الجمعة، 3 يناير 2020

تفسير سورة النصر


"إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ"
يحدث الله نبيه الكريم عن موقف مستقبلى هو نصر الدين و انتشار الإسلام. إن اسلوب الشرط هنا ليس معناها الاحتمالية فى الحدوث ،بل التبشير بالقدوم، ووعد الله آت بلا ريب، و لكن متى؟ و ما هى العلامة؟
"وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا" 
هذه علامة النصر، أن يقبل الناس على الاسلام من كل اتجاه و بتجمعات كبيرة، و تحقق أهداف الدعوة و تمام الرسالة.
"فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
و دائما ما يكون الحمد بالتسبيح مصحوبا بالاستغفار ، فالاستغفار أساس كل مخير و منبع الخير المتدفق 


"فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا * يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا * وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا " سورة نوح 10-12


و تختم السورة القصيرة بوصفه تعالى بأنه واسع المغفرة، سابغ التوبة، ليشمل الغفران الرسول ، و الذين دخلوا فى الاسلام و تركوا الشرك و ظلماته، فهى بشرى لهم بأن كل ما سبق محاه الله ليبدأوا عهدا جديدا من الطاعة و نيل الرضوان.

و الفتح ليس فتح مكة فقط، و إنما ما يصادف الإنسان من نجاح عندما يفتح الله له أبوابا من العلم و فعل الخير و الإنفاق فى سبيله تعالى، و نصره على كل من أراد به سوءا و ظلمه و مكر عليه. فمهما طال الليل يأتى ضوء الفجر، و فعل "جاء" نصر الله فيه إيحاء و تجسيم لعظمة و هيبة هذا النصر يصاحبه الفتح المبين. و فى تلك اللحظة السعيدة المنتظرة يسارع الإنسان بالتسبيح و الشكر، و كذلك الاستغفار مما قد يشوب نفسه من غرور أو احساس بأنه حقق النجاح و النصر بجهده ، أو تقصير فى الشكر أو تأخير فى الصدقة، و كل ذلك يمحوه الاستغفار ليرقى به إلى مرتبة الشاكرين فيزيده الله من فضله و إحسانه.


"على الله توكلنا * ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين".
لا اله إلا الله الملك الحق المبين.
رب اغفر و ارحم و اعف و تكرم و تجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.




الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

تفسير سورة الحديد


}سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيsهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {

تبدأ السورة بالتسبيح  من كل الكائنات و تذكر الآيات صفات الله تعالى حيث أن له ملك السموات و الأرض ، و هو وحده مالك الحياة و الموت و الابتداء و الانتهاء ، و العالم ببواطن الأمور و خفاياها ؛ فضلا عن ظاهرها و منتهاها. فعلم الله واسع لا يحده شيئ زمانا و مكانا. يدبر كل شيء بحكمة بالغة؛ مبنية على علم مبين و رحمة شاملة. و فوق ذلك قدرة على التنفيذ و إرادة متحققة.

لقد كانت قدرته على الخلق كافية لخلق السموات و الأرض فى لحظة لكنه خلقهن فى ستة أيام لحكمته التى اقتضت ترتيب ذلك الحدث لينتهى باستوائه سبحانه على العرش. يسمع و يرى كل شيء سواء ما يدخل فى الأرض؛ على المستوى البسيط كدفن الأموات و زراعة الحبوب و النباتات ، و ما هو أبعد كحركة الكواكب و دخول المجال الجوى للأرض، و ما يخرج منها كاستخراج المعادن و البترول و الثروات ، و إنبات الزروع و الثمار. كما يعلم سبحانه ما ينزل من السماء أمطارا و شهبا ، و ما يعرج فيها من حركة الملائكة و صعود الأرواح و الكلم الطيب و الدعوات. إن دقة اللفظ القرآنى تشهد بالإعجاز، فالسماء تصعد إليها الأشياء و تنزل منها ، بينما الأرض هى التى تدخل فيها الموجودات و تخرج منها فهى كروية لها جسم محدد.

ثم يذكر الله إحاطته و هيمنته على الإنسان ،بعد أن ذكر إحاطته بما حول الإنسان من أرض و سموات. فهو مع الإنسان فى كل وقت أينما يكون ليراه و يبصره و يشهد على ما يفعله. و الله يتحكم فى الإنسان عليم بما فى داخله، يرزقه بالليل و النهار، المتعاقبين ليوفر له البيئة التى تمكنه من العيش و عمارة الأرض و ابتغاء الرزق. ثم يحاسبه على أعماله و نواياه التى هى الفيصل فى المجازاة، و ليس ظاهر الأمور بل ما وقر فى القلب و انعقدت عليه النوايا.

} آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ {

ثم يجيئ أول أمر إلهى للإنسان باتباع الرسول و الإيمان بالله و الإنفاق مما آتاه الله، ثم سرد الأسباب المنطقية العقلية، فليس لهم عذر ألا يؤمنوا و قد جاءهم النذير ؛ رسول منهم يدعوهم فيسمعوا و يعاهدوا الله على الإخلاص بميثاق غليظ. و لأن الله رحيم بالعباد فقد أنزل القرآن على الرسول الكريم ليكون مصدر هداية و نور تسهل على المؤمن اختيار الطريق السليم و تحمل مشاقه. و تلك الأموال التى يقتنيها الإنسان هى من عند الله أودعها عنده ليكون مستخلفا فيها مسئولا عن وسائل إنفاقها ليحاسب على ذلك الاختيار. ثم إن الله يرث الأرض و من عليها و قد وعد المنفقين و المحسنين أجرا مضاعفا، كلٌ حسب عطائه ، فمن أعطى قبل الفتح له درجة أعلى ممن أنفق بعد النصر، فالعطاء ساعة العسرة له أجر عظيم.
 }يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{         

و فى مشهد اليوم العظيم، تبدو هيئة المؤمنين متميزة و جليه فهم كالبدر المنير و نورهم يملأ ما بين أيديهم ، تلك الأيادى التى تعطرت فى الدنيا بالإنفاق و فعل الخيرات، لاحقتها البشرى بالجزاء الوافى. و كما كانوا فى الدنيا يجرون وراء البريق، تذهب عيون المنافقين إلى مصادر النور و العلى ليجدوها مؤمنى الدنيا ، و الذين ربما كانوا من فقراءها الذين كانت تزدريهم أعين المنافقين من قبل، فيسعون لنيل اى جزء أو قبس من تلك الأنوار المبهرة، فربما نظر إليهم المؤمنون بوجوهم التى تشع ضياء فيسقط هذا الضوء على ظلمة وجوه المنافقين ذوى الوجوه المسودة. لكن هيهات فقد قضى الله بعدله أن يميز الخبيث عن الطيب، فقد أمروا بالرجوع للخلف ليقام سور بينهم و بين الضياء ، و ما أعجب هذا السور فبابه له باطن و ظاهر، كما للمنافقين باطن يخالف الظاهر، و ما يواجه المنافقين هو الباب ذو العذاب. و لا ييأس المنافقون من نيل الرحمة التى لا يستحقونها، فينادون من خلف السور يستعطفون المؤمنين ألم نكن معكم فى الدنيا و نشارككم حياتكم و معيشتكم فلم التفرقة الآن . إن السبب هو أفعال المنافقين ذاتهم، فقد كانوا يسعون بالفتنة و الشر و التربص بمن حولهم ، مغترين بعبادة منافق لا خير فيها. و لا مغير لكلمات الله و لا لحكمه حتى لو دفعوا ملأ الأرض ذهبا و أموالا. مثلهم مثل الكافرين لا مأوى لهم سوى النار و العذاب الدائم.



 }أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{

ألا تكفى كل تلك الآيات و الشواهد لكى تخشع قلوب المؤمنين و تهتز لذكر الله و تهفو قلوبهم لآياته فيزدادوا إيمانا مع إيمانهم، بخلاف غيرهم من أهل الكتاب الذين فرطوا فى دينهم فتفرط عقده و انهارت عقيدتهم بعصيانهم و قسوة قلوبهم. فالقرآن حياة القلوب كما الماء حياة الأرض و روحها التى تعود إليها كلما يبست و تحجرت.

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }

عودة مرة أخرى إلى فضائل الإنفاق المستمر، حيث يجزيهم الله بكرمه أضعاف ما أنفقوه بركة فى الرزق و حفظا من المرض و البلاء و زيادة فى الأموال و الأجر الوفير فى الآخرة. مجتمعين مع الأنبياء و المرسلين فى جنات النعيم بينما يشقى المكذبون فى جحيم مقيم.

