصة المتاحة و عزمت على حضور الامتحان و فى الصباح الموعود انتظمنا الصفوف و لبسنا أقنعة الجدية و الاهتمام و إذا برئيس اللجنة يقوم و يقول بصوت جهورى إنه سيوزع علينا ورقتين إحداهما تحوى الأسئلة و الأخرى تحوى الإجابات الصحيحة. و ذهبنا حقا فلم نكن نتصور أن بين أساتذتنا من يفوقنا فى حب العبث و اللامعقول.
حدث لا يحدث إلا فى الأحلام الجميلة ذات النهاية السعيدة حتى لو لم تتفق مع المنطق، المراقب يوزع عليهم بكل جرأة ورقة الإجابات مع الأسئلة فى استهانة صارخة بمبدأ العدل و تكافؤ الفرص، الكل يحب الخداع؛ فالطلبة ارتدوا أقنعة الجد و الاجتهاد، و الأساتذة قرروا التجديد و التسهيل عليهم أثناء التصحيح؛ الإجابات ستكون موحدة و النجاح أكيد لكنه فى النهاية نجاح زائف و تمثيلية عبثية غير معقولة.