 }اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {

هذه هى حقيقة الدنيا يعلمنا بها الله العليم. هى مزيج من اللعب و اللهو و السعى وراء الزينة و التفاخر بالمكتسبات من أموال و مقتنيات ، و مع الأيام تتكاثر النعم و تزيد الأموال و يأتى المزيد من الأبناء . ثم ماذا ؟ يأتى النقصان. فالنباتات الخضراء التى تنتعش بالمطر و تربو و تزدان و تثمر، تتغير مع الزمن لتذبل و تنكسر لتصبح هشيما ضعيفا يحطمها الهواء و غوائل الدهر. و الشيب يحطم القوة و الغنى و المرض يهلك النفوس المغروره بالدنيا ليعيدها إلى الحقيقة و هى أن ليس للإنسان إلا سعيه و ليس ما اكتسبه من أموال و الأولاد. فالسباق لابد أن يكون لفعل الخيرات و نيل العفو و المغفرة من الله ليخرج الإنسان من ضيق الدنيا و نكدها و كدحها إلى جنة لا حدود لها.

{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 

و علمنا بأن الدنيا زائلة يجعلنا غير هلوعين عند حدوث المصائب فطبيعة الدنيا زيادة و نقصان و هى دار بلاء و محن و لا تدوم ضاحكة لأحد. و كل حدث إنما هو مكتوب و مقدر فلا يبتئس الإنسان و يقول لو فعلت هذا لما حدثت المصيبة بل يؤمن بالله و ينيب إليه ليخفف عنه و يعوضه. و كذلك لا يبطر و يفرح فرحا شديدا يأخذ بلبه فيمشى مختالا متعاليا على الناس. و ربما دفعه الغرور إلى البخل معتقدا أن تلك الأموال و الرزق من جهده و حق خالص له ليس للفقير و لا للمسكين نصيب فيها. بل و يأمر غيره بعدم الإنفاق و الحرص على الأموال و حرمان السائلين من فضل الله الذى آتاهم. و إعراضهم هذا يعرضهم لغضب الله و نسيانهم و زوال النعمة بعد حين.

إن قاعدة أن كل مصيبة فى كتاب عند الله مكتوبة قبل حدوثها يجعلنا مطمئنين و راضيين بقضاء الله, و يخفف من صدمتها و لوعتها و البحث عن أسبابها و كيف كان يمكن تجنبها ، فالإنسان ضعيف لا يملك من أمره شيئأ مهما حرص ، و كل ما يمكنه هو الالتجاء إلى الله و الدعاء و التضرع له ليصرف عنه الشرور و سوء القضاء و يعينه على الصبر و الشكر.و هذا يقلل التلاوم بين الناس وقت حدوث المصيبة فكل يلقى بالمسئولية على الآخر لتزيد المشاحنات و تتفرق الهمم و يزيد الأثر المؤلم للأحداث. تحليل الأحداث مفيد و مطلوب و يجعلنا نتفادى الأخطاء ،لكن مع العلم بأن القدر هو المسيطر و أننا جميعا لن نفر من قدر الله فهذا يخفف من إحساس الندم و الأسى القاسى على النفس.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } 

و حياة المجتمعات لابد أن يحكمها نظام عادل . و تنبى معاملات الناس على أساس واضح و قوانين موزونة سواء فى المعاملات المالية أو المدنية و الأحكام بينهم. فكما أن الحديد مصدر القوة و البناء المادى للمجتمعات؛ فإن العدل و القسط هو أساس بقاءها و استمرارها. فالحديد وقت السلم للإنشاءات و المبانى و الآلات و المصانع. و وقت الحروب للدروع و آلات الحرب و الدفاع عن النفس. قضى الله أن يكون ذلك المعدن فيه بأس و قوة شديدة تفوق كل المعادن، و رغم قوته فهو ينفع الناس. و المؤمنون لابد أن يكونوا كذلك؛ أقوياء ذوو بأس شديد أمام العدو لكنهم رحماء فيما بينهم. و هذا التباين شأن الناس منهم من يهتدى و منهم من ينصرف عن الحق، منذ قديم الزمان حيث أرسل الله نوحا و ابراهيم أبا الأنبياء ، و بعد ذلك أتبعهم الله بعيسى ابن مريم. و جاء الحواريون ليصدقوا عيسى لكنهم ابتدعوا أنظمة و سننا لم يكتبها الله عليهم فضلوا ، فعلم الله من آمن منهم و أخلص و من استغل تلك الرهبانية فى الفسوق و المصالح الدنيوية.،و حاسب كلا منهم بما يستحق.

 } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {

تقوى الله تأتى بخير عظيم ، فقد وعد الله المؤمنين المتقين بنصيبين من الرحمة ، قد تكون جزءا فى الدنيا يستعينون بها على مشاق الحياة و تحمل البلوى  و المحن  و جزءا فى الآخرة ليغفر لهم و يدخلهم الجنة بسلام ، فيسعدوا فى الدنيا و الآخرة. و يميزهم بنور الإيمان يهديهم به و يضفى حول وجوهم هالة من البشر و الهيبة تحميهم من البطش و المذلة. و يكفى الإيمان و العبادات بإخلاص لنيل تلك الجوائز ، و ليس الرهبنة كما فعل أهل الكتاب ثم زعموا أنهم أبناء الله و أحبائه و لن يعذبهم أبدا. لكن فضل الله يختص الله به المؤمنين و ليس عشيرة أو فئة بعينها، و فضله يسع جميع الكائنات حسبما تقتضى حكمته و عدله. فسبحان الله القوى خالق القوة و المهيمن على كل الأمور و الحاكم فيها بالقسط، راحم الناس من عذاب النفس و الملامة و الأسى و فجيعة المصائب، مرشدهم إلى حقيقة الدنيا و متاعها الزائل، و الحمد لله على نوره الذى وهب قبسا منه للمؤمنين و هداهم إلى الحق المبين.

الأحد، 14 أغسطس 2016

تفسير سورة محمد



سميت سورة محمد بهذا الاسم لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: "وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" آية [2] .
و سميت أيضا سورة القتال لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها، كما تتناول أحكام الأسرى والغنائم وأحوال المنافقين ،و المحور الأساسى الذي تدور حوله السورة هو " الجهاد في سبيل الله ".

سورة محمد و تليها سورة الفتح، سورتان ذكر فيها اسم الرسول عليه الصلاة و السلام
ولم يذكر "محمد" باسمه في القرآن إلا أربع مرات، في سورة آل عمران: "وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ" [144]، وفي سورة الأحزاب: "ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ" [40]، وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" [29] . وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي.

سورة محمد  فيها آية "فاعلم أنه لا اله إلا الله" ، و سورة الفتح "محمد رسول الله" و بهذا تكتمل الشهادتان.


"  الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)"
"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ "(2)
إننا أمام جزاءين :محو السيئات و الغفران و إصلاح البال ، و إضلال العمل و الشقاء ،و الذى يحدد الجزاء هو اتباع الحق.
"ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ" (3)
فى الآيتين المتتاليتين 2و3  يأتى ذكر "الحق من ربهم" لتأكيد أن هذا هو السبيل الوحيد و لتثبيت المؤمنين.و يضرب الله الأمثال للناس ليحسنوا الاختيار عندما يرون عاقبة الطريقين.
"فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ "(4) " "سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ "(6)
ليس الإيمان بالكلام فقط ، لكنه يستلزم الكفاح و الجهاد، يظهر هذا فى وقت المحن حيث يصدق الفعل أو يكذب ما يدعيه الإنسان.
ووقت الحرب لابد من الشدة و التيقظ الشديد لأحوال العدو، و عدم التخاذل و الخوف ، و عندما تحمى المعركة و تبدو بشائر النصر، و يبدأ المحاربون فى أخذ الأسرى، عليهم إحكام الأسر حتى لا يتعرضوا للغدر و الهزيمة، و لهم أن يعفوا عن الأسرى أو يبادلوهم بأسرى مسلمين أو يفتدوهم بالمال حسب ظروف الحرب و ملابساتها. و هكذا حتى تهدأ الحرب و تبدأ الهدنة أو السلام، و ما أيسر أن ينصر الله المسلمين بدون حرب لكنه اختبار الثبات و حكمة الابتلاء و تمييز المسلمين عن المنافقين.
و هنيئا لمن استشهد فى سبيل الله فلن يضل الله عمله فهذا جزاء من صد عن سبيل الله، لكن سيهديهم إلى سبيل الجنة ، و لهم المكانة العليا و السعادة الأبدية، بعد أن غادروا الدنيا بصخبها و آلامها ، و "يصلح بالهم" و هل هناك صلاح بال أكثر من دخول الجنة و عدم حمل الهم مطلقا ، لقد أراد الله لهم السعادة و التكريم فأدخلهم الجنة و عرفها لهم، عرفهم منازلهم فيها و ما تحتويه من نعيم، تلك الجنة عرضها السموات و الأرض فلا تتسع آفاقهم لتستوعب أبعادها و لا تمتد أعينهم ليحيطوا بمساحتها.
و تعريف الله لهم الجنة يدل على حفاوته بهم و تكريمه سبحانه، ألا يدعو صاحب الدار ضيوفه لرؤية المنزل عند دخولهم أول مرة ليأنسوا بالمكان و يطمئنوا و يشعروا بالألفة و الراحة، و لله المثل الأعلى ، و هو أكرم الأكرمين و صاحب الفضل العظيم.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "(7)
"وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ "(8)
التعاسة مصاحبة لإضلال العمل ، عمل لكنه ليس فى محله ، يحدث بمشقة و لو كان ظاهره فائدة أو سعادة فهو يورث القلب التعاسة ..هكذا قضى الله من عاداه أشقاه و إن كان أغنى الناس و أوفرهم صحة.
"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" (9)
جريمتهم التى استحقوا عليها التعاسة و الضلال هى كراهية الإيمان و الاستقامة ،فهم لم يتقبلوا القرآن و لم يسمعوه و يتبعوه ربما لأنهم لا يحبون الالتزام أو لطمع دنيوى أو خشية المساواة مع الفقراء مكانة أو خوفا من فقدان مالهم بالإنفاق و الزكاة، وساوس الشر كثيرة فإذا صادفت نفسا ضعيفة تتبع هواها فستقودها إلى كره الحق و النفور منه.
"أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا" (10)
و التاريخ خير معلم ؛ نظرة صغيرة فى عواقب السالفين و جولة حول بلاد البائدين تنبئ بعواقب الضالين، قوم نوح ، قوم هود  و قوم لوط و قوم صالح ، فرعون و أتباعه، هلكوا شر هلاك، و استأصلهم كفرهم و عنادهم فخمدوا و انطمس ذكرهم. فالكافر يعيش بلا مولى يتولى أموره و يحميه و يرحمه.
"ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ" (11)
الكافرون يعيشون بلا مولى و لا راع، أما المؤمنون فالله يتولاهم و يهديهم و يرحمهم، يتولى أمورهم و يرشدهم و يعلمهم، المؤمن وليُّه الله يسدِّد خطاه و يؤدِّبه أحيانا و يضيِّق عليه و يجمعه مع أهل الحقِّ و يعتني به و يعاتبه و يثبّته و ينصره و يؤيّده و يرعاه و يحفظه، أما الكافر ليس له مولى، يمضى من خطأ إلى خطأ و من حمق إلى حمق و من مأساة إلا مأساة فلا يفيق من الجهل أبدا، و يظل شاردا هائما تابعا لهواه ..هذا هو الفرق بين المؤمن و الكافر.
"إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ" (12)
متعة المؤمن و طيبات الرزق الخالصة تكون فى الآخرة، فالطعام و الشراب ليس هدفا له و هو معتدل فى الانفاق على عكس الكافرين الذين اقتربت صفاتهم من صفات الأنعام و نزلوا عن صفات الإنسانية درجات حيث تركز همهم فى التمتع بلذات الدنيا و شهواتها كالأنعام لا عقل لها و لا تمييز، و حيث أنهم أذهبوا طيباتهم فى الحياة الدنيا بغير الحق و غفلوا عن الآخرة و العمل لها فالنار هى مصيرهم و مستقرهم.
"وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ "(13)
الله يعلم حزن الرسول على خروجه من مكة و تعلقه بها و حبه لها، فيواسيه سبحانه و يبشره بأن النصر قريب و أن هناك أقوام أشد و أقوى أهلكهم الله حينما أراد ، و لم ينفعهم اتحادهم و تحالفهم و هلكوا جميعا.
"أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ" (14)
ينتقل الحديث من الجماعة إلى الفرد، الذى عليه أن يفكر بعمق و يكون له رأيه الشخصى و بعيدا عن سياسة القطيع و اتباع الجماعة الأعمى.و تزيين سوء العمل يقوم به الشيطان فى رأس الإنسان أو من حوله من بشر مضلين فتدفعه تلك الوساوس إلى اتباع الهوى و فقدان الرشد و عمى القلب.
"مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ" (15)
هذا وصف الجنة ،فيها تختلف معايير فساد الطعام و أحجامه و خصائصه تماما عن الدنيا، و الوصف السائد هو الكثرة ، فالعطاء من الله غير محدود ؛انهار ماء صاف- أنهار لبن – أنهار خمرـ أنهار عسل مصفى ، الأكل دائم و الظل، كل شيء ينساب فى سكينة و صفاء مرحبا بأهل الجنة مضفيا عليهم النعيم و السعادة.
و قمة السعادة مغفرة الله و رضوانه ..قارن بين حال أصحاب الجنة الفرحين و حال الخالدين فى قعر جهنم يشربون الماء الحميم المغلى ليقطع أمعائهم بدلا من إروائهم.
"وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ "(17)
"السرحان" فى مجالس العلم آفة و من علامات السفه، فلماذا تكبد الانسان مشقة الذهاب إليها و أنفق وقته فى الطريق و الحضور إذا كانت الفائدة العائدة قليلة أو منعدمة، جاء للدرس حيثما قادته قدماه لكنه لم يكن له عزم و لا نية مخلصة ،و علاج هذا فى إعداد العقل و تهيئة النفس لتلقى العلم و الاستعانة بالله و تفريغ الرأس من الهموم و المشاغل الأخرى خلال وقت تلقى العلم.
و أعظم المجالس  و أجلها مجلس رسول الله، و التواجد معه نعمة و نكسب لابد من تقديره و الاستفادة منه، وكلام الرسول ليس ككلام الآخرين فكله حكمة و بلاغة و لا ينطق عن الهوى، فيستحق أن يحفظ فلا ينسى أبدا.
و للاستماع إلى مجالس شروط و آداب حتى يفتح الله للمستمع أبواب الفهم و يصيبه الخير ، فمن يجلس بجسمه فقط لن يفسح لشعاع النور أن يخترق رأسه، و من أمثال هؤلاء من تصفهم الآية، يجلسون فيفكرون فى أى شيء من متاع الدنيا، أو يمكرون و يلهيهم حديث النفس التافه، و تكون النتيجة خروجهم كما دخلوا، و لكيلا يظهروا بمظهر الأبله فإنهم يسألون أولى العلم الذين حضروا مثلهم عما قال الرسول ، يريدون الكلمات ملخصة لكى يرددوها تفاخرا دون أن تعيها قلوبهم.
و قوله تعالى "ماذا قال آنفا" -أى قريبا –فيها غاية الذم لهم، فالحديث القريب لم يمحه النسيان أو تطمسه الأحداث، لكن قلة عقلهم و سوء تقديرهم للأمور أعمتهم عن الحق و احترام شأن الرسول و كلماته.
 
"فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ "(18)
ماذا ينتظر الغافلون حتى يفيقوا ، متى يدركون أن الوقت قصير و الآجال محدودة، و علامات قيام الساعة تجلت و ظهرت ، و نهاية الإنسان قد تكون قريبة بالموت أو بقيام الساعة، فلستعد الإنسان قبل مفاجأة الموت و انقطاع العمل.
"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" (19)
"لا اله إلا الله"  أساس العقيدة و الإيمان، هى الكلمة العليا و خير ما قالها الرسول و النبيون ، و العلم بتوحيد الله يكون بعدة أمور : أعظمها تدبر أسماء الله الحسنى و  صفاته، و العلم بأنه وحده المنفرد بالنعم ظاهرة و باطنة ، و هو بيده مقاليد الأمور و المدبر لها، و أن الله شهد بتلك الشهادة و  الملائكة و أولو العلم.
و من علم عظمة الله تضخمت أمامه ذنوبه فهرع إلى الاستغفار و تضاءل ما يقدم من خير و عبادة أمام نعم الله، و استغفار الرسول للمؤمنين بركة و رحمة للمؤمنين و شفاعة لهم، و الأمر بالاستغفار للمؤمنين يشمل المؤمنين أنفسهم، فدعوة المسلم لأخيه بالغيب مجابة ، و الملائكة الأطهار بستغفرون للمؤمنين و لطلاب العلم، فتتكاثر الدعوات بالمغفرة بين المؤمنين يدعو بعضهم لبعض لعل أصداء تلك الدعوات تكون سببا فى نجاتهم و حسن عاقبتهم.
فالله شاهد علينا يعلم تصرفات و سكنات و حركات كل إنسان فى ترحاله و استقراره، و مراقبته تستدعى الاستغفار فى كل وقت و الاستحياء من ارتكاب المعاصى فى السر و العلن.
"وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ "(20)
"طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ۚ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ "(21)
حكمة الله تستدعى ألا نتعجل ما أخره الله، و لا نجزع عندما يقدر شيئا أو يأمرنا بتكاليف نراها شاقة كالجهاد، كان هناك فريق من المؤمنين يتعجل الأمر بالجهاد و يتمنى فرض القتال من شدة حماسهم أو من شدم ضجرهم و معاناتهم من تعنت المشركين و ظلمهم، و يتمنون لو أذن لهم بالدفاع عن دينهم و أمر الله الرسول بقتال المشركين، فتمنوا ذلك لكن عندما تحققت تلك الأمنية برزت مجموعة منهم و قد جحظت أعينهم من شدة الخوف، و هم ذوو القلوب المريضة التى تخشى الناس أكثر من حشيتها لله و ترى فى الجهاد موتا محققا و ابتلاءا عظيما.
و الأفضل لهم الطاعة و الرضا و الصبر على ما قدره الله و ما ينزله من أحكام، فذلك يعينهم على الطاعة و يسهل عليهم حياتهم، و لو صدقوا الاستعانة بالله لكان خيرا لهم فى وجوه كثيرة:
-          فالعبد ضعيف ناقص لا قدرة له على شيء إلا بمعونة الله فلا يطلب زيادة على ما هو مأمور به.
-          و ان الانسان إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ضعف عن العمل المطلوب به الآن و لم ينجح فى مهمته الحالية، لأن الهمة تركزت فى المستقبل ،و العمل يتبع الهمة...و بالتالى تضعف الهمة فى المستقبل بسبب تقصيره لاحقا.
-          العبد المؤمل للمستقبل مع كسله عن عمله فى الوقت الحاضر مغرور، يجزم بقدرته على كل ما يكلف من أمور مهما صعبت.
فلابد أن يجمع الإنسان همه و فكره و نشاطه فى الوقت الحاضر  و يؤديه حسب قدرته ، فإذا جاء وقت جديد و يوم جديد استقبله بنشاط و همة مستعينا بالله فهذا يؤدى إلى التوفيق فى جميع أموره.
"فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ" (22)
تحذير لمن تسول له نفسه الرجوع و الإعراض عن طاعة الله، فان عاقبة هذا أن تموت روح الإيمان فيه و ينعدم الضمير و ينتشر الفساد فى الأرض و تنعدم الرحمة حتى بين الأسرة الواحدة و الأقارب، ربما تعلل أحد أنه تخلف عن الجهاد لأنه يترك أسرته بلا عائل أو رجل يحميها،  لكن مصير المجتمع الذى يتهرب أبناؤه من الجهاد أن ينهزم و تصغر نفوسهم و تنعدم المروءة بينهم ، و ينقطع الخير و الروابط بين الأهل، و الأهل الذين خاف الرجال أن يتركوهم و يذهبوا للجهاد سوف فيعيشون فى قطيعة و تفرق و ربما عداء.
"أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ" (23)
و هؤلاء المفسدون يلعنهم الله و يحكم عليهم باستمرار الضلال، و يتركهم لأنفسهم تقودهم إلى الهلاك ، و لا يسمعون الحق سماع قبول و فهم، لكن سماع تقوم به الحجة عليهم إذ سمعوا و عصوا.
"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا "(24)
القرآن مبهر و مؤثر، لكن قلوب المعاندين لا تلين يضعون حولها الأقفال الصدئة حتى تظل على ضلالها الذى ألفته و راحتها الدنيوية التى اعتادتها فرفضت التغيير و التنوير.
على قلوب "أقفالها" -  و ليس "قفلها"- لأن لكل قلب قفل خاص، و لكل قفل مفتاح مختلف لفكه، و استمالات معينة تتمكن من الوصول للقلب و اقناعه و اقتلاع الشر الذى بداخله.
إن تلك الأقفال تجعل القلب مغلقا على ما فيه فيظل على جهله و ظلامه و لا يدخله الإيمان مهما اشتدت مطارق التخويف لتكسر القفل ،أو حاولت رسائل الترغيب تليين صلابته.،إن حجب النفس عن تلقى الهداية ثمن فادح للعناد و التكبر، فلماذا لا يجعل الإنسان قلبه رقيقا مستقبلا لأشعة الإيمان و نور القرآن.
"إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ" (25)
"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ" (26)
"فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ" (27)
"ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ "(28)
من أشرقت نفسه بنور الإيمان لم يجعل الدين عرضة للمجاملات أو التجزئة، أما هؤلاء المنافقون فقد وعدوا فريقا ممن كرهوا الحق أن يطيعوهم و ينصروهم فى أمور معينة ، و الله يعلم هذه الأسرار و لذا كان العقاب أليما، و هو من جنس العمل ، فقد اعطوا الدين ظهروهم و ولوا فتلقفتهم الملائكة عند الوفاة و الحساب تضربهم فى كل اتجاه ، فقد فسدت عقيدتهم إلى الحد الذى كرهوا فيه رضوان الله مخالفة للفطرة السوية السليمة، و اتبعوا سبيل الشيطان.
"أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ" (29)
"وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" (30)
لغة الجسد لا تخطئ ، و مهما جاهد الإنسان لإخفاء بواطنه لكن حركاته و ملامح وجهه و طبقة صوته تفضحه و تشى به.
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ "(31)
"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ" (32)
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" (33)
و إبطال العمل يأتى من عدم إخلاص النية ، فالعمل يفسده الإعجاب و الفخر و السمعة ، كما أن المعاصى تقتطع من الحسنات و يقل ثواب الأعمال.



"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ "(34)
"فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ" (35)
لا تدعوا للسلم طلبا للراحة أو هروبا من العدو و خوفا من مخاطر القتال، فترضون بهوانكم و مذلتكم ، و ذلك لوجود أركان ثلاثة للقوة مع المؤمنين: اولها أنهم هم الأعلون كما قدر الله أن تكون كلمته هى العليا ، و الثانى أن الله معهم ، و كفى به وليا ناصرا ، و الثالث أن الله لن ينقص من أعمالهم شيئا و سيوفيهم أجورهم كاملة و زيادة.
و لهذه الأسباب عليهم بالصبر و عدم الوهن و تقوية النفس و عدم الاستسلام.
"إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ" (36)
هذه هى حقيقة الدنيا التى ذكرها الله فى آيات كثيرة "لعب و لهو" لعب فى الأبدان و لهو فى القلوب ، و لا يزال العبد لاهيا فى كل عمل لا فائدة منه و دائر بين ملذات الدنيا يقتنص منها ما يستطيع حتى يأتيه اليقين و تستكمل دنياه و يحين الأجل.
و ليس معنى الإيمان أن يتخلى المؤمن عن كل ماله بل أن الله رازقه يعظم له أجره و يبارك له فى رزقه ، و يعطيه أضعاف ما يدفع من زكاة أو صدقة و هو قدر قليل من ماله يطهره و يزكيه.
"إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ" (37)
تلاصق الضمائر فى "يسألكموها"؛ ضمير المخاطب و ضمير الغائب العائد على الأموال، يعكس التصاق الناس بأموالهم و حرصهم عليها ، و خوفهم عند تناقصها ، فلا يستطيعون إخفاء استيائهم إذا طلبت منهم كلها أو جزء كبير منها.
"هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ۖ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (38)
و اختبار لهم فإن الفرصة أمامهم لبذل المال فى سبيل الله ، و بهذا يتحقق ما يدعوه من إيمان أو يكذب ، و من يبخل إنما يحرم نفسه من الخير و الغنى، فإذا أعرضوا فليسوا بذى شأن عند الله ما أيسر أن يبيدهم و يأتى بقوم مؤمنين ليسوا على شاكلتهم من العناد و الكفر و البخل، و ذلك بكلمة منه "كن فيكون"، فليتضرعوا إلى الله القوى ذى الجاه كى ينالوا عفوه و رضاه.

الخاتمة:
تهيمن روح التهديد على السورة بأكملها ، فهى تبدأ "بالذين كفروا" و تنتهى بامكانية استبدالهم بمن ليسوا مثلهم فى الكفر و العناد.

و تعرض عقوبة التخلف عن الجهاد و الارتداد عن الدين و عدم الانصات لحديث الرسول و البخل بالمال ، و يخوفهم بعقوبات إضلال العمل و انتشار الفساد و تقطيع الأرحام و القضاء عليهم و خمود ذكرهم.

و تقارن بين حال المؤمنين فى سعادتهم و راحة بالهم فى الدنيا و تعريف الله لهم الجنة و التمتع بنعيمها فى الآخرة، و بين حال الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله إضلال و غلق قلبه على الكفر و اظهار بخلهم و عيوبهم و الخلود فى النار مقطعة أمعاؤهم من شرب الحميم.
و لو نظرنا إلى نهايات الآيات نجد فيها نهايات شديدة القوة : بها ضمير الغائب أحيانا و تتبادل مع ضمير المتكلم فى أحيان أخرى
أعمالهم – بالهم – لهم - أعمالهم – لهم – أمعاءهم – أهواءهم – تقواهم – ذكراهم
مثواكم – أرحامكم – أبصاركم – أعمالكم – أخباركم

أعمالهم – أعمالكم – لهم – أعمالكم – أموالكم – أضغانكم – أمثالكم.
و يُكسر هذا الجناس اللفظى مرتان : (أمثالها – أقفالها) لتلقت انتباه القارئ و تنوع من تتابع الضمائر المتصلة

و إن غليت الشدة فى سورة "محمد" فإن سورة الفتح تغلب عليها الأمل فى النصر و التبشير به مكافأة للرسول و المؤمنين معه ، و تشمل الثناء عليهم و على من بايعوا الرسول ، و تشبيههم بالزرع الجميل.